نوار الصمد*
على الرغم من إدراج حكومة بوريس جونسون، إعلان التوصل إلى اتفاق تجاري لمرحلة ما بعد “بريكست” في تاريخه كما كان محدداً ودخوله حيز النفاذ، في 1 يناير/كانون الثاني 2021، ضمن حصيلة إنجازاتها؛ إلا أنه يبدو أن هذا التاريخ سيشكل لها، في الوقت نفسه، بداية تحد أصعب يتمثل في مدى قدرتها على إستيعاب تصاعد الإستياء الإسكتلندي من جراء الخروج من الإتحاد الأوروبي، ومنع محاولات إستثماره لتعزيز النزعة الإنفصالية لدى الإسكتلنديين؛ وبالتالي، مواجهة الضغوط الدافعة نحو إنجاز مشروع إستقلال إسكتلندا، مما قد يعني عملياً إنهاء وحدة المملكة المتحدة، والذي قد يشكل بداية لتسارع مسلسل التفكك في حال إنتشار شرارة الإنفصال إلى الشريكين الويلزي والأيرلندي الشمالي.
هذا الإستياء، عبرت عنه بشكل صريح رئيسة وزراء إسكتلندا نيكولا ستورجون، في نهاية العام 2020، حين إعتبرت أن “بريكست” يتحقق عكس إرادة شعب إسكتلندا، وأنه “لا يمكن لأي إتفاق أن يعوض ما أخذه بريكست منا”، متعهدة، في 2 يناير/كانون الثاني 2021، بالعمل من أجل تنظيم إستفتاء جديد من أجل التصويت على إستقلال إسكتلندا. غير أن القرار الفصل في تنظيم مثل هذا الإستفتاء دستورياً وسياسياً يعود إلى رئيس الوزراء البريطاني الذي يعارضه بشدة.
محفزات الإنفصال
يمكن إرجاع الأسباب الموضوعية لإكتمال تبلور مشروع الإنفصال الإسكتلندي في هذا التوقيت خصوصاً إلى تضافر العوامل التالية:
1. تداعيات “بريكست”: على الرغم من حصول مؤيدي “البريكست” على 52% من أصوات المقترعين في إستفتاء العام 2016، إلا أن 62% من الإسكتلنديين صوتوا للبقاء في الإتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من الوعود الممنوحة من قبل بريطانيا لإسكتلندا بإحترام إرادة الإسكتلنديين، والعمل على الحصول على وضع خاص لإسكتلندا من خلال مفاوضات إتمام “البريكست”؛ إلا أن شيئاً من هذا لم يتحقق، مما إعتبره الإسكتلنديون عدم إحترام حكومة لندن لوعودها، وتجلت نتيجة ذلك في الإنتخابات التشريعية العامة، العام 2019، التي جرت على وقع مفاوضات “البريكست”، حيث إكتسح الحزب القومي الإسكتلندي المقاعد المخصصة لإسكتلندا في برلمان وستمنستر، وحصل على 48 مقعداً من أصل 59. وجاءت نتائج 13 إستطلاعاً للرأي أُجريت في إسكتلندا بعد إستفتاء “البريكست” بتفضيل الإسكتلنديين لخيار الإستقلال عن المملكة المتحدة.
2. تداعيات أزمة “كورونا”: حيث تُظهر الاستطلاعات أن 74% من الإسكتلنديين راضون عن أداء رئيسة وزرائهم في مواجهة وباء “كورونا”، بينما 19% فقط من الإسكتلنديين يرون أن بوريس جونسون قد قام بأداء جيد خلال أزمة “كورونا”، في مؤشر على إستياء إسكتلندي من البقاء تحت حكومة لندن المركزية. كما تُظهر الوقائع على الأرض عدم تطبيق الكيانات الأربعة المنضوية تحت المملكة المتحدة (بريطانيا، ويلز، إسكتلندا، إيرلندا الشمالية) لسياسات موحدة أثناء فترة الإغلاق، من حيث الحد الأدنى للتجمعات المسموح بها (6 أشخاص في إنجلترا، و8 في إسكتلندا)، والمسافة التي يمكن للفرد قطعها بعيداً عن منزله في فترة الإغلاق (لا قيود على ذلك في إنجلترا، الحد الأقصى في ويلز 5 أميال)، وكذلك بالنسبة لإعادة فتح المدارس، وإلزامية ارتداء الكمامة الطبية (إلزامية في إنجلترا وإسكتلندا، ولكن ليس كذلك في ويلز). ولقد جاء الوباء في وقت صعب على المملكة، حيث العلاقة بين مكوناتها أصبحت أكثر عداوة، وحيث يمكن إدراج هذه التباينات ضمن قواعد مكافحة “كورونا” بالرغبة في إستغلال مسألة تفويض الصلاحيات من برلمان وستمنستر من أجل توسيعها والتهيئة للطلاق القادم.
3. تغير الأولويات: كان التيار الإنفصالي في إسكتلندا يتبنى خطاباً سياسياً يتميز بالرفض للوحدة الأوروبية، إنطلاقاً من أنه قام ببناء مشروعه السياسي الأساسي منذ إنطلاقته حول الديمقراطية الإجتماعية التي تتعارض مع السياسات النيوليبرالية أو الرأسمالية للمشروع الأوروبي، وكان قد تبنى حملة معارضة لبقاء المملكة المتحدة في إستفتاء 1975 في المجموعة الأوروبية. ولكن منذ عام 1988 وتحت رئاسة جيم سيلارز للحزب القومي الإسكتلندي، حصلت نقطة تحول لافتة حيث أصبح الحزب مؤيداً للوحدة الأوروبية، ويمكن إرجاع هذا التبدل الإستراتيجي إلى محاولة إخراج الحركة الإنفصالية الإسكتلندية من عزلتها على الساحة الأوروبية والعالمية، والتواصل مع الشركاء في المجموعة الأوروبية.
وعلى الرغم من نجاح الحزب القومي الإسكتلندي في تحقيق وعده للناخبين الإسكتلنديين بإجراء إستفتاء في عام 2014 حول إستقلال إسكتلندا بالإتفاق مع حكومة لندن، إلا أن نتيجة الإستفتاء جاءت مغايرة لرغبة الإنفصاليين، حيث صوت 54% من الإسكتلنديين ضد إستقلال إسكتلندا، على الرغم من بقاء الحزب القومي الإسكتلندي كحزب للأغلبية. وتعود أسباب ذلك إلى أن شريحة واسعة من الناخبين الإسكتلنديين كانوا يعتبرون أنهم إن صوتوا بــ “لا”، في إستفتاء 2014، فإنه سيتسنى لهم التصويت في إستفتاء “البريكست”، العام 2016، ضد الخروج من الإتحاد الأوروبي، وهزيمة التوجه الداعم للخروج؛ لذا، فإنه يمكن إعتبار أن الإنفصال كان دائماً هو مطلب أغلبية الإسكتلنديين، ولكن أولويات الماضي كانت مغايرة، بالتالي فإن التوجهات الحالية تميل إلى إعتبار أن الحصول على الإستقلال ضمن الإتحاد الأوروبي هو أكثر جاذبية من البقاء كجزء من المملكة المتحدة خارج الإتحاد الأوروبي.
4. توسع اللا مركزية البرلمانية الإسكتلندية: نجح الإسكتلنديون، العام 1998، في الحصول على برلمانهم الخاص، بعد الإخفاق في إستفتاء العام 1977، على الرغم من تصويت أغلبية المقترعين لصالح تفويض الصلاحيات من برلمان لندن، وذلك بسبب وضع شرط لصحة الإستفتاء يقتضي تخطي نسبة المقترعين 40%. ومنذ إنشاء البرلمان حتى العام 2007، سعى الحزب القومي الإسكتلندي لتزعم المعارضة، ومن بعد العام 2007 إلى اليوم أصبح الحزب هو صاحب الأغلبية في البرلمان. ونتيجة لقوة هذا الصعود، قام قادة الحزب القومي الإسكتلندي بالحصول على موافقة لندن على إجراء الإستفتاء الأول حول إستقلال إسكتلندا في 2014، وهم حالياً يحاولون إستثمار توسع شعبيتهم من أجل الدعوة إلى معاودة إجراء هذا الإستفتاء بعد “البريكست”.
5. العوامل الإقتصادية: يعتبر أغلبية الإسكتلنديين أنهم حصلوا خلال نصف قرن قضتها بلادهم في الإتحاد الأوروبي على الكثير من الفوائد والمكاسب من السوق الأوروبية المشتركة وحرية التنقل، حيث إختار أكثر من 230 ألفاً من رعايا الإتحاد الأوروبي الإقامة في إسكتلندا، ومن الممكن خسارتهم في المرحلة المقبلة، كما أن حق المواطنين الإسكتلنديين في العمل والدراسة بالإتحاد الأوروبي سوف يتعرض للإنتقاص، إضافة إلى أن هناك أكثر من 2000 شاب جامعي إسكتلندي شاركوا في برنامج ERASMUS، وفي المستقبل لن يستطيع أقرانهم الإستفادة منه.
كما يعتبر أغلبية الإسكتلنديين أن المنشآت الإسكتلندية الحديثة، من جسور ومحطات الطاقة المتجددة، بُنيت بأموال الصناديق الأوروبية، كما تُشكل الإعانات الزراعية الممنوحة من الإتحاد الأوروبي للمزارعين الإسكتلنديين 75% من مصادر دخلهم؛ وإذا كانت نسبة المناطق المصنفة ضمن فئة المناطق الريفية الأقل حظوة من قبل برامج الإتحاد الأوروبي تبلغ في إنجلترا 17%، فإن هذه النسبة تصل في إسكتلندا إلى 85%.
وعلى الرغم من أن عدد سكان إسكتلندا يمثل 8% فقط من إجمالي عدد سكان المملكة المتحدة؛ فإن إسكتلندا كانت تحصل على نسبة 15% من إجمالي أموال المساعدات المخصصة من قبل الإتحاد الأوروبي للمملكة المتحدة، مما يطرح علامات إستفهام كبرى حول البديل للتمويل الأوروبي، خصوصاً في ظل الإتهامات الإسكتلندية المتكررة لبوريس جونسون بـ “بيع الصيد” الإسكتلندي.
السيناريوهات المتوقعة
هناك إحتمالات متعددة لمآلات تبلور المشروع الإنفصالي الإسكتلندي، يمكن إيجازها على النحو التالي:
1. الإنفصال بعد الإنتخابات المحلية القادمة: حيث سيؤدي إنتصار ساحق جديد للحزب القومي الإسكتلندي في الإنتخابات المحلية القادمة المقرر لها أن تتم في مايو/أيار القادم (2021)، إلى زيادة الضغوط على جونسون الرافض لفكرة إجراء إستفتاء جديد بحجة أن الإستفتاء الماضي كان إستفتاء لجيل واحد، وأن فكرة الإستفتاء يجب أن لا تحصل إلا مرة واحدة في كل جيل. ووفقاً للعديد من إستطلاعات الرأي ومنها إستطلاعات معهد Savanta ComRes، فمن الصعب جداً رؤية تقدم حزب العمال أو المحافظين في الإنتخابات المحلية القادمة، مما يعني توجه الحزب القومي الإسكتلندي نحو فوز إنتخابي كبير ربما سيدفع جونسون إلى تغيير رأيه، والتوافق حول إجراء إستفتاء ثان المعروف بإسم Indyref2.
2. إنتظار إنتهاء ولاية جونسون: في حال إستمرار رفض جونسون إعطاء الموافقة على إجراء إستفتاء جديد حتى بعد إنتصار الإنفصاليين الإسكتلنديين في الإنتخابات المحلية القادمة العام 2021، فمن الممكن أن ينتظر الإنفصاليون الإنتخابات البريطانية القادمة، العام 2023، والتي من المحتمل أن تأتي برئيس وزراء بريطاني جديد غير جونسون، حيث يُظهر إستطلاع للرأي نشر مؤخراً في “الغارديان”، نقلاً عن Focaldata، صعوبة إحتفاظ جونسون بمقعده، وخسارة حزب المحافظين لأغلبيته وحصوله على 284 مقعداً (أي بتراجع نحو 81 مقعداً عن إنتخابات 2019)، بفارق مقعدين فقط عن حزب العمال (282 مقعداً)، فيما سيكتسح الحزب القومي الإسكتلندي المقاعد المخصصة لإسكتلندا في برلمان وستمنستر، وسيحصد 57 مقعدًاً من أصل 59 (حالياً يملك 47)، مما يعني في حال تحقق ذلك أن هذا الحزب الداعم للإنفصال سيستغل حاجة أي إئتلاف حكومي قادم من أجل تمرير المطالبة بإجراء الإستفتاء على إستقلال إسكتلندا.
3. القيام بإستفتاء آحادي: وهو إحتمال ضعيف جداً، خصوصاً أن رئيسة الوزراء الإسكتلندية كررت مراراً أن إنجاز الإستقلال يجب أن يحصل وفقاً للأساليب الدستورية؛ بالتالي، فإن تكرار السيناريو الكتالوني مستبعد في إسكتلندا، أي القيام بإستفتاء من طرف واحد من دون أخذ موافقة حكومة المحافظين وبرلمان لندن. ولكن في حال إستمرار تشبث حكومة المحافظين بموقفها، فإن الخيار الأخير ضمن إستراتيجية إنفصاليي إسكتلندا ربما سيكون اللجوء إلى القضاء، وعرض القضية أمام المحكمة العليا لتقول كلمتها في هذه المسألة، وإبداء رأيها في تأويل ما إذا كان Scotland Act يمنح لبرلمان أدنبرة صلاحيات تنظيم إستفتاء حول الإستقلال دون الرجوع إلى لندن، ولكن صدور مثل هذا الحكم تواجهه عقبات كبيرة أقلها كسر تفسير الأغلبية البرلمانية في وستمنستر “لقانون إسكتلندا”.
ختاماً، تخشى أوساط المحافظين من أن يدفع الحراك الذي يقوم به الإسكتلنديون إلى تشجيع المطالب بتوحيد الجزيرة الإيرلندية، خصوصاً أنه سيكون لـ “البريكست” تأثيرات كبيرة على الوضع في إيرلندا الشمالية، حيث يتخوف الموالون من أن عمليات الفحص الجمركي للبضائع قبل وصولها إلى بريطانيا قد تكرس حدوداً بحرية كانت غير موجودة سابقاً بالنسبة لإيرلندا الشمالية؛ بالتالي، تساهم في تعزيز الإتحاد الإقتصادي لإيرلندا الشمالية مع جمهورية إيرلندا.
هذا الأمر، قد يشكل مقدمة لتوحيد الجزيرة في النهاية خصوصاً مع التقدم المطرد لحزب “الشين فين” الساعي للوحدة، حيث تتراوح شعبيته الحالية حول 25% من الأصوات، وحيث إن أنتصاره على حزب الوحدويين الحاكم حالياً في إيرلندا الشمالية من الممكن أن يدفع في اتجاه تنظيم إستفتاء حول وحدة إيرلندا، خصوصاً أن الأمور ليست بالتعقيد نفسه الحاصل في إسكتلندا، حيث تنص إتفاقية The Good Friday Agreement، التي أنهت الحرب الأهلية في إيرلندا الشمالية، على بند يتيح لحكومة إيرلندا الشمالية بتنظيم إستفتاء حول الإنضمام إلى جمهورية إيرلندا، بالإضافة إلى أن فكرة إستقلال ويلز بدأت بالتسلل والظهور ضمن النقاشات العامة، خصوصاً أن رئيس الحكومة الويلزي الحالي، مارك دراكفورد – من حزب العمال، وهو غير موافق بشكل عام على سياسات حكومة حزب المحافظين في لندن، بالإضافة إلى تقدم التيار الإنفصالي في ويلز باستطلاعات الرأي، بعد صدور نتائج “البريكست” العام 2016 من 10% إلى 25%.
بشكل عام، أدى إنجاز “البريكست” إلى إعطاء قوة دفع للتيارات الإنفصالية في الكيانات التي تتشكل منها المملكة المتحدة ولكن بوتيرة متفاوتة، وتحتل إسكتلندا صدارة المشهد الإنفصالي لأن الحزب الداعي للإستقلال فيها نجح في السيطرة على السلطة المحلية. فهل تصبح إسكتلندا هي الحلقة الأولى المكسورة في سلسلة تفكك المملكة المتحدة؟ خصوصاً أن هذا الإستقلال الأول دونه عقبات كبيرة، كمعارضة حزب المحافظين، وإفتقار إسكتلندا لعملة وطنية، بالإضافة إلى أن العودة إلى الإتحاد الأوروبي ليست بهذه السهولة، حيث على إسكتلندا أن تتقدم في حال حصولها على إستقلالها بطلب إنضمام جديد إلى الإتحاد خاضع للتفاوض وفقاً لشروط ومعايير خاصة، بالإضافة إلى حتمية الحصول على موافقة بقية الأعضاء في الإتحاد الأوروبي من أجل حصول الإنضمام، وهو ليس ميسراً مع وجود دول أعضاء تخشى من تمدد شرر الإنفصال ليصيب أجزاء من أراضيها، كإسبانيا وبلجيكا وفرنسا.
* باحث متخصص في العلاقات الدولية والدبلوماسية بالجامعة اللبنانية – لبنان
المصدر: مركز المستقبل للدراسات والأبحاث المستقبلية
مصدر الصور: روسيا اليوم – إندبندنت.
موضوع ذا صلة: أبو طبيخ: حلول للأزمة البريطانية – الأوروبية