إعداد: مركز سيتا
منذ سنين ومسلسل إنتحار رجال الشرطة ما زال مستمراً في فرنسا، حيث تشير العديد من الدراسات إلى هذه المسألة بشكل لافت وتقوم الكثير من مراكز الأبحاث الخاصة البحث عن أسبابها محاولة فهم ماذا يحصل داخل مراكز الشرطة ولماذا ينتحر رجال الأمن الفرنسيين الواحد تلوى الأخر.
في هذا السياق صدر مؤخراً كتاب للصحفي فالنتين غندورات، الذي تسلل لمدة سنتين إلى صفوف الشرطة، بعنوان فليك – Flic ما يعني، باللغة العامية وبتعبير سلبي، “شرطي”. يركز الكاتب فيه على الموضوع من جوانب عدة أبرزها عنف وأخطاء الشرطة، وعنصريتهم، وكلفة تدريبهم المنخفضة، وظروف العمل السيئة.
في تفصيل لما سبق، يطلعنا غندورات على العنف اللفظي والجسدي من قبل رجال الشرطة تجاه المواطنين الفرنسيين، وبشكل خاص تجاه المواطنون أصحاب البشرة السمراء أو العرب والمهاجرين؛ أيضاً، يروي الكاتب عن سوء ظروف العمل ومدى قساوتها، بالإضافة إلى النقص في عدد الموظفين، وساعات العمل المتقطعة، والأجور غير المستقرة، والمباني المتداعية، وعداء السكان تجاه رجال الأمن هؤلاء. كل هذه العوامل تؤدي ببعضهم إلى الإنتحار.
أعداد كبيرة
حسب تقرير نشرته Check news الفرنسية، إنتحر 71 شرطياً في العام 1996، و59 في العام 1998، و55 العام 2014، و54 في العام 2019. وبين عامي 1993 و2018، كان هناك إمرأة من بين كل 10 منتحرين.
في يونيو/حزيران 2018، حذرت لجنة تحقيق تابعة لمجلس الشيوخ، مكرسة لحالة قوى الأمن الداخلي، في تقرير لها من معدل الإنتحار المرتفع “بشكل غير طبيعي ضمن الرتب.” وضمن محاولة لتفسير الإنزعاج العميق للمهنة، يشير التقرير إلى “صعوبات خاصة بقوى الأمن الداخلي، مثل الإقتراب من الموت، وتغيير إيقاعات العمل، أو حتى ثقل التسلسل الهرمي.”
لقد كان الدافع وراء إنشاء اللجنة هو وجود 14 حالة إنتحار لكل 100 ألف نسمة، ولقد إرتفع هذا المعدل على مدى السنوات العشر الماضية ليصبح 25 من قوات الدرك و29 من قوات الشرطة. ومنذ بداية عام 2020، إنتحر 16 رجل أمن.
عوامل كثيرة
من هنا، قامت الشرطة بإنشاء صفحة مختصة على موقع “فايسبوك” تساعد أولئك المعرضين لخطر الإنتحار. لكن بحسب المعلومات التي نشرتها صحيفة “لوفيغارو” المحلية، إن الفترة ما بين 28 – 30 سبتمبر/أيلول 2019، تلقت خلية الطوارئ في الشرطة حوالي 300 إتصال لرجال أمن يمرون بظروف صعبة ويفكرون جدياً بالإنتحار قبل أن يرتفع العدد إلى 6 آلاف.
بالإضافة إلى ما سبق، يشكل الذكور حوالي 80% من عديد الشرطة، ما يؤثر سلباً على ثقافة الشرطة ككل. من هنا، يرى بعض المراقبين بأن هذه المسألة تمنع هؤلاء العناصر من التعبير عن مشاعرهم وإحساسيهم ما يزيد من نسبة الإكتئاب بينهم.
أيضاً، يعبر أحد ضباط الشرطة، الذي خضع للعديد من الخدمات في “إيل دو فرانس”، بالقول “إنه عالم يصعب فيه الحديث عن نقاط ضعفك. إذا ظهرت عليك علامات ضعف، فإننا لن نذهب معك في المهمة. لذلك، من الصعب عليك التحدث سواء في العمل أو المنزل. وبدون وجود أي حل، يمكن أن يشكل الإنتحار حلاً.”
خيبة أمل
في السنوات الأخيرة وخصوصاً بعد العمليات الإرهابية التي ضربت فرنسا، تحول رجال الشرطة من “أبطال” قوميين إلى “أعداء”، ولقد ظهر ذلك جلياً خلال تظاهرات حركة “السترات الصفراء” حيث بالغوا في تنفيذ الأموار وإستخدموا العنف المفرط وغير المنطقي ما عمَّق شعور العداء هذا.
“العمل لم يعد حلماً”. بهذه العبارة لخَّص إيف لوفيفر، الأمين العام للشرطة الفرنسية لقناة BFM TV، الحالة إذ أن الشرطي أصبح “مهمشاً داخل المجتمع”. غالباً ما تكون الحياة اليومية لرجال الشرطة مصحوبة بخيبة أمل، إذ يصرح بعض رجال الشرطة أنهم دخلوا هذا السلك من أجل خدمة الناس أو لتفكيك الشبكات الإجرامية، لكن ليس لقمع وضرب المواطنين.
وفي أوائل أبريل/نيسان 2020، تم إجراء إستطلاع للرأي كات نتائجه أن 76% من الفرنسيين ما زالوا يثقون بالشرطة الوطنية، وهذه النسبة تعد أقل بكثير من مثيلاتها في الدول الأوروبية الأخرى.
إنعدام الحياة الإجتماعية
“لا يمكن الإستمرار في العيش لمدة عشر سنوات كزوجين والحصول على عطلة نهاية أسبوع واحدة فقط كل ثلاث أو أربعة أشهر”، هذا ما يقوله غيوم ليبو، رئيس تعبئة الشرطة الغاضبة. لقد أصبحت الحياة الأسرية شبه معدومة، وهذا يؤثر على الحياة الشخصية لرجال الشرطة، كما أن معدلات الطلاق باتت عالية جداً بسبب ساعات العمل الزائدة، كحقبة السترات الصفراء على سبيل المثال.
أيضاً، يرى رجال الشرطة اليوم عدم وجود حياة إجتماعية فعلية لهم مع ثبوت في الرواتب. يعود ذلك إلى العديد من العوامل أبرزها زيادة ساعات العمل بشكل مكثف خلال السنوات الأخيرة مع تصاعد العمليات الإرهابية، وتفاقم مسألة الهجرة غير الشرعية، والتظاهرات المختلفة. من هنا، تؤكد بعض المصادر على موجب قيام الدولة بدفع 275 مليون لهؤلاء مقابل ساعات العمل الإضافية تلك. وهذا الأمر دفع بكريستوف روجيت، من إتحاد مسؤولي الأمن الداخلي، للقول بأن “فرنسا لا تحترم قواعد المحكمة الأوروبية لجهة حقوق الإنسان، مثل الإستراحة لمدة 11 ساعة بين يومي عمل”.
في مطلق الأحوال، هناك شعور كبير بالحرمان. ولذلك، تبذل نقابات الشرطة، ومعها العديد من المراكز المتخصصة، كل ما في وسعها لتجنب الأسوأ. لكن الطريق ما يزال طويل وسيكون شبه مستحيل إن لم يكون يتم وضع سياسة واضحة وفعالة من قبل الدولة الفرنسية تجاه رجال الأمن، بشكل عام، ورجال الشرطة، بشكل خاص، لا تكون مبنية فقط على المسألة المادية، فالمكافأة المالية ليست بكافية. بعض النقود لا تغير من الحالة النفسية لرجال الشرطة في شيء، ولا حتى في مسار حياتهم المهنية أو الشخصية.
مصدر الصور: يورو نيوز – يورو تايمز.
موضوع ذا صلة: فرنسا و”التحديات الصفراء”