شادي القعسماني*
منذ أن أعلن الجنرال هنري غورو دولة لبنان الكبير، 1 سبتمبر/أيلول 1920، بصحبة ثلة من رجال السياسة والدين ولبنان يعيش مساراً عكس نواميس الحياة. لقد ولد هرماً غير قادرٍ على النمو الطبيعي. فكل عشر سنوات أو أكثر تتكاثر المشاكل على جسده الضعيف، وتتولد نتوءات تشوه جمال طبيعته الجغرافية والإجتماعية. تولد أجيال لا تعرف معنى الوطن والانتماء. فهل لطبيب غازٍ “مستعمر” يخرج من فوهة مدفعه خريطة بلد مستقل حقيقي؟
مئة عامٍ على الولادة، ولم تقم هيئة دولة صحيحة معافاة، بل بقية هياكل تكسوها مستحضرات التجميل الباريسية وألوان مزركشة تشبه حفلات دفن الموتى اللندنية العريقة. السياسة في لبنان ولادة للتناقضات، محكومة بالتدخلات الخارجية. ففي كل مرة يحاول اللبنانيون النهوض من كبوة، يجدون ألف عائق ومعوق، وألف حاجز يمنعهم من ذلك. فهل إعلان “الموت الرحيم”، للبنان المولود قيصرياً، رحمة لأبنائه؟
إن سياسة التفرقة المذهبية، التي كرست منذ مطلع القرن المنصرم، جعلت هذا البلد مأزوم الهوية وعرضة للسقوط عند مطلع كل فجر. فالجنرال غورو، وفرنسا نفسها، أدرك أن هذه الولادة مصدر تمزيق وتفرقة. لذلك، تم الإمساك بمرافق البلاد المهمة، وأولت باريس عليها أعوانها ومستجدينها من الداخل اللبناني. وعليه، إن أولى مشاكل لبنان ظهرت مع ولادته، وأعني هنا النظام الذي فُرض عليه من الخارج ولصالح جهات دولية تعرف تماماً ما تريد.
لم يشهد لبنان تطوراً ونمواً إقتصادياً صحيحاً. وبالتالي، لا حصانة إقتصادية من ذاته، وهو يشبه إلى حد كبير الأردن. وهذا طبيعي، لأن الدورة الإقتصادية الصحيحة مقطعة الأوصال ليس فقط بسبب المحاصصة الطائفية وتوزيع الفساد على التكتلات المذهبية، بل لأنه لم تنشأ في لبنان مؤسسات سليمة تمتلك رؤية تدفع بإقتصاده نحو النمو السليم المبني أساساً على مقومات طبيعية وتواصل طبيعي جغرافي وإقتصادي مع محيطه الصحيح، أي البلاد السورية.
لقد الهدف الأول لإنشاء لبنان الكبير تسهيل إنشاء الدولة اليهودية في فلسطين المحتلة. ومختصر القول، لا يجوز قيام دول قوية تحيط بفلسطين المحتلة تشكل خطراً حقيقياً على “وعد بلفور” الذي منح اليهود والمنظمة الصهيونية صكوك براءة في إغتصاب فلسطين وتشتيت سكانها الأصليين.
من هنا، علينا كمواطنين أن نعي خطورة ما يمر به هذا البلد. إن معركة الوعي القومي تستلزم منا حضوراً فكرياً صريحاً؛ فبيروت التي لم تلملم أشلاءها بعد، يرابط في بحرها سفن من كل حدب وصوب تضم جنرالات كل منهم يحمل خريطة جديدة تشبه ما قام به الجنرال غورو ولكن على نحو مختلف قليلاً وربما بسبب اكتشافات نفطية محتملة، وكأن هذه السفن قد غادرت موانئها إلى لبنان قبيل وقوع الإنفجار في مرفأ بيروت.
والسؤال هنا: هل سنشهد ولادة لبنان جديد خارج إرادة أبنائه وإرادة مفكريه وبمبضع أطباء أمريكي – فرنسي – بريطاني؟ إن لبنان جبران خليل جبران لم يولد بعد، ولن يولد قبل إسقاط النظام الطائفي الفاسد المصنع والمعلب بصلاحية منتهية. ليس حياداً أن يعلن لبنان الجديد عودته إلى الحضن الطبيعي، فما يؤلم القدس وبغداد ودمشق وعمان يؤلم بيروت. إنه شريان الحياة الصحيح حيث الدورة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والأمنية الواحدة، ومهما تم إغفال هذه الحقيقة سياسياً وتغليف سلة المساعدات بأشرطة حقوق الإنسان واليونيسف وهيئات الدعم الدولية إلا أن على المتبصر والمفكر في هذه البلاد أن يبحث عن مستقبلها في قلوب أبنائها وعقولهم قبل النظر إلى إملاءات دولية همها إنقاذ الكيان الإسرائيلي من التفكك والإضمحلال من جهة، وتأمين نهب خيرات بلادنا النفطية المرتقبة، من جهة أخرى.
لم يكن الجنرال غورو مصلحاً إجتماعياً، ولا رسولاً أوحي إليه، ولا ينتمي إلى جمعيات حقوق الإنسان، وكذلك الأمر من هم الآن على متن بواخرهم في مياهنا الوطنية. هم جزارون إستلذوا مشاهدة ضحاياهم تتخبط في دمائها إرضاء لساديتهم ونرجسيتهم المعطرة ببخور مشرقي.
*كاتب وباحث – لبنان
مصدر الصورة: رويترز.
موضوع ذا صلة: “لبنان الكبير” ونبوءة جبران خليل جبران.. قبل مئة عام