إعداد: مركز سيتا

يتخذ الشرق الأوسط اليوم حيّزاً أوسع بكثير من أي وقت مضى في حسابات الأمن القومي الصيني. ويطرح اهتمام بكين، ومشاركتها غير المسبوقة في هذا الشرق، عدداً من الأسئلة حول ما الذي يدفع هذا النشاط؟ وما الذي يفسر اهتمامها المتزايد في هذه البقعة من العالم؟ وما هي إنعكاسة هذا الانفتاح والتطور على الولايات المتحدة؟

فمن خلال جولته على الشرق الأوسط، أعطى وزير الخارجة الصيني، وانغ يي، إشارات واضحة على أن بلاده تعتزم التحول للعب دور محوري في شؤون المنطقة، في حين أعرب الرئيس الأمريكي، جو بايدن، عن قلقه من التعاون الاقتصادي ‏بين الصين وإيران.

إهتمام متجدد

إن اهتمام بكين بالشرق الأوسط، يأتي بالدرجة الأولى، كنوع من توسيع دائرتها الاقتصادية، فضلاً عن محاولة إعادة التوازن إلى سياساتها الداخلية والخارجية من خلال توثيق الروابط مع مناطق ودول أخرى ليس لها فيها حضور، تاريخي أو حالي، كبير.

من هنا، يبرز تزايد الاهتمام والمشاركة الصينية في دول الشرق الأوسط من خلال الاعتماد على موارد الطاقة فيها، كأحد أهم عناصرها، وبما يحقق نجاح المشروع الصيني المتمثلة في مبادرة “الحزام والطريق”، أو ما يُعرف بـ “طريق الحرير” الجديد، التي أعلن عنها الرئيس شي جين بينغ، في سبتمبر/أيلول العام 2013، حيث أدرجت بكين الشرق الأوسط ضمن المبادرة لبناء حزام طريق بري وطريق بحري لربط الصين بالعالم، ومن ضمنه الشرق الأوسط بالتأكيد.

لكن وبنفس الوقت، لا يزال “التنين” الصيني حذراً جداً من أن يتسبب هذا التوسع بالتورط في التوترات والخلافات الإقليمية الحاصلة بالمنطقة، في حين يشكّل التصدي للولايات المتحدة، وفك طوقها عنه، أحد العوامل المحركة له، ناهيك عن مسألتي التجارة والإنفتاح على العالم – التي تأتي في المرتبة الأولى من مشروعه.

فعلى صعيد التعاون، ترى بكين أن التعاون مع السعودية مبني على علاقات اقتصادية متينة وعلاقات دبلوماسية متواضعة ودية، وعلاقات عسكرية محدودة. هذا الأمر، لن يشكل بالضرورة مصدر قلق لواشنطن – لكون علاقاتها مع الرياض أعمق بكثير، فقد يكون هذا التعاون مفيداً ويساهم في تشكيل بيئة إقليمية أكثر استقراراً.

أما على صعيد المواجهة، فهناك مثلٌ حديث يكمُن في الإتفاق الإستراتيجي الذي وقعته الصين مع إيران مؤخراً، حيث ترى بكين أنه يشكل ورقة قوة لها في مواجهتها مع واشنطن خصوصاً بعد فشل محادثات آلاسكا، بالإضافة لما تمثله طهران من موقع إستراتيجي للقارة الآسيوية حيث تتشابك فيه طُرق المواصلات مع المشاريع العالمية، مثل “طريق الحرير” والمشروع “الأوراسي” الروسي، ناهيك عن إختزانها لكميات ضخمة من الطاقة، والقدرة العسكرية الذاتية التي تتمتع بها.

لذا، يمكن القول بأن بكين لا تريد الدخول في النزاعات؛ لكن يرى العديد من المراقبين يرون بأنه إذا ما اضطرت لذلك، فلن يكون تدخّلها “نزهة”.

الجمع بين المتناقضات

منذ توليه رئاسة الصين العام 2013، يبذل الرئيس شي جهوداً كبيرة في الانفتاح على الشرق الأوسط وإفريقيا، والمنطقة العربية على وجه الخصوص من أجل بناء أسس نفوذ صيني في شتى المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية.

اليوم، هناك تحوّل في سياسة الصين يبدأ من تفادى الاصطدام المباشر مع السياسات الأمريكية أو حتى الأوروبية إجمالاً وينتهي بـ “تدوير” للزوايا من خلال إدارة علاقاتها، ومنها تلك مع المنطقة، على مستويات جماعية عبر إدارة العلاقات من خلال مستويات ثنائية مع الدول منفردة وبصرف النظر عن صراعاتها البينية، أو طبيعة ارتباطاتها بالسياسات الأمريكية، إذ تسعى بكين للجمع بين المتناقضات، على غرار زيارة الرياض وطهران مثلاً.

فما يمكن قوله هنا، أنه ومهما بدا ميزان القوى العالمي اليوم بأنه يميل باتجاه الولايات المتحدة، لكنه تغيّر بلا شك خصوصاً مع ظهور شبه تحالف مضاد – بين الصين وروسيا وإيران – لمواجهة “المارد” الأمريكي، إذ يزداد هذا التحالف قوة وصلابة يوماً بعد يوم.

في هذا التحالف، ستلعب كل دولة دوراً ما؛ على سبيل المثال، ستلعب إيران دوراً مهماً في كل من سوريا والعراق واليمن لتحقيق التوازن مقابل النفوذ التركي – الأطلسي. كما ستعمل روسيا على إيجاد صيغة محادثات مباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين مما يعزز هبوط وتراجع مؤشرات النفوذ الأمريكي في هذه القضية، بالإضافة إلى تواجدها في سوريا، ناهيك عن المواجهات المستترة في مناطق عدة، كأوكرانيا والبلطيق والقطب الشمالي.

توغّل في العمق

إن زيارة وزير الخارجية إلى دول الخليج، حتى وإن كانت بعيدة عن مفهوم التنافس مع الولايات المتحدة، من حيث الشكل، لكنها لا تقرأ إلا من هذه الزاوية خاصة وأن هناك فتور بعض الشيء بين واشنطن والعواصم الخليجية، بدأت مع الطلب الأمريكي بوضع نهاية لحرب اليمن إضافة إلى موضوع العودة للاتفاق النووي.

كل ذلك يشكّل ملفات حيوية بالنسبة لدول الخليج، وتحديداً السعودية، ما يضع تلك الدول – بحسب عدد من المراقبين – على بداية مفترق طُرق بين واشنطن وخصومها؛ بالتالي، شكّلت الزيارة الصينية “رداً غير المباشر” على سياسات واشنطن، التي يبدو أنها قد تلقفته جيداً.

وبحسب الوزير وانغ وي، بحثت الزيارة علاقات الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين بكين والعواصم الخليجية التي زارها، حيث ترى الصين أن الشرق الأوسط يتمتع بالحضارة التاريخية العريقة غير أنه ما زال يتأثر بعدم الاستقرار، حيث يصادف هذا العام الذكرى الـ 10 لـما سُمي بـ “الربيع العربي”.

وعند مراجعة هذه الأحداث المؤلمة، نجد أن تداعيات تلك الاضطرابات ما زالت تقوّض أُسس الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط؛ في الوقت نفسه، فقد رأينا أن دوله ما زالت تعمل على استكشاف سُبل تنموية بإرادتها المستقلة، وصيانة الاستقرار وإحلال السلام، بما يجلب أملاً جديداً لاستعادة الأمن والاستقرار إليها.

من خلال الجولة أيضاً، وضع الوزير يي مبادئ تحتاج دول الشرق الأوسط إلى تبنيها لتحقيق قدر من الاستقرار الإقليمي، في ظل التوترات التي تسببت في إثارة الفوضى وأقلقت أمن دول الخليج، كما لم يخفِ يي التزام بلاده بحل المشاكل فيها حين قال إن “الصين مستعدة لاستضافة حوار أمني خليجي متعدد الأطراف يركز في البداية على تأمين المنشآت النفطية والممرات الملاحية”.

في هذا الشأن، يقول جيمس دورسي، الخبير في قضايا الشرق الأوسط والأدنى، إنه “تجد الصين أن الحفاظ على علاقات جيدة مع جميع الأطراف سيعمل بشكل جيد طالما أن هذه العلاقات تركز على الاقتصاد.”

رسائل بأبعاد متعددة

من مدينة أنكوراج الأمريكية، إلى مدينة قويلين بمقاطعة قوانغشي الصينية، إلى الشرق الأوسط، تشهد الدبلوماسية الصينية نشاطات متنوعة؛ ففي المدينة الأولى، أعلن الوفد الصيني بصوت عالٍ وواضح للعالم أن الصين والولايات المتحدة يجب عليهما استكشاف طريق للتعامل بين الدول الكبرى والذي يقوم على أساس تفادي المواجهة والصدام وتفعيل مبادئ الاحترام المتبادل ومجالات التعاون والكسب المشترك، حيث أرادات واشنطن من الجلسة أن تكون “محاولة” لإجبار بكين على ابتلاع “الجرعة المرّة” عبر التخويف والتهديد وفرض العقوبات، والتي ستبوء بالفشل لكون الأسلوب نفسه قد إعتُمد سابقاً ولم يأتِ بأية نتيجة.

وفي مدينة قويلين، عقد وزيرا الخارجية الصيني والروسي أول لقاء بينهما في العام الجاري، 2021، أمام عالم يشهد العديد من التغيرات والتعقيدات، حيث يرى بعض المحللين بأن كلاً من الصين وروسيا – كدولتين كبيرتين – تحملتا المهمة التاريخية بشكل مشترك، واستجابتا لمتطلبات العصر، وقدمتا مساهمات كبيرة ومستمرة في السلام والاستقرار في العالم عبر التعاون الاستراتيجي الشامل ورفيع المستوى بينهما.

أما على صعيد المنطقة، أنجز يي 6 زيارات لدول الشرق الأوسط فور انتهاء اللقاء مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في ذات اليوم، حيث أتت هذه الجولة – باعتبارها أول جولة لوزير الخارجية الصيني للشرق الأوسط منذ 7 أعوام – لتسجل رقماً قياسياً من حيث عدد الدول التي يزورها وزير الخارجية الصيني في جولة واحدة؛ فالصين كعضو دائم في مجلس الأمن وبلد كبير مسؤول، أصبحت محافظة ومدافعة ومساهة حازمة للنظام الدولي القائم والسلام والتنمية في الشرق الأوسط، حيث سعت من خلال هذه الجولة – وفي هذا التوقيت بالذات – إلى بذل قصارى جهدها مع الأصدقاء لتعزيز السلام والأمن والأمان في هذه المنطقة.

أخيراً، إن الوضع الراهن الذي يخيم على المنطقة يعمل بشكل أساسي لصالح الصين، التي حددت الهدف الأكبر لها وهو الاهتمام بالجانب الاقتصادي على حساب إثارة الخلافات، بينما إهتمت الولايات المتحدة بالنقيض أي بالحروب والنزاعات ومحاربة الحركات الإسلامية وغير ذلك.

من هنا، شقت بكين طريقها وقامت بتمهيده لتبدأ بقطاف نتائج سياستها الحذرة تجاه المنطقة وتغيّر من نظرة العالم لها خاصة في الشرق الأوسط، لا سيما عندما تم اللعب بورقة الإيغور لتأليب العالم الإسلامي ضدها.

مصدر الأخبار: سيتا + وكالات.

مصدر الصور: شبكة طريق الحرير الصيني الإخبارية.

موضوع ذا صلة: التقارب الصيني – الروسي وتأثيره على التوازنات في الشرق الأوسط