ألبرت بوراس ريوس*

في 15 أكتور/تشرين الأول 2014، تم تسليم ميزانيات كل الدول التي تشكل منطقة اليورو. تسببت البيانات الإقتصادية التي تم تقديمها في ضربة كبيرة للبورصات الرئيسية حول العالم. وتعتبر تلك البيانات من أعراض الركود الإقتصادي ودليلاً على عدم وجود إنسجام سياسي في أوروبا.

تعتبر هذه البيانات، التي تركز على العجز والدين العام، إحدى الطرق، سواء كانت الأفضل أو الأسوأ، للنظر السياسات المالية للدول الأعضاء. يفرض ميثاق الإستقرار والنمو، الذي صادق عليه المجلس الأوروبي العام 1997، خارطة طريق على الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي.

تعود هذه المعاهدات الأوروبية بالفائدة على مصالح ألمانيا، خاصة فيما يتعلق بالسياسة النقدية. لكن فرض سياسة صارمة “على الطريقة الألمانية”، لا يعني بالضرورة أنها ستنجح في منطقة أخرى. ومع ذلك، فإن النموذج الألماني الذي كان يبدو مثالياً في نظر المؤسسات والدول الأعضاء والمواطنين، بدأ يضعف نوعاً ما، وهذا ما تعكسه حالة الإنكماش في الإقتصاد الألماني، والتي تقدر بحوالي 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي، مما قد يؤدي إلى تغيرات جيو – سياسية كبيرة في منطقة اليورو.

تعد فرنسا المثال الأبرز على مزاحمة النموذج الألماني الصارم. وخلال التصويت القادم 2021، يمكن للمفوضية الأوروبية أن تفرض عقوبات على الحكومات التي لا تمتثل لإتفاقية العام 1997.

في النهاية، تسعى ألمانيا إلى ضمان صرامة الإتحاد الأوروبي، لا سيما في مجال الميزانية، مما يعطيها مسؤولية كبيرة. كما قد يعيد نموذجها الإقتصادي، أو نموذج آخر بديل، تشكيل الواقع الإقتصادي الإقليمي.

النموذج المهيمن

في الجغرافيا السياسية، تعتبر النماذج الإقتصادية بمثابة إستراتيجية إقليمية لنظام إقتصادي متكامل، حيث تحاول جهات فاعلة أن تقنع أو تفرض على دول أخرى رؤية معينة للإقتصاد، وبالتالي للمجتمع. في هذه الحالة، يتم بناء الإستراتيجيات الإقتصادية ضمن إرادة فرض السيطرة بالقوة الإقتصادية وليس بقوة عسكرية على دول أخرى في إطار العولمة. يشبه هذا التنافس “الآثار الكارثية للشراكة التجارية والإستثمارية العابرة للأطلسي”، وهو ما أطلق أستاذ العلوم السياسية جوزيف صموئيل ناي “القوة الناعمة”.

من هذه الزاوية، تصبح الدول “مفترسة اقتصادياً” من أجل المحافظة على مكاسبها النسبية. تستفيد الدولة “المعتدية” من دخل اقتصادي كبير إذا تمكنت من أن تفرض نموذجها على الدول الأخرى، مما يضمن، في الإتجاه الصعودي، قدرتها على العمل كمحور مركزي. وهكذا، في ظل تفسير إختزالي إلى حد ما، نتحرك نحو إنشاء دول مركزية وأخرى على الهامش.

سعت ألمانيا لتصبح مصنع أوروبا وجزءاً مهماً من عملية التصنيع عالمياً. ويكمن ثقل ألمانيا في تأثيرها على القوانين والسياسات النقدية الأوروبية.

تتفق الجهات الفاعلة في الدولة على طريقة تسيير الأمور بما يعزز هيمنتها وقدرتها على الحصول على المزيد من المكاسب الرأسمالية؛ وبالتالي، فإن ما يسميه إيمانويل والرشتاين بالإقتصاد العالمي، الذي سيصبح في هذه الحالة الإقتصاد العالمي الرأسمالي، يشبه كثيراً عملية تجسيد نموذج إقتصادي متفوق على الآخرين.

بشكل عام، سوف تبلور العولمة رؤية واحدة أو أكثر، أي ستكون الرؤية الأمريكية المهيمنة والدول الأوروبية التابعة لها، ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، بمثابة المعايير الكبرى. وتتنافس هذه الدول الأوروبية، وخاصة فرنسا وألمانيا، من أجل مستقبل النموذج الأوروبي وكل طرف يرغب في أن يترك بصمته. عادة ما يُنظر إلى ألمانيا على أنها مركز أوروبا مع وجود تابع قوي لها وهي فرنسا. على العكس من ذلك، ترى فرنسا أوروبا بقيادة ثنائية، وتحاول تأكيد سلطتها السياسية من أجل ذلك، ولكنها ربما ما زالت تفتقد إلى نفس الثقل الألماني في الوقت الحالي.

التنافس بين ألمانيا وفرنسا

يندرج النموذج الإقتصادي الألماني ضمن تيار ظهر في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي يسمى “الليبرالية المنظمة” أو “إقتصاد السوق الإجتماعي”. ويعد هذا النوع من الإقتصاد مساحة تضع فيها الدولة نظاماً محدداً للقواعد العامة ليتم تطبيقها، ثم تكريس مبدأ المنافسة الحرة في السوق لصالح الشركات. وتطبق معظم الدول الأوروبية هذا النموذج الإقتصادي بدرجات متفاوتة. يعمل نموذج الليبرالية المنظمة بشكل جيد للغاية في ألمانيا. وبناء عليه، تسعى الدولة الألمانية، بسياستها القائمة على تصدير المنتجات الصناعية ذات القيمة المضافة العالية، إلى تعزيز مكانتها المهيمنة على حساب الدول الأخرى.

أما النموذج الفرنسي، فهو عبارة عن إقتصاد إجتماعي أكثر إنضباطاً وتسييساً. بعبارة أخرى، هو نموذج ليبرالي يضمن فيه تدخل الدولة نموا أكبر مما حدث في ألمانيا.

ومع ذلك، يجر ثقل ألمانيا، بشكل مباشر أو غير مباشر، فرنسا وجميع البلدان الأخرى لتنفيذ سياسات صارمة في الميزانية وإعادة هيكلة السوق.

ما هي عواقب عدم التضامن الأوروبي؟

كما ذكرنا سابقاً، تعد النماذج الإقتصادية بمثابة إستراتيجيات تمثل في النهاية مصدر دخل للمجتمع. أدى التقشف الألماني والأوروبي القسري إلى كسر الرفاهية الإقتصادية في بعض الدول الأوروبية. وقد تم تفعيل هذا النموذج في جميع أنحاء أوروبا تقريباً.

يظهر ذلك بوضوح في إسبانيا، حيث إنخرطت حكومة ماريانو راخوي المحافظة بقوة في تنفيذ إجراءات التقشف. ولعل المشكلة في رأينا، لا تكمن في السعي إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي، بل في تكيف هذا النموذج مع حاجة المجتمع للخدمات الصحية والإسكان والعمل اللائق.

إذا نجحت ألمانيا في فرض نموذجها الإقتصادي، على الدول الأوروبية الأخرى، فإن هيمنتها تظل أقل وضوحاً من الناحية السياسية في ظل الضغوط التي تمارسها فرنسا، بدعم من إيطاليا التي تستضيف الرئاسة نصف السنوية لمجلس الإتحاد الأوروبي، الأمر الذي يدعو مؤسسات مثل البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي لتتخذ مواقف غير قطعية. في الواقع، تطرح الرؤية الألمانية الموحدة أعباء كبرى لإعادة إطلاق إقتصاد الإتحاد الأوروبي.

المصدر: بسيكولوخيا إي منتي نقلاً عن نون بوست

مصدر الصور: الإتحاد – راديو فرنسا الدولي.

موضوع ذا صلة: بعد “كورونا”.. هل ستغرق أوروبا في الفوضى؟