السفير د. عبدالله الأشعل*

سوف أحصر تحليلي بهذا الموضوع على النطاق المصري وحده. فمن الناحية التاريخية، تعرضت مصر إلى تأثير عدة تيارات، في سياق الحركة الوطنية المطالبة بالإستقلال عن بريطانيا، وكانت روافد الحركة الوطنية أربعة متجاورة، وليست متداخلة أو متضافرة.

يمكن القول بأن الرافد الأول يتمثل في “مدرسة التغريب، التي وجدت في المنهج الغربي الطريق إلى التقدم والتنمية على أساس أن المستعمر شكل لديها نموذجاً ناجحاً؛ والدليل على نجاحه، أنه إستطاع التغلب على الشعوب الأخرى. وكان هذا التيار يعتبر بريطانيا، بما لها من نفوذ عالمي، هي النموذج ولذلك لم يختلف زعماء هذا التيار، رغم انتمائهم إلى ثقافات أوروبية متنوعة. على سبيل المثال، لم يكن هناك فرقاً بين أحمد لطفي السيد، المتشبع بالثقافة البريطانية ومجموعة الباشاوات الذين تعلموا في الجامعات البريطانية الكبرى، وبين طه حسين، الذي تعلم في فرنسا وخلفيته الأزهرية، حفظت ذلك التوازن بين ثقافته العربية والإسلامية وبين ثقافته الغربية. وكان طه حسين نموذجاً فذاً في هذا المجال.

لكن الأزهر اتخذ موقفاً يصل إلى حد التكفير ضد طه حسين، فيما عرف بالقضية الشهيرة عندما الأخير كتابه عن الشعر الجاهلي، العام 1926. حينها، كانت البيئة المصرية الثقافية تحتمل هذا التنوع والإختلاف دون الإحتكاك، ولكن هذا الرافد التغريبي، وأحياناً يسمى “المتوسطي” نسبة إلى حضارات البحر المتوسط ومنها الحضارة المصرية القديمة، لم يكن يتخذ موقفاً عدائياً من الناحية السياسية ضد بريطانيا، وكان بعيداً عن ثورة 1919، أي ولم يكن قريباً من سعد زغلول ورفاقه، التي كانت أقرب إلى الشعبية منها إلى النخبوية وهذا التيار تغذى بالثقافة الليبرالية التي زرعها محمد علي باشا وكانت هذه الشخصيات تمثل سنابل هذه المزروعات.

أما الرافد الثاني، فهو الرافد “الشيوعي”، الذي دخل إلى مصر بعد الثورة البلشفية في روسيا العام 1917. معه، نشأت الأحزاب اليسارية والشيوعية والأجنبية في مصر على خلفية الحركة التقدمية الإجتماعية. بالمناسبة، إن هذا الرافد، وكذلك الرافد التغريبي، كان يتعاطف مع الحركة الصهيونية لدرجة أن طه حسين كان يعتقد أنها حركة خيرية إنسانية لضحايا الإضطهاد في أوروبا، خاصة في ألمانيا، أثناء الحرب العالمية الثانية.

شكل الرافد “الإسلامي” الرافد الثالث الذي بدأ بحركة “الإخوان المسلمين”، العام 1928. هذه الحركة كانت رافداً من روافد الحركة الوطنية، فلقد كانت غاية جميع الروافد، عموماً، هو جلاء الإنجليز واستقلال مصر والحصول على دستور. وبعد الحصول على الدستور، بقي مطلب الإستقلال هدفاً أساسياً لكل روافد الحركة الوطنية.

أما الرافد الرابع فهو الرافد الذي يمثله “الحزب الوطني”، المناقض لحزب الأمة الذي يضم كبار الملاَّك ومنهم شخصيات في الرافد التغريبي مثل أحمد لطفي السيد.

هذه الروافد جميعها كانت تتجاور ولا يحتك بعضها ببعض، ولكن كان التيار الإسلامي فيها لا يستريح للتيارين التغريبي والشيوعي، فكان أقرب إلى التيار الوطني. وقد أشرنا من قبل إلى الخلاف التركي – البريطاني حول طابا العام 1906، والذي إنحاز فيه مصطفى كامل إلى تركيا في هذا الخلاف، الذي كان يصب ضد مصلحة مصر. ولذلك، فلقد كان مصطفى كامل ضد التمرد العربي على العثمانيين، وكان ينتمي إلى النظرية القائلة بالدور الإسلامي الأساسي للدولة العثمانية.

ولكن التيارين الإسلامي والوطني، ذي الخلفية الإسلامية، كان أقرب إلى تكفير الشيوعيين وكذلك الليبراليين، وهذا أدى إلى نتائج مؤسفة في تقييم التيار الإسلامي لبعض الشخصيات الكبيرة في ذاك التيار، خاصة أولئك الذين خدموا الإسلام من موقعهم الليبرالي بشكل أكبر مما خدم الإسلاميون القضية الإسلامية في نهاية المطاف. وسوف نلقي أضواء على هذه القضية في سلسلة مقالات قادمة.

*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.

مصدر الصور: دي دبليو.

موضوع ذا صلةثبات الملكيات.. وتدحرج الجمهوريات