د. حكمت مصلح*
حتى نتمكن من توضيح مسألة محاكمة الرؤساء والوزراء أمام أي جهة كانت سواء المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء أو القضاء العادي، يجب طرح عدد من الأسئلة وأبرزها: ما هي الجرائم الصادرة عن رئيس الجمهورية وما هي آلية إتهامه؟ هل رئيس الجمهورية في مأمن من المحاكمة أمام القضاء العادي؟ ما هي الجرائم الصادرة عن رئيس مجلس الوزراء والوزراء؟ وما هي آلية اتهامهم؟ ما هي أوجه الشبه بين جرائم رئيس مجلس الوزراء والوزراء وجرائم رئيس الجمهورية؟ ما هي الجهة المخولة محاكمة الرؤساء والوزراء وفق نصوص الدستور؟ ولماذا لم تبصر النور بعد؟ وما هو أثر كون الوزيرالمتهم نائباًعلى السير في محاكمته؟
من خلال ما سبق، سنحاول الإجابة على هذه التساؤلات وفق نصوص وأحكام الدستور اللبناني.
1. في الجرم الصادر عن الرؤساء والوزراء
أ. في الجرم الصادرعن رئيس الجمهورية
يحاط موقع الرئاسة في كل نظام بهالة خاصة به؛ لذلك، حددت نصوص الدستور اللبناني موقع الرئيس في النظام اللبناني، وحافظت على أهميته حيث وجاء نص المادة 60 من الدستور لتؤكد على ذلك بالقول “لا تبعة على رئيس الجمهورية حال قيامه بوظيفته إلا عند خرقه للدستور أو في حال الخيانة العظمى أما التبعة فيما يختص بالجرائم العادية فهي خاضعة للقوانين العامة ولا يمكن إتهامه بسبب هذه الجرائم أو لعلتي خرق الدستور والخيانة العظمى إلا من قبل مجلس النواب بموجب قرار يصدره بغالبية ثلثي مجموع أعضائه ويحاكم أمام المجلس الأعلى المنصوص عليه في المادة 80 ويعهد في وظيفة النيابة العامة لدى المجلس الأعلى قاض تعينه المحكمة العليا المؤلفة من جميع غرفها.”
هذا النص واضح ويشير إلى مسؤولية رئيس الجمهورية في إتجاهين:
الإتجاه الأول، مسؤولية الرئيس عند خرقه الدستور أو الخيانة العظمى، وهي مسؤولية مبنية على أساس المهام التي يمارسها. هنا، لا بد من توضيح ما المقصود بخرق الدستور، على سبيل المثال لا الحصر، كعدم تطبيق نص دستوري قائم، أو تطبيقه خلافاً لمنطوقه الواضح. أما الخيانة العضمى فهي ذات مفهوم واسع لكنها تختصر بالقول أنها كل سلوك يأتيه رئيس الجمهورية من شانه المس بمصلحة البلاد العليا، وتعريض مكانتها أو هيبتها للزعزعة أمام الدول، وما إلى هنالك من تصرفات مشابهة.
الإتجاه الثاني،مسؤولية رئيس الجمهورية عن الجرائم العادية أي تلك المنصوص عليها في القوانين العامة والتي يُجرم مرتكبها وفق تلك القوانين.
ولا يكتفي هذا النص بالإشارة الى مسؤولية رئيس الجمهورية، بل أشار الى الجهة المخول لها وفق الدستور إتهامه حيث ينص “ولا يمكن إتهامه بسبب هذه الجرائم أو لعلتي خرق الدستور أو الخيانة العظمى إلا من قبل مجلس النواب بموجب قرار يصدره بغالبية ثلثي مجموع أعضائه.”
هنا، تتجلى حقيقة النصوص الدستورية حيث أنها ساوت جرائم مثل الخيانة العظمى على خطورتها، مع الجرائم العادية، والهدف من ذلك حماية موقع الرئاسة؛ لذلك وفي كلتا حالتي خرق الدستور والخيانة العظمى أو الجرائم العادية، يحتاج الإتهام الى موافقة غالبية ثلثي أعضاء المجلس النيابي مجتمعاً.
أيضاً، لم تكتفِ المادة 60 من الدستور من تحديد مسؤولية رئيس الجمهورية والجهة الصالحة لإتهامه بل حددت الجهة الصالحة لمحاكمته بالقول “ويحاكم أمام المجلس الأعلى المنصوص عنه في المادة 80″، وبذلك يمتنع على أية جهة قضائية، سواء القضاء العادي أو القضاء الإستثنائي، محاكمة الرئيس لكون الجهة المحتصة قد حددت بالمجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.
بـ . الجرائم التي تقع من قبل رئيس مجلس الوزراء والوزراء
نصت المادة 70 من الدستور على أن “لمجلس النواب أن يتهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء بإرتكابهم الخيانة العظمى أو باخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم ولا يجوز أن يصدر قرار الإتهام إلا بغالبية الثلثين من مجموع أعضاء المجلس ويحدد قانون خاص شروط مسؤولية رئيس مجلس الوزراء والوزراء الحقوقية.”
في قراءة أولى للنص، نجد أن هنالك جرائم قد يرتكبها رئيس مجلس الوزراء والوزراء تشبه تلك المنصوص عنها في المادة 60 من الدستور، والمتعلقة بمسؤولية رئيس الجمهورية أي الخيانة العظمى. ولما كانت المسؤولية موجودة في مجلس الوزراء، أشارت المادة 70 إلى أن الوزراء مسؤولين أيضاً عند إخلالهم بالواجبات المترتبة عليهم، وهذا ما أثار جدلاً حول مسؤولية الوزراء السابقين والوزراء المعنين بجريمة مرفأ بيروت.
في نظرنا نقول بأنه لا يكن أخذ النص على إطلاقه، إنما هنالك نص يجب تسليط الضوء عليه وهو نص المادة 71 من الدستور الذي أشار إلى أنه “يحاكم رئيس مجلس الوزراء والوزير المتهم أمام المجلس الأعلى”.
فكما نجَّت المادة 60 رئيس الجمهورية من المحاكمة أمام القضاء العادي، فان المادة 71 نجت رئيس مجلس الوزراء والوزراء من القضاء العادي، على أن الدستور قد سكت فيما يتصل بالجرائم العادية التي يرتكبها رئيس الوزراء والوزراء المختصين خلافاً لما فعله بالنسبة الى رئيس الجمهورية. وزاد على ذلك تمسك البعض بنص الدستور لجهة قول المادة 70 “أو بإخلالهم بالموجبات المتربية عليهم”، فأخذوا هذه الفقرة على أنها تسمح بمحاكمة رئيس الوزراء والوزراء أمام القضاء العادي قياساً على الموظف العام الذي يحاكم أمام القضاء العادي أو مجلس شورى الدولة عند إخلاله بواجباته، في حين غاب عن بالهم أن مجلس الوزراء سلطة لا يطبق عليها نص أو يقاس؛ بالتالي، تبقى المحاكمة أمام المجلس الأعلى دون سواه لصراحة نص المادة 80 التعلقة بإنشاء المجلس.
بناء على ما سبق، توجه البعض إلى القضاء العادي على أساس أنه القضاء المختص أو حتى إلى القضاء الإستثنائي، المتمثل بالمجلس العدلي، ولقد أسعفهم في ذلك فراغ نصوص الدستور والمراسلات التي تمت من قبل رؤساء الحكومة السابقين ووزراء الأشغال حول خطورة المادة الموجودة في المرفأ.
ولكن هنا يجب طرح السؤال التالي: هل من السهولة بمكان إتهام رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء أو الوزراء؟
2. الآليات الدستورية في اتهام الرؤساء والوزراء
تتشابه آليات الإتهام بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء في عدة نقاط، أبرزها:
– الجهة الموكل إليها توجيه الإتهام، بموجب نصي المادتين 60 و70، من الدستور أي مجلس النواب دون سواه، وبذلك لا يحق لأي جهة اتهامهم مهما علا شأنها.
– عدد الأصوات المطلوبة لتوجيه الإتهام وهي غالبية ثلثي عدد أعضاء مجلس النواب، وهو ما يعد نسبة مرتفعة تحصن موقع رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء والوزراء. من هنا، نرى بأن من واجب المشرِّع إعادة النظر في هذا النص، فبعد “إتفاق الطائف” أصبحت السلطة لمجلس الوزراء مجتمعاً، ورئيس يحضر الجلسات من دون ولا يصوت، حسب نص المادة ٥٣ بالتالي هو لا يقرر، لذلك، كان يجب الإبقاء على نسبة أغلبية الثلثين بالنسبة لرئيس الجمهورية وجعلها أكثرية أعضاء المجلس النيابي بالنسبة للوزراء ورئيس مجلس الوزراء، بل كان على المشرِّع النص صراحة على مسؤولية الوزراء عن الجرائم العادية.
– الجهة التي يحاكم أمامها الرؤساء والوزراء خصوصاً وأن البنيان القانوني لم يكتمل لجهة المحاكمة أمام المجلس الأعلى والسبب تلكؤ الجهات القضائية عن تسمية الأعضاء الذين أشار إليهم الدستور في نص المادة 80 منه بقوله “يتألف المجلس الأعلى، ومهمته محاكمة الرؤساء والوزراء، من سبعة نواب ينتخبهم مجلس النواب وثمانية من أعلى القضاة اللبنانيين رتبة حسب درجات التسلسل القضائي أو بإعتبار القدمية إذا تساوت درجاتهم ويجتمعون تحت رئاسة أرفع هؤلاء القضاة رتبة وتصدر قرارات من المجلس الأعلى بغالبية عشرة أصوات وتحدد أصول المحاكمات لديه بموجب قانون خاص.”
لكن إن كان المجلس النيابي قام بواجبه منذ عشرة أشهر، فإن النص إن لم يسمِ أعضاء المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، إلا أنه أشار اليهم بصفتهم وموقعهم الوظيفي من خلال الرتب والدرجات، بل سمى رئيس هذا المجلس ومن خلال رتبته وذلك حسب التسلسل القضائي؛ بالتالي، إن قرار مجلس القضاء الأعلى هو معلن للأسماء ولا مقرراً لها.
من خلال الإشكالية السابقة، نحن بإنتظار أن يُستكمل العمل في تأليف المجلس الأعلى خصوصاً وأن قضاة مجلس القضاء الأعلى هم من القضاة المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والحيادية، على أمل أن يصبح لدينا جهة قضائية مستقلة بإمكانها محاسبة الرؤساء والوزراء عل العقوبة والقصاص تشكل رادعاً لهم أثناء تأديتهم لعملهم.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا لو كان الوزير نائباً ونحن نعلم أن المادة 28 من الدستور أجازت الجمع بين النيابة ووظيفة الوزارة؟ في هه الحالة، يجب الإشارة إلى نص المادة 40 من الدستور التي تنص على أنه “لا يجوز أثناء دور الإنعقاد إتخاذ إجراءات جزائية نحو أي عضو من أعضاء المجلس أو إلقاء القبض عليه، إذا اقترف جرماً جزائياً الا بإذن المجلس ما خلا حالة التلبس بالجريمة (الجرم المشهود)”؛ بالتالي، لا يمكن محاكمة نائب أثناء دورات الإنعقاد للمجلس.
يضاف إلى هذا النص، وبالنسبة إلى المحاكمة بجريمة المرفأ، أن المجلس النيابي في حال إنعقاد حكمي وفقاً للفقرة 3/69 من الدستور حيث تؤكد على أنه و”عند إستقالة الحكومة أو إعتبارها مستقيلة، يصبح مجلس النواب في دورة إنعقاد إستثنائية حتى تأليف حكومة جديدة ونيلها الثقة”؛ بالتالي، لن تتم محاكمة أي نائب يتولى منصب وزاري.
في الختام، نستنتج أن القضاء اللبناني ولكي يتمكن من محاكمة الرؤساء والوزراء يجب أن:
1. أن يستكمل تكوين المجلس الأعلىلمحاكمة الرؤساء والوزراء
2. القيام بتعديل دستوري يتضمن:
ـ النص صراحة على الجرائم التي يحاكم عليها الرؤساء والوزراء.
ـ تعديل نص المادتين 60 و70 من الدستور لجهة أخذ إذن المجلس النيابي بالإتهام، وإيكال ذلك إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء وحصرها به
3. خفض النسبة المطلوبة لتوجيه الإتهام من قبل مجلس النواب من أكثرية ثلثي أعضاء المجلس إلى الأكثرية المطلقة بالنسبة لرئيس مجلس الوزراء و الوزراء
4. إنشاء نيابة عامة للمجلس الأعلى تتهم مكونة من قضاة هذا المجلس فقط.
*باحث قانوني ودستوري – لبنان
مصدر الصور: جريدة اللواء – المنار.
موضوع ذا صلة: لبنان أين.. لا إلى أين؟