قضى السياسيون البريطانيون ونظراؤهم الأوروبيون آلاف الساعات، خلال نصف العقد الماضي، وهم يضعون خططهم ويتفاوضون حول قضايا الأمن والتجارة وحقوق العمال وحدود آيرلندا الشمالية وحرية تنقل الأفراد وقوانين الزراعة وصيد الأسماك في إطار تنظيم خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي “بريكست” بعد عضوية استمرت لثلاثة عقود. وقد تنفس الجميع الصعداء لدى توصل لندن وبروكسل إلى إتفاق اللحظة الأخيرة بهذا الشأن قبل أيام قليلة من نفاد المهلة المخصصة والتي إنتهت قبل ساعة واحدة من إنطفاء العام 2020.
لكن بعد كل ذلك الوقت و1200 صفحة من نص الإتفاق، بدا أن الطرفين تناولا مختلف جوانب إنهاء العلاقة المعقدة بينهما دون أن يتطرقا للبحث بجدية حول التأثيرات السلبية المحتملة لـ “بريكست” على قطاعات الثقافة والفنون، وأُهملت مسائل تمويلها بشكل مثير للرثاء.
ومن الجلي أن البريطانيين مع بداية هذا العام، لن يعود بمقدورهم التحليق في الفضاء الثقافي الأوروبي المفتوح بين الـ 27 دولة أعضاء الإتحاد الباقين والذي نجح في تعميق السلام بين أمم تحاربت بقسوة خلال النصف الأول من القرن الماضي عابراً الحدود وحواجز اللغة ومانحاً شعوب القارة فرصاً عديدة لتذوق مختلف الإبداعات الثقافية والفنية لدى الشعوب الأخرى، في الموسيقى والأدب والرسم والتصوير والمسرح والشعر والغناء والرقص والسينما والإنتاج التلفزيوني ومقتنيات المتاحف والنحت ومختلف فنون الأداء والتعبير الإنساني.
هذا يعني بالضرورة أن الجزيرة التي أنتجت بعضاً من أهم الأفكار والإختراعات الإنسانية ستحرم نفسها إختيارياً الاستفادة من بضائع سوق أفكار لا يقل حجمها عن 500 مليون من البشر، وستبدد في طريقها رصيداً ضخماً من القوة الناعمة للمملكة المتحدة، وغالباً ما ستفقد العاصمة لندن التي يُزعم أنها أعظم مدينة في أوروبا و”العاصمة الثقافية للعالم” مكانتها رويداً رويداً لمصلحة مدن أخرى على البر الأوروبي.
المؤكد الآن بعد تمرير قانون جديد لتنظيم تنقلات الأفراد بين الإتحاد الأوروبي وبريطانيا أن معظم المؤسسات الثقافية لن تتمكن من توظيف مبدعين وفنانين أوروبيين بسهولة، ولن يكون مجدياً من الناحية العملية إستضافتهم مؤقتاً لتقديم أعمالهم والمشاركة في أنشطة ثقافية مع نظرائهم البريطانيين.
وفي الحقيقة أن العام المنصرم، 2020، شهد نوعاً من قطيعة ثقافية بين الجانبين تآمر لفرضها وباء “كوفيد – 19” مع الغموض في إجراءات التأمين والتأشيرات والقيود المتوقعة على الهجرة والتنقلات والإستفادة من الخدمات الطبية والاجتماعية. وقد قررت عدة مؤسسات ثقافية كبرى وجامعات في المملكة المتحدة الإمتناع بالفعل عن تنظيم مشاريع ثقافية رئيسية، بين سبتمبر/أيلول 2019 لنهاية صيف 2021، مما ضاعف من هذه الفجوة في المبادلات الثقافية، وأُلغيت مشاركة المملكة المتحدة في برنامج “إيراسموس” الذي سمح عبر السنوات بتنقل ملايين التلاميذ والمعلمين والخريجين بين بلدان الإتحاد، والذي كانت بريطانيا من أكثر الدول الأعضاء إستفادة منه.
ولن يقتصر الأمر حتماً على موضوع إنتقال الأفراد فحسب، إذ إن كثيراً من التقصير الحكومي البريطاني في دعم الأنشطة الثقافية والمظاهرات الفنية كان يعوَّض عبر التمويل الذي كانت تقدمه مؤسسات الإتحاد الأوروبي لمشاريع ثقافية وإبداعية في المملكة المتحدة بمعدل 50 مليون جنيه إسترليني سنوياً. كما سيفقد منتجو وموزّعو الثقافة والفنون البريطانيون ميزة التعامل بالمثل عبر القارة التي تتمتع بها الدول الأعضاء في الإتحاد. فالعديد من دور السينما البريطانية مثلاً، كما صانعي الأفلام والمهرجانات السينمائية، كانت تحصل على دعم وحوافز لتسهيل إنتاج وتوزيع وعرض المواد في الأسواق الأوروبية المختلفة، وكذلك تمكين الجمهور المحلي من مشاهدة أعمال مبدعة سوى تلك التي ينتجها العالم الأنغلوفوني من إسكندنافيا، وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وشرق أوروبا، وهذا التنوع كله سينتهي إلى عزلة إبداعية تكرس على المدى المتوسط والبعيد المناخ الإستقطابي والشوفيني المتصاعد في البلاد، فيما ستجد دول منافسة مثل آيرلندا، ومستقبلاً إسكوتلندا، إن نجحت في جهودها للعودة إلى الإتحاد الأوروبي، الفرصة سانحة لإقتطاع قطعة معتبرة من حصة إستديوهات الإنتاج ومواقع التصوير البريطانية التي كانت تأتي عالمياً في المركز الثاني فقط بعد هوليوود.
وما ينطبق على صناعة السينما والأفلام والتلفزيون يمتد بشكل أو آخر إلى مختلف القطاعات الثقافية البريطانية التي شرعت منذ بعض الوقت بفقدان بعضاً من “نجومها” من الفنانين والأكاديميين الأوروبيين لمصلحة دول أوروبية أخرى وبعضهم على الأقل يشكلون قيمة إضافية إبداعية أو في تخصصات دقيقة لن يسهل تعويضها محلياً. كما أن التغييرات بشأن إجراءات التصدير والضرائب والجمارك لن تكون بالتأكيد لصالح تجارة التحف والأعمال الفنية الثمينة، وستفقد لندن ميزات كبرى بصفتها سوقاً عالمية للتجارة الفنية الأوروبية لمصلحة عواصم الفن الأخرى، مثل باريس وميلان وغيرها.
المعروف أن معظم المشتغلين بالثقافة والفنون صوتوا ضد خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. وحسب إتحاد الصناعات الإبداعية فإن 94% من أعضاء اتحاد الصناعات الإبداعية في المملكة المتحدة أعربوا مبكراً عن معارضتهم لذلك التوجه بمجمله، فيما قال 100% من المشاركين في إستطلاع لمجلس الفنون بإنجلترا إنهم قلقون على مستقبل الثقافة والفنون في البلاد. ويبدو الأمر الآن بعد تنفيذ “بريكست” بمثابة كابوس تحقق بالنسبة للعديد من الفنانين والكتاب والأكاديميين والوسطاء الثقافيين.
وبصرف النظر عن المشكلات الأكثر واقعية المتمثلة في خسارة محتملة للإيرادات، أو انخفاض أعداد الجمهور أو تراجع فرص التبادل والتجارة الثقافية مع السوق الأوروبية المهمة، فإن الخشية الآن هي من تعزز الصدع الإجتماعي الصارخ الذي يفصل بين مخيمَي المغادرة والبقاء في المجتمع البريطاني، والتصاعد البغيض لمظاهر كراهية الأجانب والمهاجرين، وسقوط مزيد من المواطنين العاديين في مصيدة الإنعزال والذعر من الآخر التي أطلقها السياسيون والصحافيون المنخرطون في الحنين الإمبراطوري الموهوم.
لعدة قرون، كانت بريطانيا أعتى قوة إستعمارية على وجه الأرض، وبنت إمبراطورية لا تغيب عن أرضها الشمس عبر مزيج شرير من العنف الممنهج، وقهر الشعوب وتجارة العبيد والمخدرات وكل أشكال الخداع السياسي والدبلوماسي. لكن كمصير كل إمبراطورية ووفق سنن التاريخ التي لا ترحم، تلاشت قواها نهاية المطاف لمصلحة صعود إمبراطورية أخرى أكثر عتواً وأقدر على فرض هيمنتها في عالم جديد.
ربما لم يبقَ لبريطانيا بعدها سوى خيار إنساني عقلاني واحد: الإقلاع عن الغطرسة الإمبراطورية، والاعتراف بجرائمها التاريخية والإعتذار عنها أمام العالم، والمضي قدماً بشجاعة ولطف بعيداً عن إدمان التسلط القديم والعداوات الموهومة مع الجيران، والإنخراط في حوار بنّاء من أجل مستقبل أفضل للبشرية والكوكب المهدَّد بالفناء، ولعب دور القوة الدافعة من أجل السلام.
لكنّ نخبة سياسيين محترفين مؤدلجين أقصت هذا الخيار الشجاع ووجدت في مسألة العلاقة مع الإتحاد الأوروبي، غير المنزّه حتماً عن الأخطاء، فرصة للإختباء من حكم التاريخ، والهروب من سعة العالم الفسيح إلى ضيق الجزيرة الصغيرة، والإنعزال في الظلام ولعق جروح حقيقية وأخرى متوهمة، وإستعراض عضلات تكلست منذ عقود، والتلهف لذلك الماضي الرهيب الذي حولته الرؤية النرجسية إلى منجز ذهبي براق.
“بريكست” كان خياراً إنعزالياً رجعياً، ولعبة سياسيين ستدفع ثمنها الثقافة والفنون، ومعها جيل كامل من الشبان البريطانيين الذين سيفتحون عيونهم في ظلام صندوق أغلقته هذه الأمة على نفسها.
*كاتبة ومحللة سياسية – بريطانيا
المصدر: الشرق الأوسط.
مصدر الصور: إندبندنت عربية – الجزيرة.
موضوع ذا صلة: “البريكست”.. الإنفصال الأكبر