إن المسيرة التقدمية للحضارة التي توصلت إليها البشرية، لم تحصل عن طريق الصدفة، بل كانت ثمرة إعداد بطيء إستمر خلال قرون خلت، حيث ساهمت الإنسانيات القديمة جميعها في إنتاج هذه الحضارة.
الإنسانيات القديمة، أيضاً، أيدت جهود رجال الفكر وجهود القوى الشعبية، كما أيدها تطلع الإنسان إلى العدالة ولم يقف عند حدود إثارة الغاضبين والبؤساء في مراحل مختلفة من تاريخ البشرية، فلقد حدَّثنا التاريخ عن تعاقب عصور بشرية متنوعة على الإنسانية، كانت الغلبة فيها أحياناً للبربرية، كما حصل عندما إنتصرت على الحضارة الإغريقية الرومانية.
هكذا، لا تعدو الحقيقة في شيء إذا قلنا عن اللُحمة البشرية منذ عصر الكهوف إلى عصر العلم والآلات أنها تاريخ تقدم في مجالات العقل والعدل والأخوة وقيمة الإنسان ككل، ولا يوجد مبرر لإعتبار الماضي أفضل من الحاضر وأن التطور وقف عند درجة واحدة بعينها، وقف عندها التاريخ بحسب إعتقاد البعض.
إذا، كان هنالك من يعتقد أن الماضي خير من الحاضر وأن البشرية تتراجع، فما عليه إلا أن يقلب صفحات التاريخ ليجد بوضوح أن تاريخ البشرية هو تاريخ يشير إلى التقدم وليس إلى الرجعية، وما تحقق خلال القرن العشرين، على سبيل المثال في مجالات الحياة، أكد أن الروح الإنسانية، حتى مع كل ما يلوح من مآسٍ، قد أدركت على الأقل النظام الأخوي الذي إستخدم العقل وسخَّر الطبيعة لخير الإنسان، وفتح باب الأمل لمستقبل أفضل، رغم العراقيل الكثيرة، وأظهرت رجال مثاليين مضحين في سبيل العلم والتقدم والعدل، فأمثالهم نجدهم في كل زمان ومكان يدفعون بالإنسانية وحقوقها نحو الخير.
معالم تطور “دولة القانون”
لم يكن للإعلان العالمي حقوق الإنسان في الأصل قيمة قانونية بالمعنى الملزم، ولم يدخل هذا الإعلان بما ذكره من حقوق الإنسان في القانون فعلاً إلا بعد أن تم تكريسه في صلب الدستور والقانون الوضعية. فلقد أدمج مضمون الإعلان في فرنسا على الأقل، في جزء منه، أبان عهد الإمبراطورية الخامسة ضمن القانون الوضعي، وحصل من ذلك تداخل في نصوص ذات قيمة مختلفة، كانت مكرسة لحريات عامة متنوعة. لكن قبل ذلك لا بد من التأكيد أنه حيثما تنشأ السلطة وتنظم بواسطة القوانين العامة، تقل فرصة ممارسات الإستبداد خاصة لأصحاب سلطات الحكم.
لقد أصبحت علاقة الدولة الحديثة بالقانون علاقة وثيقة، ولم يعد القانون يعتبر كجمع لأحكام قانونية مألوفة ومستنبطة من أشكال قديمة، بل أصبح القانون الحديث عبارة عن مجموعة قواعد موضوعية وأحكام تتسم بالإرادة الصادرة عن الدولة؛ بمعنى أدق، أصبحت قانوناً وضعياً تضفي عليه الدولة صفة الشرعية وفيه تتحقق علاقة وثيقة التطابق بين الدولة والقانون.
إذاً، كان القانون الوضعي في المقام الأول عرضة للتغيير والتبديل على ضوء الأحداث المتجددة، وكانت الدولة الحديثة مهمتها الحفاظ على المكانة الإجتماعية الخاصة والحفاظ على الحقوق المكتسبة وحمايتها وحماية بعض الحقوق الهامة بنص دستوري، في ضوء صعوبة تغيير الدساتير. أيضاً، يعتبر من مهام الدولة الحديثة تخصيص الفرد حقوق عامة متصلة بإمتيازات سياسية للأفراد، كحرية الكلام والرأي والإعتقاد وما شابه ذلك.
لقد أصبح لهذه الحقوق مضامين أكثر إيجابية من المضمون السلبي الذي يلزم سلطة الدولة بسن القوانين، وقد نشأت هذه الأهمية من معنى إلتزام الدولة قانونياً بقوانينها، وأن عليها أن تحترم بعض الحقوق المعينة للمواطن، وبذلك أصبح هناك صرح مؤسساتي يحكمه القانون ويتغير تبعاً للتطورات الإجتماعية والعلمية والحضارية.
نظرة إلى الدستور
إن أكثر الدول تشير في دساتيرها والقوانين التي تحكم بموجبها إلى تكريس عدد من الحريات بشكل صريح بل وحتى الدول التي ترفع شعار الدين في نظامها، نلمس من خلال النصوص الدينية ما يشير إلى هذه الحريات.
نادراً ما نجد من ينظر، في القرن الحالي أو السابق، إلى إعتبار الدولة عدوة الحرية بل على العكس من ذلك. إن الأغلبية الساحقة منهم، يعتبرون الدولة مصدر الحرية المسموح بها في مواجهة الأزمات التي تلاحق المجتمع الحديث.
*كاتب ومفكر – الكويت.
مصدر الصورة: العربي الجديد.
موضوع ذا صلة: العبور من القانون الطبيعي إلى القانون الوضعي