ماسيمو غينتروسكي*

إن الركود الإقتصادي الناجم عن وباء “كورونا” أمر لا مفر منه؛ وعلى الرغم من أننا إعتدنا على الأزمات لأنها ناتجة عن نظام عالمي قائم على نموذج إقتصادي، إلا أن هذا النموذج بدأ بشكل مختلف كثيراً عما سبقه. بالنظر إلى النموذج الأخير والذي وصل إلى ذروته في العامين 2007 – 2009، يمكننا التمييز بين عنصرين مميزين مفقودين ضمن ما يسمى بـ “الأزمة مزمنة” وهما مركز الأزمة، أي الولايات المتحدة، وموضوع الأزمة، أي سوق العقارات. إن ما يحدث اليوم، على الرغم من توقعه، لا يعطي صورة واضحة عن مكان الأزمة أو النشاطات التي سيؤثر عليها هذا الركود، في حين أن هناك بعض الصناعات التي لن تتأثر بالأزمة، في المرحلة الأولى على الأقل، كالأسواق الطبية والصيدلانية والعلاجية.

يمكن أن عواقب الإنهيارات التي ستحدث اليوم أكثر بكثير من التي حدثت ضمن العقد الماضي؛ فالعالم الذي لم يتعاف بعد تماماً من الأزمات السابقة، لا يعرف ماذا يجب عليه إنقاذه في المقام الأول. لهذا السبب، تم وضع جميع الوسائل المتاحة في البداية من أجل أن تكون عملية الإنقاذ مبكرة على قدر الإمكان. من هنا، تتسابق الدول، من الشرق إلى الغرب، وبنوكها المركزية غلى تحديد كمية الأموال “الضخمة” التي يتعين عليهم ضخها في إقتصاداتها؛ بالتالي، إن تخفيف السياسة النقدية والأدوات الأخرى ستجلب مليارات الدولارات، وليس الملايين. على المدى الطويل، سيكون لذلك عواقب على النظام المحلي، وربما العالمي.

هل تتجه أوروبا نحو الإستبداد؟

يمكن أن تكون آثار الإنهيار التي سببتها الإقتصادات الخاملة أكبر بكثير مما نعتقد، فهناك سببان لذلك؛ السبب الأول، هيكلي، أما السبب الثاني فجيو – سياسي.

يبدو أن السبب الهيكلي أقل وضوحاً، لكن لا قيمة له، ومن الجيد قياسه على بعض البلدان التي توشك بالفعل على الإفلاس، مثل إيطاليا أو إسبانيا، اللتان تعانيان ليس فقط اقتصادياً بل من الإنقسامات السياسية العميقة أيضاً. لذلك، لا يمكننا التكهن فيما إذا كانت هذه البلدان قادرة على الحفاظ على وضع مستقر أم لا. على سبيل المثال، قد يزداد التمرد في شمال إيطاليا إذا ما إستمر جنوبها بإستغلاله. في إسبانيا أيضاً، كنا نراقب منذ عدة سنوات نشاطاً متزايداً للقوى التي تطالب بإستقلال كاتالونيا.

إن زيادة العبء المالي ستؤدي إلى تعميق المزاج الإستقلالي المحفّز بالفعل. بفي الوضع الطبيعي، ستفضل الأزمة القوي، وسيخسر الضعيف. في هذه الحالة، ستواجه البلدان المذكورة أعلاه، والتي تعاني من وضع غير مستقر بالفعل، العديد من المواقف الصعبة عند البحث في الإنقسامات الإجماعية الناشئة. فعلى الرغم من أن الأزمة المالية قد أغرقت اليونان، ولكن ليس لأثينا ما يكفي من التوترات داخل المجتمع لإحداث تغيير إجتماعي واضح. فالانجراف نحو “الإستهلاكية” عزز خيارات “أوروبا التحررية” و”عالم التحرر” كي يتمكنوا من التعلق طوق النجاة. في هذه الحالة، ستنتهي أزمة خطيرة بإفلاس الولايات من خلال السيناريوهات التالية:

– سيتعزز موقف الحكومتين الإسبانية أو الإيطالية المحتملة، شريطة أن تحكمها يد إستبدادية قوية، بإستخدام الشرطة والجيش؛

– ستتفكك البلدان التي تعيش في حالة من الفوضى إلى مناطق حكم ذاتي؛

– سيتمكن خيار “أوروبا التحررية” من الحفاظ على الوضع الراهن عن طريق ضخ أموال إضافية والإبقاء على النزعة الإستهلاكية، الأمر الذي أدى إلى إخماد الحملات الثورية حتى الآن.

ومع ذلك، يبدو أن الخيار الأخير أمامه عقبة جيو – إقتصادية لأنه لا يمكن الإعتماد فقط على الوضع الداخلي لهذه البلدان.

في المرحلة الأولى، بدا أن “الأنا” الوطنية، المخفية حتى الآن تحت عباءة الديماغوجية، عادت إلى الظهور. إن ضعف التضامن بين دول الإتحاد الأوروبي، بتوزيع المعدات الطبية وإغلاق الحدود دون إعلانات وإتفاقيات مسبقة في بروكسل، ألقت الضوء على مسألة إختفاء التضامن فيما بين الدول الأعضاء، كما بدأ صانعو القرار أيضاً بتضخيم الوضع الأمر الذي ساهم في تطور الوباء. في المقابل، أشادت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، علناً ببادرة التضامن “غير الإعتيادية” في كل من بولندا ورومانيا.

من هنا، يبدو أن الوضع بدأ بالتعافي، إلا أنه يقع على نفس القادة مواجهة مشاكل أخرى قد تكون جزءاً لا مفر منه من صناعة القرار في السنوات القادمة.

إحدى هذه المشاكل هي قرار الإفراج عن سندات اليورو، التي تطالب بها دول الجنوب، وقبل كل شيء الإيطاليون. تعارض هولندا قضية سندات اليورو، وألمانيا أيضاً التي تعتبر “مفتاح” هذا النزاع وغير المحبذة للفكرة. من المفترض أن تصل حزمة المساعدات دخل الإتحاد إلى 500 مليار يورو؛ ولكن مع وجود سيناريوهات مختلفة، يمكن للدول أن تضع نفسها ضمن قيود ذاتية، وبدلاً من العمل معاً “تطلق النار على بعضها البعض”. ذلك، يمكن القول بأن الإنفعال سيزداد مع مرور الوقت، وقد تضر بشكل خطير بوحدة المشروع النقدي الأوروبي.

كما يمكن للشعور بالظلم، أيضاً، تعزيز التوترات. الموجة الأولى من حالات الإفلاس باتت متخلِّفة عنا بالفعل، لكن المزيد بإنتظارنا. من هنا، تتنبأ منظمة التجارة العالمية بأن قطاع التجارة وحده يمكن أن ينكمش بنسبة تصل إلى 32%. في نفس التقرير، حذرت المنظمة من الحمائية التي شهدناها في ثلاثينيات القرن الماضي عندما حاول الإقتصاد التعافي من “الكساد الكبير”. كذلك، يقدر الإقتصاديون في شركة “جي.بي مورغان” أن خسائر الإنتاج العالمي ستبلغ حوالي 5.5 تريليون دولار، أي أكثر من الناتج المحلي الإجمالي لليابان التي تعد واحدة من أقوى الإقتصادات في العالم.

من دون شك، سيكون مفلسون خاسرون؛ وحيث يكونون، سيكون هناك فائزون بالمقابل، أي أولئك الذين سيسيطرون على السوق. لكن الجميع يعتمد على تصرفات صانعي السياسة، الذين يجب أن يقدموا ما يكفي من الحوافز لإنعاش الإقتصاد قدر الإمكان.

أيضاً، ستقوم الحكومات والبنوك المركزية بمطاردة “الغنائم” بحيث تحتكر الشركات المحلية الكثير في صناعتها. سيؤدي هذا إلى زيادة تدخل الدولة، لكنه سيعزز أيضاً التفويض الإستبدادي مرة أخرى لأنه يبرر الضرورة “العليا” للتدخل في الهياكل الإقتصادية. لقد سارعت معظم الحكومات لمساعدة رجال الأعمال، وبعضها لضمان المساعدة المالية لكل مواطن في الدولة (في إسبانيا فكرة الدخل المضمون غير المشروط) وبالتالي الحفاظ على السيولة.

من منظور الجغرافيا السياسية والإقتصاد المحلي، تبدو مساعدة رجال الأعمال المحليين، خلال هذه الفترة، واعدة بشكل كبير لأنها تحافظ لهم على وضعهم؛ وبالتالي، ستضعف موقف الكيانات الأجنبية. فالتمسك بالأسواق خلال فترة تدفق رأس المال والأزمة، سيعزز من وضع السوق لأولئك المستمرين فيها مما يقلل من المنافسة.

بالطبع، كل ذلك يشكل مجرد إنشقاقات بسيطة، ولكن المكاسب مغرية. من هنا، سيفوز من لديهم أكبر دعم مالي ممكن. في أوروبا، من المرجح أن يكون الألمان هم الذين سيوفرون حزم مساعدات قوية لشركاتهم، فلديهم إحتياطيات مالية ضخمة. سيؤدي هذا بالتأكيد إلى موجة أخرى من العداء تجاه الإتحاد الأوروبي كمشروع قائم على “الداروينية” المتوحشة.

لكن الأكثر أهمية هو أن وضع الطبقات الإقتصادية في البلدان لن يفضي إلى مزيد من الإندماج في أوروبا، وسوف يسلط الضوء على المصالح الخاصة و”الأنا” الوطنية، التي لا يمكن التخلص منها كما هو واضح تماماً. وهذا بالطبع، سيقوض مكانة الإتحاد الأوروبي كمجموعة، وهو ليس بالأمر الجديد. ومع ذلك، مع كل أزمة لاحقة يتجه مفهوم “المجتمع الممزق” بشكل متزايد نحو “مجتمع محطم”.

بولندا العدوانية ولعبة الغنائم

إدخرت الحكومة البولندية إحتياطيات من العملات الأجنبية والمواد الخام (الإستثمار في الذهب بشكل رئيس) خلال السنوات الأخيرة، مما يشير إلى الحكمة والرؤية المستقبلية لشؤون بلادنا، ولكن من الصعب تقييمها عبر منظور طويل الأجل. في الوقت الحالي، يبدو أن الحكومة البولندية ليس لديها شعور بالحرب بما يخص مسألة الإنقسامات المحتملة، فهي تتبع سياسة ماهرة توفق بين مصلحة الجماعة والمصلحة الوطنية.

من هنا، تعتزم الحكومة تحويل 25 مليار زلوتي للمؤسسات الفردية، و50 مليار للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، و25 مليار زلوتي للمؤسسات الكبيرة. بالطبع، سيتم منح المال وفق شورط وظروف معينة بما فيها الحفاظ على العمالة. إلى ذلك، قد يصل حجم المساعدة المالية إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي البولندي.

أخيراً، من المثير للإهتمام أن ربع الأموال، من برنامج المساعدة للشركات الكبيرة، مرتبط بإيجاد صندوق تشاركي للشركة من قبل صندوق التنمية البولندي. على الرغم من أن هذه ممارسة معروفة من الأزمة المالية السابقة التي إستخدمتها الحكومة الفيدرالية الألمانية، إلا أنها تهدف إلى تعزيز موقف بولندا على الساحة الأوروبية لكونها تعتبر سوقاً ناشئة لسنوات، بالإضافة إلى أن التدابير المتخذة فيها ستؤدي إلى مزيد من التوسع، وقد تزيد من أهميتها في المنطقة.

*كاتب بولندي

مصدر الصور: الجزيرة – جريدة اللواء.

موضوع ذا صلة: أوروبا والمتغيرات الدولية