نور علوان*
في جمهورية الجبل الأسود، تشبه المسائل العرقية حقل الألغام، فالحديث عن الهوية وتداخلاتها مع التاريخ والسياسة والدين قد يفتح أبواباً غير محدودة من النقاشات الحساسة، لكن جميعها تنتهي غالباً بخلاصة واحدة، وهي أن الناس في هذا الجزء من العالم يميلون إلى التعريف بأنفسهم عن طريق هويتهم العرقية لا المواطنة.
الأمر ذاته ينطبق على سائر دول البلقان الذين قد يخبرونك أنهم ألبان أو صرب قبل أن يشيروا إلى جنسيتهم، ولعل الكوابيس التي عاشتها هذه الدول جعلتها أكثر تمسكاً بأصولها العرقية مقارنة بمكان ولادتها، رغم أن الجمهورية الأوروبية الحديثة، التي حصلت على استقلالها العام 2006، تجنبت الصراعات العنيفة على أراضيها منذ العام 1989، لكنها مع ذلك لم تستطع النأي بنفسها بعيداً عن تحديات التعددية العرقية التي فرضها السجل التاريخي الحافل.
ففي حين أن الأغلبية الكبرى من أصل سلافي، إلا أن هويتهم تشتت تحت تأثير الديانات والحكومات المختلفة، وبعض أنظمتها القمعية التي زادت الوضع خلخلة، تعزيزاً لسلطة عرق معين على حساب آخر مثل الصرب، وهي الممارسات التي تكشف مدى خصوبة أرضية البلاد تجاه حملات التضليل التي تهدف إلى إثارة الإنقسامات وتدمير الفضاء الروحي في الجبل الأسود.
التكوين العرقي والديني
يسير الدين والعرق جنباً إلى جنب في هذه الدولة الصغيرة، التي يبلغ عدد سكانها 620 ألف نسمة، فأكثر من 72% من السكان من الأرثوذكس (معظمهم من الجبل الأسود والصرب) و19% مسلمون (معظمهم من البوشناق والألبان) و3% من الروم الكاثوليك (معظمهم من الألبان والكروات)، و1% ملحدين.
ينتمي معظم المسلمين في الجبل الأسود إلى المذهب السنِّي الحنفي للإسلام، وثمة مجموعتين رئيسيتين من المسلمين في البلاد هما المسلمون السلافيون والمسلمون الألبان، حيث تضم المجموعة الأولى البوشناق والجبل أسوديين بينما تشمل المجموعة الأخيرة الألبان. هناك أيضاً اختلافات كثيرة بين هذه الجماعات، إذ تلتزم معظم المجتمعات بالمذهب الحنفي، وبعضها تتبع التقاليد العلوية والبكتاشية، وتتركز الأغلبية في البلديات الشمالية الشرقية من البلاد.
وأحياناً، ينظر إلى المسلمين السلافيين (المجموعة الأولى) تحديداً بـ “ازدراء” بسبب ما أسماه المؤرخ الأمريكي مايكل سيلز “كريستو سلافيسم”، وهي مزيج من المسيحية الأرثوذكسية والقومية الجنوبية السلافية التي ترى المسلمين السلافيين خونة على اعتبار أنهم مرتدون عن المسيحية.
ورغم وجود هذه الظاهرة، فإن جميع الطوائف ملتزمة إلى حد كبير بقيم التعايش والتسامح الديني، إضافة إلى أن قوانين الدولة ذاتها متصالحة مع التنوع الديني في البلاد وتسمح للأقليات الدينية بممارسة شعائرهم الدينية بحرية.
على سبيل المثال، يُسمح للنساء المسلمات بارتداء الحجاب في المدرسة أو العمل، كما تُقدم الأطعمة الحلال في المنشآت العسكرية للمسلمين، ويمكنهم أيضًا أخذ يوم الجمعة إجازة من العمل لحضور الصلاة.
من هم مسلمو الجبل الأسود؟
وصل العثمانيون إلى الجبل الأسود العام 1496، في عهد السلطان محمد الفاتح الثاني، وكانت الجبل الأسود آخر مملكة في شبه جزيرة البلقان تسقط في يد الدولة العثمانية، ومع ذلك كان الحكم اسمياً، فقد احتفظت الجمهورية بمستوى عال من الحكم الذاتي، فلم تستطع الإدارة العثمانية السيطرة بالكامل على البلاد، بسبب طبيعة السكان الجامحة والحربية، إضافة إلى وعورة المنطقة وصعوبة تضاريسها، لذلك تمتع أهالي البلاد بامتيازات لم تمنح لشعوب البلقان الأخرى.
ورغم محدودية السيطرة العثمانية، فإن الإمبراطورية تركت آثاراً ثقافية ودينية في البلاد، وأهمها انتشار دين الإسلام والمساجد وأبراج الساعة، وأبرزها ما يوجد في العاصمة بودغوريتسا، وهو البرج الذي أسسه، في أواخر القرن السابع عشر، الحاج محمد باشا.
بعدما انهارت الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، كان يعيش في الجبل الأسود آنذاك 150 ألف مسلم يشكلون خمس إجمالي السكان، لكن مع رحيل الإمبراطورية وانضمام الجمهورية إلى صربيا العام 1918 عانى مسلمو الجبل الأسود من ضغوط شديدة، فقد اعتقلوا وهاجروا بأعداد هائلة إلى تركيا، ونتيجة لذلك تقلص الوزن العددي للمسلمين مقارنة بالمسيحيين بشكل ملحوظ.
عقب الحرب العالمية الثانية، أصبح الجبل الأسود أحد الجمهوريات الستة في الاتحاد اليوغوسلافي، وهي الفترة التي شهدت صعود الزعيم الشيوعي، جوزيف تيتو، إلى السلطة، من العام 1945 حتى العام 1980؛ وخلال العقود الأربع، لم يستطع المسلمون ممارسة شعائرهم الدينية بحرية وسلام، فانغلقوا على أنفسهم والتهمتهم العزلة مع اندلاع الحروب الأهلية التي شردت ومزقت ما تبقى لديهم من آمال.
لكن مع انتهاء هذه الفظائع، أعاد مسلمو الجبل الأسود الروابط بين أنفسهم والله، وبين الناس المحيطين أيضاً، من مختلف الطوائف، وساهموا بفعالية في القرارات السياسية المصيرية مثل الاستفتاء التاريخي، الذي جرى في الـ 21 من مايو/أيار 2006، للانفصال عن صربيا، فقد صوت المسلمون لصالح استقلال دولتهم، لإنهاء حلم “صربيا الكبرى” الذي أدى إلى سقوط آلاف القتلى خلال السنوات القليلة الماضية.
ولا يخفى على أحد أن هذه الواقعة انعكست إيجاباً على أوضاعهم السياسية والاجتماعية، حيث أسسوا أول مدرسة دينية ورمموا نحو 40 مسجداً بعد 100 عام من الحرمان والإقصاء، وتوقيع اتفاقية العام 2012 لتنظيم العلاقات بين الحكومة ومؤسسة الجمعية الإسلامية في الدولة، كما صار لهم نواب وشخصيات تمثلهم في مناصب مهمة من أجهزة الدولة، وهي الأدوات التي ساعدتهم في الانتفاح مجدداً على مجتمعهم، رغم أن أوضاعهم على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي لا أفضل ولا أسوأ من باقي مواطني الجمهورية الحديثة لأن الجميع يمر بنفس الظروف العامة القاسية، ولا استثناء أو أفضلية لجهة على حساب الأخرى.
التأثير الخبيث للسياسة
ظل الحال على ما هو عليه إلى أن واجه مسلمو الجمهورية تهديدات بالإبادة الجماعية مع فوز تحالف المعارضة، “السلام أمتنا” و”أسود على أبيض” من أجل مستقبل الجبل الأسود، الموالية للصرب وروسيا على الحزب الديمقراطي الاشتراكي، بإنتخابات الجمعية الوطنية العام الماضي (2020)، حيث ضربت البلاد موجة عنصرية ظهرت مع ترديد أغاني قومية صربية وقيام البعض بأعمال استفزازية ضد المسلمين، وكان أبرزها استهداف مبنى الاتحاد الإسلامي، الهيئة الرسمية التي تمثل مسلمي البلاد، وتحطيم نوافذه.
إضافة إلى عدد من الاعتداءات اللفظية والجسدية، وكتابة عبارات على جدران المدينة ضد المسلمين مثل “سريبرينيتشا”، وهي المذبحة التي قتل فيها الصرب أكثر من 8000 بوسني مسلم العام 1995، وعبارة أخرى مثل “يجب أن يصبح كل مكان وكل شخص صربياً”.
على إثر هذه الهجمات، سيطر الخوف على مسلمي الجبل الأسود، إذ إن كتابة كلمة “سريبرينيتشا” على الحوائط ليست فعلاً طائشاً أو عشوائياً، فالمذبحة لم تحدث من فراغ، وإنما بدأت بكلمات الكراهية أيضاً، ومن أجل ضمان عدم تكرار الماضي قال كبير أئمة بلييفليا، سمير قادريباسيتش، أن “هذا الهجوم كبير للغاية الآن، لا أعرف إلى أين ستسير الأمور لكني أخشى أن تكون هناك فوضى مع رد فعل الجانب الآخر”.
وسرعان ما جاءت دعوة كبير أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية الصربية في الجبل الأسود، المطران أمفيلوهيجي، للسلطات بالعثور على الجناة، قائلاً إنه لا ينبغي أن تكون هناك توترات عرقية في البلاد، ومضيفاً “لا يتعلق الأمر بشكل أصيل بالتعبير عن الكراهية الدينية والتعصب والشغب، بل يتعلق بخطة مدروسة جيداً لإثارة التوترات بسبب نتيجة الإنتخابات”، واستمر في حديثه محاولاً امتصاص المشاعر السلبية التي أيقظتها نتائج الانتخابات بقوله “الهجوم على مسلمي بلييفليا هو اعتداء على كل مسيحي في بلييفليا وعلى كل مواطن في الجبل الأسود”.
من السهل جداً أن نشعر بعمق الحساسية والتوتر التي تصيب المسلمين في المجتمع المونتينيغري عند ذكر كلمة “سريبرينيتشا”، وهي الإنفعالات التي ترغم رجال الدين والسلطات على اتخاذ إجراءات حازمة وعاجلة ضد كل ما يروج للكراهية الدينية والانقسام، والتعامل دوماً مع جميع الطوائف كمجتمعات متماسكة متحدة، وليست منفصلة أو منعزلة، ولولا تلك المواقف والخطابات لوصلت حدة التوترات بين المجتمعات المسلمة والصربية إلى نقطة الانهيار مرة أخرى.
*محررة في موقع “نون بوست”
المصدر: نون بوست.
مصدر الصور: يورو نيوز – Insider.
موضوع ذا صلة: لوك ميشيل (3/3): حروب البلقان موجهة ضد روسيا “القارية”