رامز الحمصي*
في مايو/أيار 2018 وبعد إنسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الصفقة النووية، كان الاقتصاد الإيراني شبه منهار تقريباً. فالعملة الوطنية فقدت أكثر من نصف قيمتها أمام الدولار الأمريكي، وإرتفعت نسبة الركود والتضخم، وإنخفضت القدرة الشرائية للمواطنين إلى أدنى مستوياتها، خاصة بعدما واصلت العقوبات الأمريكية حرمان إيران من تصدير نفطها التي تعتمد عليه بشكل أساسي في الميزانية الحكومية.
لكن على الرغم التداعيات الإقتصادية لإيران بسبب العقوبات؛ فإن صادراتها من السلع والخدمات إلى العراق بلغت 9 مليارات دولار العام الماضي (2020)، ويبدو أن الحكومة الإيرانية لن تبرح حتى تحقق غاياتها دون النظر إلى عواقبها على الشعوب الأخرى. التقرير التالي يتطرق إلى كيف ساهمت السلع والبضائع الإيرانية في إغراق الإنتاج المحلي العراقي
العراق.. ثاني أكبر وجهة للصادرات غير النفطية الإيرانية
كان العراق، وما زال، بأهميته كأحد الدول المحاذية لإيران من الجهة الغربية، يحدث دوراً مهماً في الصادرات غير النفطية لإيران، ولا سيما أثناء العقوبات المفروضة على البلاد، إذ أمسى العراق في العام 2019 ثاني أكبر وجهة للصادرات غير النفطية الإيرانية. ويُقدر حجم المبادلة التجارية بين الدولتين في العام الماضي (2020) مع إحتساب صادرات الخدمات الفنية والهندسية والسياحة والكهرباء والغاز، بنحو 13 مليار دولار، ويأمل كل من العراق وإيران أن يصل حجم الصادرات إلى 20 مليار دولار، بحلول العام 2021.
تبين الإحصاءات الإقتصادية أن الصادرات الإيرانية إلى هذا البلد المجاور قد تزايدت بإستمرارية على مدى السنوات العشر الماضية، إذ بلغت صادرات إيران غير النفطية إلى العراق، العام 2008، حوالي 7.2 مليار دولار، ووصلت في العام 2019 إلى حوالي 9 مليارات دولار، وشكلت الصادرات الإيرانية إلى العراق من حيث القيمة، العام 2008، حوالي 15% من إجمالي صادرات إيران، بينما ذهب 22% من إجمالي الصادرات الإيرانية خلال العام الماضي (2020)، إلى العراق.
تعدد حاجات العراقيين من مختلف السلع، كانت محل إهتمام المصدرين الإيرانيين؛ فغالبية السلع التي يتم تصديرها إلى العراق في الوقت الحاضر، هي منتجات غذائية مثل معجون الطماطم، والحلويات، والشوكولاتة، والفستق، ومنتجات الألبان، والمنتجات الزراعية، والمنتجات الحيوانية والبحرية والمنتجات البلاستيكية، ومنتجات الفولاذ والبناء، وكذلك المنتجات الصحية.
ويعتمد العراق بشكل كبير على الإستيراد، خاصة مع تفاقم الأزمة المالية والإقتصادية التي تعيشها البلاد لا سيما مع إنتشار وباء “كورونا”. وقد أبدت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، جينين هينيس بلاسخارت، قلقها من إنكماش الإقتصاد العراقي بنسبة بلغت 10% العام 2020، وذلك خلال إحاطة قدمتها أمام مجلس الأمن حول العراق، مشيرة إلى وجود “أزمات مختلفة مترابطة سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا وصحيًا تقيد عمل الحكومة”.
الأسواق العراقية تغرق بالمنتجات الإيرانية
يعزي الفلاحين والمزارعين في شمال العراق ركود تجارتهم وفقدان بعض منها إلى عدم التزام معابر كردستان بقرارات الحكومة العراقية فيما يتعلق بمنع إستيراد سلع معينة من إيران، وعدم تحكم حكومتي بغداد وأربيل في ضبط عمليات التهريب على الحدود البرية مع إيران، التي تبلغ أكثر من 1300 كلم، بدءا من ديالى شرقاً مروراً بإقليم كردستان العراق شمالًا وحتى البصرة جنوباً.
فالمنتجات الإيرانية الغذائية والصناعية تغزو الأسواق والمحلات العراقية بشكل لافت، فقد دخلت إيران بعد العام 2003 الأسواق العراقية بقوة، وعملت على تصدير كل منتجاتها، خاصة أنها أقل كلفة من غيرها من المنتجات التي تدخل الأسواق العراقية.
وبالرغم من منع الحكومة العراقية إستيراد 29 منتجاً زراعياً وحيوانياً إيرانياً، تشمل مجموعة من الخضار والفواكه، ومنتجات مثل الدجاج والأسماك والعسل، فإنه وبحسب عضو مجلس إدارة الغرفة التجارية الإيرانية – العراقية المشتركة، حميد حسيني، فإن “قرار المنع لا يسري في جمارك إقليم كردستان، حيث بلغت الحصة التصديرية 22% في السوق العراقية”.
يقول مسؤول مشاريع تربية الأسماك في مدينة السليمانية، ياسين أحمد، إن النظام الإيراني “عمل على إغراق الأسواق بالأسماك الإيرانية بطرق غير شرعية بالرغم من قرار منع إستيرادها من قبل وزارة الزراعة العراقية، وهو ما أثر في إنتاج الأسماك المحلية وسببت خسائر كبيرة لأصحاب مشاريع زراعة الأسماك فضلًا عن نفوقها.”
أما مربو الماشية في إقليم كردستان، فقد حذروا من خطورة إنقراض وتدمير قطاع تربية الحيوانات في الإقليم نتيجة تهريب الماشية الإيرانية نظراً لانخفاض أسعارها، فيشير بختيار صالح الذي يعمل منذ 21 عاماً في سوق المواشي أن “المواشي تأتي من إيران وسوريا وهندستان بسبب إنخفاض العملات في هذه الدول، فماشيتنا ليس لها سوق الآن بسببها، فالخروف المهرب يصل لـ 4 آلاف دينار عراقي للكلغ الواحد من اللحم، وصافي لحمه 8 آلاف للقصاب، وهو سعر يبحث عنه القصاب دائماً لرخصة عن المحلي فلهذا أسواق ماشيتنا تتجه إلى الصفر ويضطر المزارعون للتخلي عن تربية المواشي.”
إنفلات المعابر يمهد الطريق لإيران
مع إرتفاع الصادرات الإيرانية خلال العام الماضي بنسبة 7% كما صرح المدير العام لمنظمة ترويج التجارة الإيرانية – TPO للدول العربية والأفريقية، فرزاد بيلتان إذ بلغت الصادرات الإيرانية إلى العراق خلال الأشهر التسعة الماضية من مارس/آذار إلى ديسمبر/كانون الأول 2020 نحو 5.9 مليار دولار؛ فإن إيران تعتمد أيضاً على المواد المهربة في تصريف بضائعها للهروب من المنع الحكومي.
وتجاهر إيران أن 23.6% من سوق الإستيراد في العراق مملوكة لها، وأن العراق أصبح في الآونة الأخيرة سوق التصدير الإيراني الرئيسي، حتى أن صادرات إيران إلى العراق، تجاوزت في بعض أشهر العام 2020، صادرات إيران إلى الصين.
على جانب آخر، تتعرض السوق العراقية بشكل دوري لضربات موجعة، جراء تصاعد عمليات تهريب البضائع عبر الحدود الإيرانية، وتتضمن هذه البضائع مواد غذائية وأدوية وأقمشة وأجهزة كهربائية.
وحسب أحد أعضاء إتحاد إقتصادي كردستان، فإن السليمانية وديالى وواسط والبصرة تعتبر أكثر مدن العراق عرضة لعمليات التهريب بسبب المناطق الواسعة المفتوحة بين البلدين، وكذلك الجبال التي تعتبر مشكلة من ناحية السيطرة عليها، كما قدر علي الياسري عضو غرفة تجارة بغداد ما يتكبده العراق جراء التهريب من إيران بنحو 10 ملايين دولار شهرياً، مشيراً إلى أن الدولة والتجار والمواطنين يخسرون.
وتختلف عمليات التهريب حسب البضائع والأشخاص، فذكرت شركة الأبحاث التجارية – Navanti، أن هنالك تهريبًا عبر أشخاص يدعون بإسم “الكولبر” وهي كلمة كردية مكونة من جزئين وتعني “كول” بمعني الظهر و”بر” بمعنى الحامل أي معناه باللغة العربية العامية “العتالون”، ومهمتهم القيام برحلات عبور الحدود وحمل بضائع قد يصل وزنها إلى 75 كلغ عبر سلسلة جبال “زاغروس” من إقليم كردستان العراق أو المناطق الكردية في تركيا إلى إيران.
أما المنافذ الأخرى التي يعتمد عليها التجار الإيرانيون فهي المعابر الشرعية بين العراق وإيران بتسهيل من ميليشيات تسيطر على هذه المعابر. وتقوم هذه المليشيا بتسهيل عبور البضائع والتحايل على الضرائب الحكومية عبر ثلاث معابر، “حاج عمران في محافظة أربيل، وبارفيزخان في منطقة إدارة كرميان، وبشماخ في محافظة السليمانية”.
ففي سبتمبر/أيلول 2020، أعلنت وزارة المالية في إقليم كردستان عن اكتشاف شبكة قامت بتهريب بضائع بقيمة مئات الملايين من الدنانير الى إقليم كردستان عبر معبر “بارفيزخان” على الحدود الإيرانية وألحقت أضراراً بالمالية العامة.
لكن الأمور حتى هذا الوقت لم تؤخذ على محمل الجد من الجهات الحكومية العراقية، بالرغم من تحذير سابق، أغسطس/آب 2016، وإقرار بتسبب السلع الإيرانية في خسائر كبيرة على المنتج الوطني العراقي وجعله يتراجع حتى أصبح لا يشكل سوى 6% من مجمل السلع والمنتجات الموجودة في السوق العراقية، حسب ما قالته عضو لجنة الإقتصاد في مجلس النواب النائب نجيبة نجيب التي لوحت إلى أن غياب الرقابة على الحدود وانشغال الدولة بالوضع الأمني كان فرصة للتجار الإيرانيين كي يضعوا قدمهم بشكل كبير في السوق العراقية.
الأراضي العراقية ممر إيران الآمن لنقل الأموال المهربة بالعملات الصعبة
فرضت الولايات المتحدة أول عقوبة على إيران، نوفمبر/تشرين الثاني 1979، وتلتها عقوبات على عدة أعوام كان آخرها إصدار وزارة الخارجية الأمريكية بياناً، سبتمبر/أيلول 2020، أعلنت فيه من جانب واحد أن عقوبات الأمم المتحدة على إيران دخلت مجدداً حيز التنفيذ محذرة من عواقب عدم الإلتزام بها.
حاولت إيران الهروب من آثار العقوبات عبر تصدير النفط والغاز الطبيعي اللذين يمثلان 82% من عائدات صادرات البلاد عبر شركائها كالصين التي تستحوذ على 21% من إجمالي الصادرات والهند التي إستوردت بما يبلغ 3.2 مليار دولار، العام 2019، وتركيا التي تستورد بحوالي 3 مليارات دولار أي بنسبة 9% من إجمالي صادرات إيران، وكوريا الجنوبية بحوالي 2.1 مليار دولار، واليابان بحوالي 1.2 مليار دولار.
لكن إيران إستغلت وضع العراق الحرج والتخبط السياسي الداخلي فيه، وإستخدمت الأراضي العراقية ممراً لنقل الأموال المهربة بالعملات الصعبة فيما يسمى بصفقات البورصة، أو مبيعات البنك المركزي العراقي للعملات الصعبة، التي كانت تستنزف ما متوسطه 350 مليون دولار إلى 600 مليون يومياً في مبيعات المزادات للعملات الصعبة المستنزفة من البنك المركزي العراقي.
وفي بداية هذا العام، باشرت إيران ذلك من بوابة الديون المتراكمة على الحكومة العراقية بسبب شراء الكهرباء والغاز منها، في خطوات لتوفير مصاريف لقاح فيروس “كورونا”، والذي لا يمكن لإيران شراءه إلا بالعملة الصعبة، فإستطاعت تأمين شراء اللقاح بأموال الحكومة الإيرانية من مبيعات الغاز الطبيعي إلى العراق، الذي إستثنته الإدارة الأمريكية مؤخراً من العقوبات وتجده إيران ممرها الآمن، فالأموال لا يمكنها تحويلها بسبب العقوبات الأمريكية على المصارف الإيرانية.
إنشغال العراق بأحواله الداخلية وتوغل إيران فيه عبر أذرعها أسهم في إنتكاسة لسوق العمل العراقي، إذ يوضح عضو غرفة تجارة وصناعة السليمانية أن “أكثر من 6 آلاف من المصانع والمعامل توقفت عن العمل بسبب السلع الإيرانية الرخيصة اللي تدخل عبر المنافذ، وحوالي 7 آلاف معمل أو مصنع، تعرضوا للإفلاس وانتهى عملهم تقريباً”، وعزا ذلك لعدم تفعيل قانون حماية الإنتاج الوطني والإنتاج الإقليمي لمنع وصول فائدة العملات الصعبة لإيران عبر تصريف موادها في أسواق البلاد
*صحفي سوري – الأردن.
المصدر: ساسه بوست
مصدر الصور: الحرة.
موضوع ذا صلة: مبادرة الشرق الجديد.. مشروع إقتصادي بأهداف سياسية