شهدت الديون العالمية زيادات مستمرة على مدار العام 2020 بأكمله، كما يتوقع إستمرار تضخمها في الأجل المنظور في المستقبل، الأمر الذي يضع الإقتصاد العالمي أمام تحد كبير، حتى وإن إنتهت أزمة “كورونا”، وإنحسرت تداعياتها على الإقتصاد، ويعود ذلك لعدة عوامل ذات علاقة بقضية الديون ذاتها. وأمام هذه المعطيات، لا تمتلك الدول الكثير من الخيارات، كما تواجه الإقتصادات خطر تعرضها لقصور في مصادر التمويل الحقيقية؛ وبالتالي، الدخول في ركود عميق.
إرتفاع كبير
أظهرت بيانات معهد التمويل الدولي، مؤخراً، إرتفاع حجم الديون العالمية بأكثر من 17 تريليون دولار في العام 2020، الأمر الذي دفع إجمالي تلك الديون للإرتفاع إلى 275 تريليون دولار بنهاية العام. وتشير هذه البيانات إلى أن الديون العالمية زادت بما يربو على 1.42 تريليون دولار شهرياً خلال العام، بما دفعها إلى تخطي حاجز الـ 328% من إجمالي الناتج العالمي بنهاية العام.
وتتشابه التطورات التي طرأت على حجم الديون العالمية في العام 2020 مع التطورات التي تحدث في الغالب خلال أوقات الحروب، حيث تتوسع حكومات الدول في الإنفاق بينما تتراجع إيراداتها، ما يضطرها للإقتراض بشكل حاد، وهذا ما حدث بالتحديد خلال العام الماضي. وقد أكد معهد التمويل الدولي أن هذا الإرتفاع في حجم الديون العالمية كان مدفوعاً بالتراكم الحاد في الإقتراض الحكومي، في ظل الإستجابات الصارمة والمتزامنة للتداعيات الإقتصادية للجائحة، ما إضطر الحكومات لتغيير السياسة المالية والنقدية، والتوسع في الإنفاق بغض الطرف عن حجم ما يتوافر لديها من موارد تمويل حقيقية.
وفي ظل ما حدث خلال العام 2020 وتعرض الموازنات الحكومية العالمية لضغوط مالية كبيرة، فإن ذلك رفع نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنهاية العام إلى نحو 105%، بينما كانت هذه النسبة لا تتجاوز نحو 90% في العام 2019. ونتيجة لذلك، فإن هيكل الديون العالمية أصبح مختلاً، وركز ضغوطه بشكل كبير تجاه الموازنات الحكومية، والتي يتوقع أن تعاني ضغوطاً شديدة خلال السنوات المقبلة، حتى بعد إنتهاء أزمة “كورونا”، لا سيما مع إرتفاع فاتورة خدمة الدين العالمية.
هناك عنوان آخر للخلل في هيكل الديون العالمية، ويعزز المخاطر المرتبطة بها، يتمثل في تركز الديون الحكومية العالمية في عدد محدود من الدول، وهى الدول المتقدمة، التي تستحوذ على ما يصل إلى 87 تريليون دولار، أو بما يقدر بنحو 70% من إجمالي الديون الحكومية العالمية، كما أن الولايات المتحدة بمفردها تستحوذ على نحو 23% من الديون الحكومية العالمية، وبقيمة مطلقة تبلغ 20.4 تريليون دولار، ويتخطى هذا الحجم قيمة الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي. ويمثل هذا التركز أزمة بالنسبة للإقتصاد العالمي، لا سيما أن الإقتصادات المتقدمة تواجه مصيراً ضبابياً فيما يتعلق بفرص التعافي من تداعيات الأزمة، فتضخم حجم الديون الحكومة يثقل كاهل الموازنات العامة في تلك الإقتصادات، ويضعف قدرة هذه الدول على الإستمرار في الإنفاق بنفس المستويات المرتفعة لفترات طويلة، وهو ما يزيد من تقليص فرص التعافي السريع لها.
وهناك جانب آخر يتعلق بديون الدول المتقدمة، ولا سيما الديون الحكومية منها، فكل هذه الديون يأتي تمويله عن طريق مصادر محلية؛ بالتالي، إن إمكانية إستمرار هذه الدول في الإقتراض بنفس المعدلات ضعيفة للغاية، كما أن إصرار البعض منها على الإستمرار في ذلك سيضر بالإقتصاد المحلي، كونه يسحب من السيولة المتاحة للتمويل ويوجهها إلى الحكومة، متسبباً بذلك في حرمان الإستثمار الخاص من الحصول على تمويل بشروط مناسبة بالنسبة له، وهذا الأمر من شأنه أن يضر به بشكل كبير.
لكن في المقابل، فإنه في حال توسع الدول المتقدمة في اللجوء إلى أسواق الدين العالمي، فإن ذلك سيؤدي إلى منافسة دولية كبيرة على تلك السوق؛ بالتالي، قصور حجم السيولة والإئتمان المتاح به، ما يعني تزايد صعوبة شروط الحصول على الإئتمان بالنسبة لجميع الدول.
هذه التطورات، تدفع أسواق الدين العالمي لتغيرات كبيرة، ولن يكون ذلك في صالح الدول الأكثر حاجة للإقتراض الخارجي، وعلى رأسها الدول النامية والصاعدة؛ ففي حال إستمرار أزمة “كورونا” ومن ثم حدوث إغلاقات إقتصادية جديدة حول العالم، فإن ذلك سيتسبب في شح السيولة المتاحة أمام الدول الصاعدة والنامية للإقتراض، في الوقت ذاته الذي سيؤدي إستمرار الأزمة لتراجع الطلب العالمي على الموارد الأولية التي تمثل القوام الرئيسي لصادرات الدول النامية والصاعدة، وكذلك فإنه سيقلص حجم تحويلات العاملين في الخارج وإيرادات السياحة بالنسبة لتلك الدول.
ماذا بعد؟
إذا كانت الإرتفاعات الكبيرة في الديون الحكومية مبررة في العام 2020 كونها نتجت عن إقتراض الحكومات لتمويل خطط التحفيز الإقتصادي، وإذا كانت تلك الخطط التي نفذتها الحكومات كان لها دور إيجابي في تحفيز الإقتصادات على التماسك، وإبدائه مؤشرات إيجابية بشأن النمو والتعافي بشكل أسرع مما كان متوقعاً، فإن هذا الأمر لا يمكن إستمراره لفترة طويلة حيث أن عدم قدرة الحكومات كلياً، أو حتى تراجع قدرتها جزئياً، على الإقتراض، من شأنه أن يترك الإقتصاد العالمي عرضة للإنتكاس والدخول في موجة ركود في العام 2021 وما بعده.
وفي كل الأحوال، فإن الفترة المقبلة تحمل في طياتها الكثير من المخاطر بالنسبة للإقتصاد العالمي، وإذا كان وقع تلك المخاطر على إقتصادات الدول المتقدمة يختلف عنه بالنسبة للدول النامية والصاعدة، لكن في المجمل، فإنه في حال لم تنتهِ أزمة “كورونا” بشكل سريع، أو ما لم تتمكن الدول من إيجاد سبيل فاعل للتعامل مع التبعات الإقتصادية لتلك الأزمة، ومن دون أن تفرض التزامات كبيرة على الموازنات الحكومية والإقتصاد الكلي على المدى البعيد، فإن آفاق التعافي العالمي تظل قاتمة، وتبقى عرضة للإهتزازات المالية الشديدة في أي وقت، وستبقى إحتمالات حدوث هذه السيناريو قائمة طوال فترة إستمرار أزمة “كورونا”، وطالما لم تجد الدول طريقة للموازنة بين إعتبارات النمو وإعتبارات الإستقرار المالي.
المصدر: مركز المستقبل للأبحات والدراسات المتقدمة.
مصدر الصور: سي.أن.أن عربية.
موضوع ذا صلة: “قمة العشرين”: مواجهات بين التكتلات الإقتصادية العالمية