لطالما تغنينا ببلادنا ذات الحضارات الممتدة لآلاف السنين. حضارات متعاقبة أثبتت أن هذه الأرض مجبولة بعرق الأصالة والقداسة والملكية بمعانيهم الوجدانية، دون تكلف، من المقطوعات الموسيقية إلى الصباغ الأرجواني، والمصاغ والحلي والأوابد والآثار الشاخصة إلى يومنا هذا التي تؤكد عظمة حضارتنا العربية الراسخة والثابتة في مخطوطات أزلية لن تمحى من ذاكرة الأمة ما حيينا.
أين إنسانيتنا؟
لا بد أن نقف هنا مطولاً، وصدقاً أشعر بالمهانة من وصف أجيالنا وشبابنا بالإستهتار والتفاهة التي هي وإن وقفنا عندها نجد أنها صناعة غربية بإمتياز، صناعة إعتمدت على تسطيح عقول الشباب، وإلهائهم بأمور وإن تملكوها ظنوا أنهم ملكوا الدنيا، من الهواتف المحمولة واللوائح الرقمية والحواسيب المحمولة التي تحوي ألعاب الإلهاء عن قضايانا الأسمى وإبعادهم عن مركزية القضية الأهم “فلسطين”. فماذا نفعل إزاء هذا الوضع الهجين الذي أصبح أساس كل شيء في حياتنا؟ مستعمرات غزتنا ونحن داخل بيوتنا، لا بل زد على ذلك وداخل مؤسسات بلادنا الحساسة التي أصبح أرشيفها رقمي مرتبط بشبكات دولية تراقبنا دون أن نشعر وتستطلع بياناتنا دون أن نعلم.
نحن نعيش في عالم الماديات حيث باتت الإنسانية خاضعة أيضاً لمبدأ الربح والصرف، فما كان لنا إلا فيروس “كورونا” لندرك مدى خطورة العالم الذي كنا نعيش فيه. وأمام ما يمر به الإنسان في مختلف بقاع الأرض، عزلنا الآن ما هو إلا موت إنساني ينبهنا بقرب نهايتنا في هذا العالم إن نحن لم ندرك جهلنا وإن لم نوقظ الإنسانية فينا.
لقد بتنا في عصر بلغت سرعة صاروخ كروز فيه، على سبيل المثال، 16 ألف كلم في الساعة، وتحول القتل من الحرارة إلى إستخدام الأشعة التي تم تجريبها بغالبيتها على الدول النامية من هذا العالم، إلى إختراع القنبلة النيوترونية التي تنهي البشر دون ضرر في المنشآت والأبنية. فلكم أن تتخيلوا إلى أي مدى يتم التحكم بهذا العالم.
“حرب النجوم”
ما نراه في السماء من أجرام وكواكب ونجوم ودراستها وفتح محطات كبرى لهذا الغرض كوكالة “ناسا”، يعتقد البعض أن ذلك تطور وترف علمي، ولا علاقة للحروب في هذا الأمر وما يدور على الأرض، لكن ربطاً مع وصول الإنسان إلى سطح القمر، وإستخدام وسائل الإتصالات اللاسلكية فهذا يعني وجود رقابة قد تكون شبه شاملة على كل دول العالم من قبل كبرى الدول العظمى، من خلال الأقمار الصناعية التي زرعتها لهذه الغاية. فهذا الأمر تنبهت له الولايات المتحدة وعندما نذكرها حكماً نربط إسرائيل المزعومة معها، حيث استغنت واشنطن عن تجنيد العملاء مقابل الإختراعات الحديثة التكنولوجية التي أتاحت لها التنصت والتجسس بسهولة على الأهداف التي تريدها، إلى جانب الطائرات المسيرة – الدرونز التي باتت إلى حد ما جيشاً مستقلاً بحد ذاته.
في مقابل ذلك، تنبه بعض من هذا العالم إلى خطورة هذا الوضع، وبتنا نرى صواريخ يقابلها صواريخ مضادة، رادار يقابله أجهزة تشويش، وهذا الأمر يعود لإرادة الشعوب في الوقوف ضد هذا الخطر الكبير.
إذاً، إنهارت البنى والنظم القديمة التي تعودنا عليها تدريجياً أمام وصول الإستعمار الحديث لإستخدام العولمة، وأصبح التطور رقمياً أي “تكنولوجيا المعلومات”؛ فالشركات الجديدة التي إعتمدت هذا الأمر وجودها يقتصر على تدمير البنى القديمة، وبدل أن تكون ذات منفعة عامة للجميع أصبحت رؤوساً نووية تتغلغل في كل مرافق حياتنا. فالكيان الصهيوني، بجوهره الرأسمالي والإستيطاني المعولم، هو نظام عدائي بالبنية والوظيفة معاً، كما أن عدوان العام 1956، من قبل بريطانيا وفرنسا والكيان الاحتلال الصهيوني، عنوانه “إقتصادي” للسيطرة على قناة السويس، وبالتالي السيطرة على النفط وإسقاط الزعيم جمال عبد الناصر.
التحكم المضاد
أطلقت إيران قمراً اصطناعياً عسكرياً “نور – 1″، فبراير/شباط الماضي 2020، ما يعني هنا القدرة الذاتية لطهران في مواجهة العولمة الغربية التي أرادت تحطيمها منذ العام 1979 وإلى اليوم من خلال حصار خانق وعقوبات إقتصادية، أي السلاح الغربي المعتاد لأي بلد يتحدى الإدارة الأمريكية. وإن توقفنا قليلاً، يجب الفخر بقدرة إيران على بناء منظومة متكاملة تكنولوجية وتسليحية وحتى على صعيد الأمن الغذائي الذي أمن للشعب قوت يومه دون التأثر الداخلي على الأقل من هذه العقوبات، والجميع علم مؤخراً كيف إستطاعت طهران كسر هيبة واشنطن وإيصال ناقلات النفط إلى فنزويلا التي تقاوم الجبروت الإستعماري والهيمنة الأمريكية عليها، والتي حاولت بإنزالها الفاشل الأخير تغيير الوضع في كراكاس بالقوة، لكنها حصدت الخيبة كعادتها.
المهم هنا هو قدرة الشعوب على مقاومة الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية للإنتاج الصناعي العسكري والطبي والغذائي والتكنولوجي، وما إيران إلا نموذجاً يحتذى به وهذا ما دفعني للكتابة حول أن يكون لنا تجربة رائدة كدول عربية، مثل إيران، ولا ضرر في ذلك بل هو وضع مشرف لنا إن تم.
ترصد عالمي
إن التحكم بعقول الشباب اليوم بات كما ذكرت عبر وسائل تراها إجتماعية في الظاهر، كمواقع التواصل الإجتماعي “فايسبوك” و”تويتر” و”إنستغرام” و”فايبر”، وغير ذلك، ننشر وننشر ونكتب آرائنا ومواقفنا وتُرك لنا العنان في وقت من الأوقات، حتى تحسسنا الخطر الحقيقي جراء ذلك. ففضلاً عن بياناتنا التي أصبحت في متناول الشركات الأم في أمريكا، باتوا يتحكمون بما نكتب، فما لا يناسبهم يقومون بحظره مع عقوبة وكأننا في المرحلة الإبتدائية، التي كان فيها الأساتذة يصنعون منا جيلاً مهذباً ومؤدباً. أما اليوم، ما يقوم به الغرب هو خنق حرياتنا التي إحتلوا دولاً عربية بحجتها، وهنا تكمن إزدواجية المعايير، فترى بيانات الغرب والصهاينة تنتشر وتسوق كالنار في الهشيم، خاصة المواضيع التي لها صلة بالتطبيع مع العرب لكسر ما تبقى من داخلنا المحطم جراء هذا الأمر، ولا ننسى الغزو الفكري والثقافي وما يقوم به المستشرقين والمسلسلات ذات الطابع المستفز كما أسلفنا في مقال سابق عن “أم هارون” وغيره، ولا ننسى بعض الحكام الذين يزورون الولايات المتحدة وشركة “فايس بوك”. لماذا يا ترى؟
الجواب بسيط، فمن موقع الترصد العالمي إلى الترصد الداخلي، والإحياء من قبل الغرب لكل الحكام العرب أن هناك فئة تتربص بهم وتريد الإنقلاب عليهم ويجب التنبه لها عبر مراقبتها من خلال تكنولوجيا المعلومات، فباتت الأجهزة التي نملكها من تحديد الموقع إلى التنصت على المكالمات إلى التهكير والولوج إلى دواخل خصوصياتنا كل ذلك جلبناه بأيدينا.
هذا ينطبق على كبرى الشركات، كـ “مايكروسوفت” و”آبل” و”غوغل” و”أمازون” وغيرهم مما سبق وأن ذكرناهم، التي تتنافس ظاهرياً فيما بينها لكنها ليست إلا حلقة واحدة من دائرة مغلقة في يد النظام العالمي. مثلاً، شركة “تويتر” التي تدار من إحدى الدول الخليجية أصبحت منصة تترصد نشطاء الرأي ويتم إعتقالهم بناءً على تغريدات لا تتوافق وحكام الدول، وهذا مؤشر خطير يذهب بنا إلى أن هذا النظام بات يتحكم ببلادنا. فأين دول مجلس التعاون الخليجي من ذلك؟ أيضاً، مواقع التشات أو الدردشة، كـ “الواتسآب” وغيره، ما هي إلا أجهزة تعقب لأدق التفاصيل التي نعتقد أنها خاصة. بالتالي، تعمل مراكز التحليل الغربية على رصد نقاط الضعف لدينا ومحاربتنا بها. فهل تتوقع أن “الموساد” الإسرائيلي غافل عن هذا السلاح؟ قطعاً لا. إن الحكومات الإلكترونية للدول المهيمنة تسيطر على تفاصيل الدول الأخرى وكل أجهزتها الأمنية عرضة لهذا الخطر.
الحروب التجارية
دائماً ما ينظر أصحاب الإختصاص، بالشأنين الإقتصادي والنقدي، إلى النظام المالي العالمي نظرة واقعية تسعى لقياس حجم هذا النظام ودعائم ارتكازه الأساسية التي تنسب عادة إلى تحكم الدول ومراكز صنع القرار السياسي فيها، خصوصاً حكومة الولايات المتحدة التي تشرف بشكل مباشر على طباعة وترويج الدولار. مثلاً، البنوك ذات التسهيلات المصرفية وذات السيولة النقدية الفائقة قد ظهرت مستقلة عن الحكومات، يملكها مصرفيون محدودون في العالم، أي “مافيا المال العالمي”، الذين يشكلون رأس الهرم الماسوني، الذين هم دعائم مركزية البنوك الأساسية في العالم.
وكان هذا بلا أدنى شك سلاح الماسونية عبر واشنطن ضد العالم أجمع، فلم يمضِ على الحرب التجارية مع الصين الكثير، أكبر إقتصاد عالمي، وكذلك روسيا. من هنا، إنبثق تجمع دول “البريكس” وإنشاء مصرف خاص بهم وحتى أنه تم الحديث عن التداول بالعملات المحلية ما يعني إنهياراً، حتى ولو كان طفيفاً، لوجه الهيمنة العالمية ما يعني أن الاقتصاد أيضاً فيه جانب مقاوم. ومن المعلوم أن عائلة روتشيلد هي من تتحكم بالنظام الإقتصادي العالمي، لكن هناك ثورة رقمية خرجت من أدمغة ضاقت ذرعاً بالتحكم بمصائر البشر. ومن هنا، أين العرب من كل ذلك؟
أخيراً، وكما أركز دوماً في جميع مقالاتي وكتاباتي ولقاءاتي على موضوع الإقتصاد المقاوم، فالجميع رأى كيف تحكم الغرب بمسألة الجائحة العالمية. فما بعدها ستكون سيطرة كاملة على الإقتصاد العالمي الكبير، وبتنا نسمع أخبار عن إنهيار عالمي لشركات كبرى، لكن في مقابل ذلك خرجت شركات لتشتري أسهم الشركات المنهارة ما يعني أن هناك حلقة مفقودة ترتبط إرتباطاً وثيقاً بكل ما سبق. ولمقاومة هذا الأمر، يجب تفعيل العمل ودعم الأدمغة التي نملك منها الكثير من شبابنا، فبدل أن يحلم الشاب العربي بالهجرة لتحسين واقعه، يستطيع من هنا بدعم من حكومته، إستبدال “الفايسبوك” وغيره بمواقع عربية لها جدار حماية محلي، كالنماذج الإيرانية والروسية والصينية، فنحن نملك القدرة وكل ما نحتاجه هو البدء في التطبيق.
*كاتب وحقوقي كويتي.
مصدر الصور: النهار – الميادين.
موضوع ذا صلة: “نور – 1”: التوقيت والدلالات