لقد سلّطت وفاة رئيس دولة إفريقية فقيرة، على جبهة القتال، الضوءَ على حركات التمرد المتطرفة التي تنتشر في جميع أنحاء منطقة الصحراء الكبرى في إفريقيا. تجمع القادة الأوروبيون والأفارقة في نجامينا لحضور جنازة الرئيس إدريس ديبي، الذي تولى حكم تشاد منذ فترة طويلة، الأمر الذي يُذكّرنا بأن تشاد مهمة، على الرغم من عزلتها وفقرها.
ومع ذلك، فإن الانخراط الدولي مع تشاد، كما هو الحال مع جيرانها في منطقة الساحل، تركزت إلى حد كبير على الأهداف القصيرة الأجل، وتجنبت القضايا الأساسية حتى وقت قريب. وحتى مع ظهور دلائل على محاولة اتباع نهج شامل يأخذ في الحسبان المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الجذرية في المنطقة، يبدو أن الحلول المقدمة لا تواكب ضخامة التحديات.
تشاد: موقع استراتيجي ووضع تراجيدي
من شأن إلقاء نظرة سريعة عن خريطة إفريقيا أن تخبرك بالأسباب التي تجعل من تشاد دولة مهمة جداً. تشاد التي تقع في الوسط، بين غرب إفريقيا من جهة، وشرق إفريقيا من جهة أخرى، وحدودها مع ليبيا إلى الشمال ودول إفريقيا الوسطى إلى الجنوب، دولة ضخمة ومتنوعة عرقياً، تتألف من قرابة 200 مجموعة عرقية. وعلى الرغم من أنها تحصل على بعض عائدات النفط، فإنها لا تزال فقيرة جداً، وغالباً ما تُدرج ضمن أفقر 20 دولة في العالم، حيث يعاني 80% من سكانها الفقر.
حكم ديبي تشاد لأكثر من 30 عاماً، قبل وفاته مؤخراً أثناء قتاله للمتمردين، حيث قدّم نفسه كصديق للدول الغربية التي كانت قلقة بشأن عدم الاستقرار في المنطقة، لا سيما نتيجة انتشار التطرف بين العديد من قبائل الدول المجاورة. وتجدر الإشارة إلى أن المشكلة تفاقمت أكثر العام 2011 بعد انهيار نظام معمر القذافي في ليبيا. وترتبط قبائل شمال تشاد وجنوب ليبيا ارتباطاً وثيقاً، علاوة على أن الحدود يسهل اختراقها. وقد عاد المرتزقة التشاديون، الذين كانوا يعملون لحساب القذافي، ساخطين لوطنهم، مدججين بأسلحة متطورة، الأمر الذي أسهم في تأجيج الوضع القابل للاشتعال بالفعل.
خلال فترة حكمه التي دامت 30 عاماً، لم يفعل ديبي الكثير لبناء اقتصاد تشاد، وركز بدلاً من ذلك على بناء جيشه، بمساعدة فرنسية وأوروبية. وفي الأعوام الأخيرة، حصلت تشاد على بعض الإيرادات من صادرات النفط، ولكن بدلاً من استخدمها في التنمية، استمرت في توظيفها لتعزيز قوة الجيش ورعاية القبائل مقابل الولاء. وبهذه الطريقة، استطاع ديبي صد موجات العصيان التي كانت غالباً تصل إلى بوابات العاصمة نجامينا. واضطر الفرنسيون، الذين يحتفظون بوجود عسكري في تشاد، إلى التدخل في مناسباتٍ عديدة لدعم بقائه في السلطة، خاصة من خلال الدعم الجوي. وأصبح ديبي يتمتع بعلاقة متميزة مع فرنسا، كما يتضح من وجود إيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي، في جنازته.
إدريس ديبي: ليس أكثر من حل مؤقت مفيد
يرى النقاد أن ديبي لم يكن أبداً الحل لمشكلات تشاد، بل كان مجرد حلٍّ مؤقتٍ استمر إلى حد ما لمدة 30 عاماً، حيث دفعته رغبته في الاستمرار إلى بناء تحالفات كافية داخل المجتمع القبلي المتنوع والمعقد في تشاد للحفاظ على السلطة. ويبدو أن هذه المهمة أوكلت الآن إلى ابنه محمد إدريس ديبي، الذي تولى رئاسة مجلس عسكري، لمدة 18 شهراً حتى إجراء انتخابات جديدة.
وإذا ما أراد ديبي الابن الاستمرار في السلطة لفترةٍ طويلة، فيجب عليه التغلب على عددٍ من الأعداء، بما في ذلك المنافسين السياسيين داخل نجامينا، الذين ينشطون في إطار النظام الدستوري الزائف، وأولئك الذين يوجدون خارج المدينة، والأهم متمردي جبهة التغيير والوفاق – فاكت، التي يتزعمها ضباط الجيش الساخطين الذين قرروا، خلال فترة إدريس ديبي، أن الديمقراطية التشادية كانت تمثيلية، ولا يمكن تحدي ديبي إلا بقوة السلاح.
كما سيتعين على الحكومة الجديدة – القديمة في تشاد أن تتعامل مع الحركات الإسلامية، بما في ذلك تنظيمي “القاعدة” و”داعش”، اللذين ينشطان في الدولة، كما هو الحال في دول الساحل الأخرى، مثل مالي.
الأسباب الجذرية للتطرف
لا يمكن لأي تقييم للمشكلات، بما في ذلك التطرف، في تشاد، وفي منطقة الساحل، وفي الحزام الصحراوي الأوسع في إفريقيا، إغفال مسألة انتشار الفقر المدقع. ذلك أن الجماعات الإسلاموية في إفريقيا متجذرة بعمق، وتقتات على سخط القبائل التي تشعر بأنها لم تحصل على حصة كافية من الكعكة الوطنية، وعلى الشعور باليأس التام بين شبابها.
في تشاد، أدّى نظام ما بعد الاستقلال الذي تركه الفرنسيون إلى تمكين القبائل غير المسلمة في جنوب الدولة على حساب القبائل المسلمة في شمالها. وهذا أحدث انقساماً، فمن ناحيةٍ زاد من مظالم السكان المسلمين، ومن ناحية أخرى خلق مساحة للتطرف الديني لفئاتٍ كاملة من المجتمع.
ولا شك أن الاستراتيجيات الغربية السابقة المتمثلة في تجاهل هذه المظالم المحلية، والتركيز على الجهود الدولية لمكافحة تنظيم القاعدة، ولاحقاً تنظيم “داعش”، كان خطأ جسيماً. فلقد مكّن ديبي من أن يقدم نفسه للغرب كدرع ضد التطرف الإسلاموي، وهو الدور الذي برع فيه عندما نقل النضال إلى الدول المجاورة. غير أن ذلك أدى بدوره إلى الخلط بين الجماعات الموجودة في شمال تشاد، والقوى الإسلاموية الدولية، ومن ثم التعامل معهم بطريقةٍ واحدة. وأسفر التحليل الغربي التبسيطي للوضع في البداية عن بعض العمليات الضعيفة، التي ربما جعلت الوضع أكثر سوءاً. والأمر المُسلّم به على نطاق واسع هو أن الدروس المستفادة قد استخلصت، وأن هناك جهداً أكبر بكثير يُبذل تجاه تبني نهجٍ شامل إزاء المشكلة، بما في ذلك معالجة قضايا مثل الفقر ونقص الخدمات الأساسية.
استراتيجية منطقة الساحل: التحسين يحتاج إلى تحسين
على أي حال، أصبحت منطقة الساحل الآن جزءاً من الأجندة الأمنية لأوروبا، التي تم تحديدها في بروكسل وخارجها على أنها نقطة الضعف لها، حيث يمكن أن تنشأ جميع أنواع المشكلات والعلل. وكانت الاستجابة الأولية سيئة، حيث التركيز على الأمن، والقليل من الاهتمام بالسياق الأوسع الذي يغذي هذه المشكلات. لكن هذا بدأ يتغيّر ببطء. وبمحض الصدفة، قبل أيام فقط من وفاة ديبي، في 16 أبريل/نيسان، اعتمد الاتحاد الأوروبي، بتشجيع كبير من فرنسا، بعد مناقشة مستفيضة، وثيقة بعنوان “استراتيجية الاتحاد الأوروبي المتكاملة في منطقة الساحل”.
في هذا الصدد، تعترف وثيقة الاستراتيجية بأن “منطقة الساحل واجهت في الأعوام الأخيرة أوضاعاً معقدة تنطوي على نقاط ضعف وهشاشة وانعدام أمن تفاقم بعضها البعض”، وتقر بأن “الاتجاهات الطويلة الأجل مثل تغيّر المناخ، والضغط الديمغرافي في سياق النمو الاقتصادي غير الكافي، والندرة المتزايدة للموارد الطبيعية، والمخاطر الوبائية – بما في ذلك الأزمة الصحية الناجمة عن كوفيد – 19 وآثارها – قد أدّت إلى تفاقم التوترات القائمة، بل وأثارت تحدياتٍ جديدة، مثل مسألة الحصول على المياه والصرف الصحي، والأراضي، والتعليم والرعاية الصحية والعمالة، وحجم تدفقات الهجرة.”
علاوة على ذلك، تَعِد الاستراتيجية بالتزام طويل الأجل من قبل الاتحاد الأوروبي بحل هذه التحديات البنيّوية. غير أن تفاصيل كيفية القيام بذلك لا تزال أقل وضوحاً. أوروبا لا تريد التورط في حروبٍ صحراوية فوضوية، لذا فإن الاستراتيجية المفضلة لديها هي دعم الحكومات المحلية بالمساعدات الإنمائية، والإمدادات العسكرية، والدعم العسكري المحدود، والأمل في الأفضل. وهذا النهج هو الذي جعل ديبي حليفاً حاسماً؛ لأنه لم يكن مستعداً لاستخدام جيشه داخل بلده فحسب، بل كان مستعداً أيضاً لدعم البلدان المجاورة في المشكلات التي تواجهها مع المتمردين. وهذا لن يتغير على المدى القصير. ولكن أوروبا لديها القدرة على تحسين حياة سكان منطقة الساحل إذا ما أوفت بما وعدت به، وانخرطت مع المنطقة على مدى فترة زمنية كافية، بموارد كافية.
وفي حين أن التزام الاتحاد الأوروبي باستراتيجيةٍ متكاملة طويلة الأجل لمنطقة الساحل موجود نظرياً على الورق، فإن الرأي العام الأوروبي متقلب للغاية. كما أن هناك وعياً قليلاً جداً في أوروبا، باستثناء الأوساط الدبلوماسية والأمنية، بمشكلات منطقة الساحل وأهميتها بالنسبة لازدهار أوروبا وأمنها. ومن الضروري تعزيز هذا الوعي بحيث يكون هناك دائماً ضغطٌ على السياسيين للتركيز على هذه القضية المهمة.
ومن المفارقات أن وفاة ديبي ربما ساعدت في تعزيز هذا الوعي، حيث أعقبها مطالب متنامية بأن تنخرط الحكومات والمؤسسات الأوروبية بشكل أكبر مع سكان منطقة الساحل، في ظل مجتمعها المدني الناشئ ولكن النابض بنشاطٍ مذهل، ومعالجة المشكلات الجذرية طويلة الأجل، وليس مجرد التحديات المباشرة التي تثيرها. وينبغي الحفاظ على هذا الزخم.
المصدر: عين أوروبية على التطرف / تعريب ونشر: كيو بوست.
مصدر الصور: CGTN – سي.إن.إن.
موضوع ذا صلة: تداعيات رحيل الرئيس ديبي على مكافحة الإرهاب في الساحل والصحراء
مدير شبكة لينكس أوروبا / مدير تحرير موقع commonspace.eu.