أربع هجمات إرهابية في شهر واحد فقط عانت منها أوروبا نهاية الفصل الأخير من العام 2020، كان مسرحها مدينة درزدن في ألمانيا، والعاصمة الفرنسية باريس ومدينة نيس، وأخرها فيينا عاصمة النمسا، يأتي ذلك بعد 5 أعوام من الليلة الدامية في باريس، والتي أسفرت عن مقتل 130 شخصاً. وتظهر التحقيقات أن هجمات الجناة الأفراد – الذين تم دمجهم في شبكات مكونة من أشخاص لهم نفس الرأي والتفكير – يشكلون على وجه الخصوص التهديد الأكبر، مترافقاً مع تبني ووعيد من تنظيم الدولة الإسلامية – “داعش”.
ينظر الإعلام الألماني للحالة المقلقة للأمن في العقد الأخير إلى “أن الإرهاب بإسم الإسلام في أوروبا لا يزال بعيداً عن الهزيمة، ويدعو السياسيين الألمان الى التفكير في فرض ضوابط أقوى على الحدود، والتطلع إلى تعاون أوثق بين الأجهزة الأمنية، واتخاذ إجراءات أقوى ضد التهديدات الإسلاموية.”
هل فعلاً أصبح الوضع الأمني مقلقاً للأوروبيين بحيث “أن الإرهاب القادم بإسم الإسلام في أوروبا لا يزال بعيداً عن الهزيمة”؟ أم أن أوروبا سوف تستقبل الإسلام السمِح المعتدل – وفق اعتقاد المستشرق الهولندي يان ياب دي راوتر – الذي يسجل مأثرة غير متوقعة في ظل التعصب السائد بقوله “مستقبل الإسلام في أوروبا وليس في العالم العربي والإسلامي”، ويبرر إدعاءه بأن “العالم أصبح غير قادر على استيعاب الإسلام التقليدي، وإنما نسخة ملطفة، متحضرة وديمقراطية منه، هي تلك التي ظهرت وترعرعت في الغرب وتشبعت بمبادئ الديمقراطية والحرية والتعدد”؟
سوف نعالج في هذا البحث نظرية المغالاة في التعاطي مع ظاهرة الإسلام السياسي، التي تمظهرت بقالب الإرهاب واجراءات التصدي والوقاية المقررة والمقترحة، وكذلك نظرية التسامح والتعايش وفق علمانية أوروبا الحضارة والتاريخ، في مقالات ظهرت في معظم الإعلام الأوروبي وفي آراء بعض المهتمين بالفكر الإصلاحي في سبيل مستقبل أفضل.
الإسلام السياسي ـ الجذور الأيديولوجية للتطرف
“الإسلام السياسي” هو مصطلح للتعبير عن جميع التيارات الإيديولوجية والسياسية التي تهدف إلى إقامة دولة/خلافة تقوم على مبادئ الإسلام، سواء على مستوى الدولة أو على مستوى المجتمع. اليوم، أصبح “الإسلام السياسي” يستعمل في الغالب كرديف للإسلاموية وبالتالي الراديكالية الدينية، وحتى العنف الإرهابي. والمفارقة هي أن الإسلام السياسي هو مفهوم نشأ في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين لتوصيف ظاهرة عودة الدين إلى المجال السياسي، كرد رد فعل على الأنظمة الاستبدادية العلمانية بالدعوة إلى العودة للشريعة وإقامة دولة إسلامية .
تعود الجذور الإيديولوجية للإسلام السياسي للسياق الاستعماري في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين عاد مفكرون إصلاحيون مثل جمال الدين الأفغاني (1838 – 1897) ومحمد عبده (1849 – 1905) إلى النصوص الدينية المُؤَسِسة لمواجهة تفوق الغرب العلمي والتكنولوجي، وذلك من خلال محاولة إعادة تفسير التراث الإسلامي، حيث سعى هؤلاء المفكرين إلى إحياء المجتمع الإسلامي وتعبئته.
غير أن في هذا الزخم الإصلاحي الأوّلي تمت إعادة التوجه نحو مشروع إسلامي شامل مناهض للغرب من أبرز وجوهه رشيد رضا (1865 – 1935)، الذي دعا إلى عودة دولة الخلافة، ولم يعد الأمر يتعلق بـ “تحديث الإسلام” وإنما بـ”أسلمة الحداثة”. نهج اختارته جماعة “الإخوان المسلمين”، التي تأسست في مصر العام 1928 على يد حسن البنا (1906 – 1949) ويعتبرها المؤرخون مُلهمة الجماعات الإسلامية التي ستظهر في المنطقة خلال القرن العشرين.
وعلى الرغم من أن “الإسلاموفوبيا” أصبحت من الظواهر الشائعة في الاعلام، الا انه لا يوجد تعريف مقبول على نطاق واسع لهذا المصطلح، فمنظمة المؤتمر الإسلامي تدين تنامي ظاهرة “الإسلاموفوبيا”، ضمن تقريرها الأخير بالكلمات التالية “الإسلاموفوبيا ظاهرة مرتبطة بمفاهيم الخوف والكراهية والغضب.” وقد وصف تقرير رونيميد ترست لعام 1997 الإسلاموفوبيا بأنها “طريقة مختصرة وفعالة للإشارة إلى حالة من الرهبة أو الكراهية الموجهة ضد الإسلام، وبالتالي المؤدية إلى الخوف أو كراهية كل او معظم المسلمين”. والمصطلح إنجليزي يتكون من كلمتين “الإسلام” و “فوبيا” والتي تعني “رهاب” أو “خوف”، والمصطلح يعني “رُهاب الإسلام” أو “الخوف المرَضي من الإسلام”، هو مصطلح تم ابتكاره للتعبير عن ظاهرة انتشرت بشكل واسع في المجتمعات الغربية وخاصة أوروبا.
أولاً: في نظرة أوروبا لظاهرة العنف الإسلامي – ألمانيا وفرنسا نموذجاً
تحت عنوان “معركة الحسم ـ أوروبا تستعد لاستئصال الإسلام السياسي؟”، كتب حسن زنيند، الباحث في موقع DW عربية، يقول “يبدو أن سَيل الإرهاب بلغ الزبى في أوروبا، بعد توالي الضربات الإرهابية على أراضيها بإسم الإسلام السياسي. معركة، بادرت باريس لقيادتها، في وقت وصلت فيه القارة العجوز لمفترق طرق حاسم ومصيري كما يرى عدد من الخبراء الألمان.”
تزامنا مع محاكمة المتورطين في الهجوم على صحيفة “شارلي إيبدو” الساخرة – العام 2015 – وهجمات نيس وفيينا، فرض موضوع تجذر المجموعات الإسلاموية الإرهابية في أوروبا نفسه من جديد على جدول أعمال عواصم التكتل القاري. وهكذا، وضعت أجهزة الشرطة والاستخبارات نفسها في حال تأهب نظراً لما يتمتع به تنظيما “الدولة الإسلامية” و”القاعدة” من قدرات على إعادة تنظيم نفسيهما. فقد دفعت أوروبا ثمناً باهضاً بعد سلسلة من الاعتداءات الإرهابية خلال السنوات الأخيرة.
ألمانيا وفرنسا – كانتا وما تزالان – تقارعان الموضوع بجدية ملفتة، نظراً لعدد الجاليات الإسلامية في البلدين وتاثير العائلات والعشائر وتكتلاتهما مقابل القوانين السارية، ويبدو التنسيق على أعلى المستويات بين السلطتين، فقد دعا الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، كافة الدول الأوروبية إلى “محاربة الإرهاب بشكل مشترك”، معتبراً أن الهجوم على النمسا عقب الاعتداءات في فرنسا يُظهر أنه لا يوجد بلد بمنأى عن الخطر، مضيفا أن “الاعتداء يُظهر نيّة أعدائنا مهاجمة ما تمثّله أوروبا من أرض حرّيات وثقافة وقيَم. لذا لن نخضع”. ويتشابه هذا التصريح مع ما قالته المستشارة الألمانيّة، أنجيلا ميركل، عن “المعركة المشتركة” في مواجهة “الهجوم على قيمنا الأوروبّية”.
1. ألمانيا
في أكبر ولاية ألمانية، شمال الراين وستفاليا، حذر تقرير عن الوضع الحالي للسلفية من أنه “يجب إيلاء اهتمام خاص بالإمكانيات الكبيرة للسلفيين الشباب ذوي التوجهات العنيفة. ويرى الخبير الفرنسي في الإسلام السياسي، أوليفييه روي، أن هؤلاء الشباب، هم في الغالب، شباب “مولعون بعنف الجهاد” من دون دراسة معمقة للقرآن، مشيراً إلى أن “هناك ثورة للشباب قائمة على الفكر الإسلاموي، وهو الفكر الذي تتبناه تنظيمات مثل القاعدة وداعش”، مضيفاً لـ DW حول موضوع “نيل الشهادة”، قائلاً “عندما يتوجه هؤلاء الشباب للقتال يتوقعون أن يُقتلوا أيضاً. هذه ليست إيديولوجية بقدر ما هو طريق شخصي يختارونه ويكون لديهم هدف واحد وهو الاستشهاد والذهاب إلى الجنة”.
ويتحدث عالم الاجتماع في فرانكفورت، فيليكس روسمييل، للموقع الإلماني ذاته، عن “محاولة إثبات النفس”، ويوضح “يرغب الشباب والشابات في إثبات أنفسهم وفق توقعات معينة، وبالتالي يُجبرون أيضاً على ارتكاب أعمال عنف، مضيفاً “إنه يمثل بديلاً عن معايير إثبات النفس الشائعة، والتي ترتبط في مجتمعنا بشكل أساسي بالعمل المهني والنجاح التعليمي”. ويرى الخبير القائم على مشروع بحثي حول موضوع الجهاد أن هذا ما يجعل من الشباب الذين يعانون من صعوبات في الانتقال إلى حياة البالغين، فريسة سهلة لاستقطابهم للجهاد.
خطر التطرف خلف القضبان
إمكانية تكرار الهجمات كبيرة بالفعل، إذ يبلغ عدد ما يسمى بالإسلامويين الخطرين حوالي 620. ووفقاً لبحث أجرته صحيفة “فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ”، فإن أكثر من 130 إسلامياً في السجون الألمانية، سيتم إطلاق سراح العديد منهم بعد فترة وجيزة من قضاء عقوباتهم. صحيح أن أعمال مكافحة التطرف والوقاية تتم داخل السجون من خلال منظمات مثل VPN، غير أن وباء “كورونا” يجعل هذا العمل حالياً صعباً للغاية، كما أفاد ينس بورشيرت، الخبير في علم الجريمة من جماعة ميرسيبورغ للعلوم التطبيقية. العديد من برامج نزع التطرف داخل السجن لا يمكن أن تبدأ أو تعمل بالقدر الذي كان مخططاً له في الأصل”. بورشيرت يتحدث عن “مزيج قابل للانفجار” داخل السجون لأن “كورونا” تعني قلة عدد العاملين في السجون وتداول كل أنواع قصص المؤامرة.
هذا ما أكده موظفو القضاء لـ DW، الذين شددوا على أنه على الرغم من جميع التدابير المتخذة في الأعوام الأخيرة، لا يزال هناك خطر التطرف وراء القضبان، والهجمات موضوع متداول بين المعتقلين، حتى لو لم يظهر هؤلاء تمجيدهم للعنف أمام موظفي السجون ومنظمات نزع التطرف.
عملية نزع التطرف، تبقى لها حدود
توماس موكه، رئيس شبكة تعمل على نزع التطرف من المتطرفين، يعرف مثل هؤلاء الأشخاص، لأنه يعمل معهم. قال موكه “نعلم بطبيعة الحال أن الأشخاص غير المستقرين أو الذين يعانون حالياً من أزمة يمكن تجنيدهم بسرعة كبيرة من قبل الوسط المتطرف”. عندما يعمل موظفو الشبكة مع الأشخاص الخطرين والعائدين من تنظيم الدولة الإسلامية والمجرمين الإسلامويين العنيفين داخل السجون، فإنهم يهتمون في المقام الأول بـ “تمكين هؤلاء من طرح الأسئلة وتطوير أفكارهم الخاصة مرة أخرى”، كما يقول المدرب وخبير العلوم السياسية. ويستدرك موكه قائلاً “داخل الجماعات المتطرفة، لا يعرف هؤلاء سوى الطاعة والخضوع، ويفقدون القدرة على طرح الأسئلة وتطوير أفكارهم الخاصة”، غير أنه يرى أن عملية نزع التطرف، تبقى لها حدود أيضاً “حتى لو حاولت جاهداً في مجال الأمن، في مجال العمل الاجتماعي والتربوي، فلا ينبغي أن يتوهم المرء أنه لن يكون هناك هجوم أبداً. ستتكرر الهجمات”.
ما يجعل الوضع خطيراً للغاية ويضع تحدياً أمام السلطات الأمنية هو أن الإرهاب الإسلاموي لا يحتاج إلى منظمة بالمعنى التقليدي: خلايا سرية ومقرات خفية، فشبكات التواصل الاجتماعي كافية، وإمكانات الأشخاص المتطرفين كافية والتي يمكن الوصول إليها من خلال الدعاية أو الهجمات الأخرى.
ويشير موكه إلى عدم وجود تسلسل قيادي واضح “بل يتم تغذية الفكر عبر الشبكات: عليك أن تفعل شيئاً الآن”، ثم هناك أشخاص يتخذون الإجراءات من دون أن يعطيهم أحد أمراً بذلك”؛ لذا، فهي في النهاية معركة ضد هذا الفكر بالذات. هذا هو السبب في أن مؤسس مبادرة “تغيير 180 درجة”، بريسون، يدعو أيضاً إلى حركة مضادة قوية في المجتمعات الإسلامية، إذ يجب ضمان عدم وجود مكان للإسلاميين الذين يغررون بالشباب، وتجنيد سراً عبر تطبيقات كـ “واتساب” أو “تلغرام”، مضيفاً “علينا الوصول إلى الشباب مسبقاً”.
تكوين الأئمة في الجامعات الألمانية – خطوة نحو مواجهة التطرف
اعتباراً من العام المقبل، ستكون هناك دورة تدريبية جديدة لتكوين الأئمة في ألمانيا، كما أعلن عن ذلك “إسلام كوليج دويتشلاند”، 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، في برلين. وفي السنة الأولى سيتم تكوين حوالي 30 مشاركاً انطلاقا من أبريل/نيسان 2021. التكوين سيتم باللغة الألمانية فقط. المشروع تموّله وزارة الداخلية الألمانية ووزارة العلوم في ولاية ساكسونيا السفلى. ويضم الأعضاء المؤسسين لكلية الإسلام علماء دين في شؤون الإسلام وشخصيات عامة وهيئات إسلامية مثل المجلس المركزي للمسلمين في ألمانيا.
يذكر أن علماء الدين الإسلامي يتم تكوينهم بالفعل في الجامعات الألمانية، غير أنه كان هناك غياب لحد الآن، لتكوين يشمل العمل الفعلي داخل المساجد والجاليات المسلمة، وهذا هو سبب قيام أئمة من الخارج بإلقاء الخطب في العديد من مساجد البلاد. وكان “مؤتمر الإسلام الألماني” قد سطر لنفسه هدفاً يتمثل في دمج أكبر عدد من المسلمين الألمان كأئمة في المساجد.
مسلمو ألمانيا يدينون الإرهاب باسم الدين
بهذا الشأن كتب موقع “نوردبايرن”، 31 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، يقول “يجب على مسلمي أوروبا أن يتحرروا بأنفسهم من أولئك الذين، باسم دينهم، يتحولون إلى قتلة ومجرمين، حيث يؤجج متطرفون مشاعر الحقد والكراهية، يأخذون كلمات في القرآن، دون تفكير، لتبرير أفعالهم”.
وأدان المجلس الأعلى المركزي للمسلمين في ألمانيا بشدة هجوم الطعن القاتل في مدينة نيس جنوبي فرنسا. وقال أيمن مزيك، رئيس المجلس، في بيان “من يجلب القتل والإرهاب للناس، فإنه يرتكب جرماً في حق الإنسانية ويرتكب جرما في حق الله”، مضيفاً “نحن كمسلمين علينا أن نتصدى بصورة أكثر حزما للإرهاب والتطرف على صعيد المجتمع كله”.
ومن جانبه، أعرب الاتحاد الإسلامي التركي (ديتيب) عن “بالغ مواساته” لأقارب الضحايا، وقال إنه يدين الإرهابيين “من كل لون، ونحن لا نفرق بينهم لأنهم ينتمون إلى نفس المصدر: الكراهية”، وحذّر من أن الإرهاب يخلف إرهاباً وعلينا كمجتمع أن نتصدى له بحزم”.
وبهذا الصدد، كتب موقع “تسيتسيرو” الألماني، 11 أكتوبر/تشرين الأول 2020، يقول “لقد مرت 10 أعوام حتى الآن على مقولة الرئيس الألماني السابق كريستيان فولف التي أكد فيها أن الإسلام جزء من ألمانيا. جملة أثارت ولا تزال تثير جدلا لا ينتهي.”
2. فرنسا
تعد فرنسا البلد الذي يوجد فيه أكبر عدد من المسلمين في أوروبا، إذ يقدر عددهم بحوالي 6 مليون مسلم. أغلب هؤلاء المسلمين ينتمون إلى دول المغرب العربي وشمال إفريقيا. عرفت أعداد المسلمين في فرنسا تزايداً ملحوظاً بعد الحرب العالمية الأولى، إذ كان البلد في حاجة إلى الأيدي العاملة.
مراحل نشوء ونطور الاسلاموفوبيا في فرنسا
توماس دلتومب، المفكر السياسي الفرنسي وصاحب كتاب “الإسلام المتخيل”، حدد 3 مراحل ربطها ببناء موضوع “إسلام فرنسا” أي مرتبطة بـ “الاسلاموفوبيا” في فرنسا وهي:
• المرحلة الأولى، كانت في الفترة ما بين السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، حيث تم النظر إلى الإسلام في ذلك الوقت على أنه السبب في الأزمة النفطية، وكذلك مع الثورة الإيرانية العام 1978/1979 إذ تم تحليلها على أنها “عودة الإسلام” الذي يهدد الغرب، حيث أضيفت صور هذه الثورة التي تمثل الاسلام بالنسبة لهم مع صور العالم الإسلامي المسؤول عن الأزمة، بالاضافة إلى الهجرة التي تم ربطها بالعنصر المسلم الذي اعتبر “متعارضاً” مع المجتمع الفرنسي. وبدأت نزعة جديدة بالظهور توازي بين “العمال الأجانب” وظهور حزب الجبهة الوطنية لوحدة فرنسا، حيث كان سبب تأسيسه أو الذريعة المعلنة هو ما سببته الأزمة، وشكلت العداوة للهجرة وللإسلام مكانة بارزة في خطابات هذا الحزب وفي الحملات الانتخابية وفي دعايته القومية المعادية للأجانب.
• المرحلة الثانية، فهي تمتد من الثمانينيات إلى العام 2001، وقد بدأت الاوضاع في التأزم بسبب الإجراءات التي اتخذتها الحكومات في تلك الفترة حيث تم شرعنة وجود المهاجرين من دون أوراق ثبوتية، مع تحسين شروط استقبال وإقامة الأجانب، مما أدى إلى تطور حركة كره الأجانب. وطيلة تلك الفترة، أخذ رهاب الإسلام بالنمو. فعام 1987، نشرت الجبهة الوطنية أول ملصقاتها المعادية للإسلام، وكان ذلك بمبادرة أحد قادتها: جان – بيار ستيربوا.
• المرحلة الثالثة، بدأت بعد التفجيرات التي أعلنت عنها القاعدة في الولايات المتحدة، والتي تتابعت بعد ذلك بالتدخل الثاني في العراق، وتكرار الاعتداءات التي نسبت إلى مختلف الجماعات الإسلاموية أو التي أعلنت هي عنها (منذ المجموعات الأولى المنتسبة إلى القاعدة، وصولاً إلى ما يعلن اليوم بإسم “داعش”)، وتتابع ذلك كله مع احتدام الأزمة الاقتصادية، والبطالة والمخاوف على الهويات المرتبطة بالعولمة غير الخاضعة للسيطرة.
الوضع في فرنسا متمايز جداً عن بقيّة الدول الأوروبية؛ كما يصفه سلام كواكبي، فهي لا تقود اتجاهاً فكريا معيناً في الفكر الغربي، بل على العكس، تتساءل الصحف الأوروبية بلهجة ساخرة حول المواقف التي اتخذتها الدولة الفرنسية في الفترة الأخيرة. ثم إن هذه المواقف ليست بجديدة، أي أنها ليست مرتبطة بالحقبة “الماكرونية”، فالحكومات المتعاقبة في فرنسا، ومنذ أن انتهى العهد الاستعماري، الذي كانت فرنسا أحد أبطاله الأساسيين في شمال إفريقيا وجنوب الصحراء وبعض دول الشرق الأوسط، لا تعرف ماذا تريد بالضبط في هذا الملف تحديداً.
ولا ينفي الكاتب أحمد نظيف مسؤولية الجماعات الإسلامية في فرنسا عن “توريد مشكلاتها إلى هذا البلد” فيقول “من خلال معايشتي اليومية للحالة الإسلامية الأوروبية، بالملاحظة والبحث، أستطيع القول إن ما يسميه الفرنسيون، خصوصاً الحكومة الفرنسية بالإسلام الفرنسي السائد، والمعبر عنه في أشكال تنظيمية عديدة، كالجمعيات والمساجد والمدارس والاتحادات، ما هو إلا إسلام سياسي خالص، موزّع بين جماعات إسلامية بعضها تابع لجماعة الإخوان المسلمين وبعضها موالٍ للتيارات السلفية وبعضها الآخر تابع لجماعة الدعوة والتبليغ وجزء منها موال للتشيع السياسي، وكل هؤلاء، ولاؤهم وأفكارهم وسياساتهم وأهدافهم ليست لها أية علاقة بفرنسا ولا بالمسلمين في فرنسا، تحاول توريد كل مشكلات وخلافات المسلمين في الدولة العربية والمسلمة لتعيد إنتاجها في شكل أو آخر في الساحة الفرنسية.”
وعلاقة فرنسا بالإسلام ترتبط بالإرث الاستعماري الفرنسي، كما بفشل السياسات العامة. نحن نعرف أن قانون العلمانية وضع العام 1905 تجاه الكنيسة، كانت أعداد المسلمين في فرنسا لا تذكر. لقد عرفت فرنسا المسلمين في مستعمراتها، وكانت شؤون الدين الإسلامي تُدار مركزياً في باريس. تُشير التقديرات إلى بلوغ عدد المسلمين 7 ملايين في الأقصى، ولا يمكن أن يكون الرقم دقيقاً لأن الإحصاء، بناء على الانتماء الديني، غير مسموح قانونياً في فرنسا.
خطة ماكرون لحماية القيم الفرنسية تثير الرفض بين المسلمين
رُفع الستار عن مشروع قانون قادم لـ “مكافحة الانفصالية” في فرنسا؛ وبالرغم من تأكيدات القائمين أن القانون يشمل التهديدات العنصرية، يرى مراقبون أنه يستهدف بوضوح التطرف الإسلامي. التشريع أثار جدلاً حاداً داخل المجتمع قبل طرحه في وقت لاحق من خريف العام الماضي. وفي حين يرحب البعض بالجهود الحكومية من أجل محاربة النزعة الانفصالية، يخشى قادة الجالية المسلمة الفرنسية، والتي يبلغ عدد سكانها نحو 6 ملايين نسمة – وهي الأكبر في أوروبا الغربية – من أن تطبيق هذا القانون قد يؤثر عليهم بشكل غير عادل.
كان إسم القانون المزمع طرحه على البرلمان “مواجهة الانفصالية الإسلاميّة”، لكن عدل عن ذلك بالميل نحو تسميته “قانون تمتين العلمانية والحفاظ على مبادئ الجمهوريّة”. مروجوه يدعون أنه غير موجه إلى المسلمين، بل لكل منْ يحاول أن ينشئ مجتمعاً داخل المجتمع الفرنسي منفصلاً عن مبادئ الجمهوريّة، وهذه الخطوة جزء من سياسة رد الفعل؛ لأنّ المكتبة القانونيّة الفرنسيّة متكاملة، ولا حاجة إلى أي قانون إضافي، ويُخشى أن يُسهم هذا القانون الجديد في تنميط مجموعة دينية دون غيرها. في المقابل، من حسن الحظ، فثمة مجلس دستوري ومجلس الدولة، وغالباً ما تُنقض هذه القوانين “الاستثنائيّة”، إن وُجدت فيها ثغرات لا تتوافق مع دولة القانون. في فرنسا مشاكل اقتصادية وصحية حادة، ويُعتبر التركيز على موضوع كهذا بهذه الشدة جزءاً من السعي إلى تغييب المشاكل الأساسية عن المشهد العام.
ومن المتوقع أن يعزز مشروع هذا القانون ملاحقة تمويل المساجد والمدارس الدينية الأجنبية الخاصة، ونقابة الأئمة الأجانب، وزيادة المراقبة على الجمعيات والأفراد المشتبه في محاولة الانفصال عن الدولة الفرنسية. بما في ذلك في مجالات القطاع العام وفي الألعاب الرياضية، وحظر الجهود التي تهدد المساواة بين الجنسين، بما في ذلك “شهادات العذرية” قبل الزواج بالنسبة للمرأة المسلمة.
يؤكد المعلق السياسي ألكسندر ديل فالي على أهمية هذا القانون، حيث يصف كتاب شارك في تأليفه العام 2019 بعنوان “المشروع” الذي يشرح سعي “الإخوان المسلمين” المزعوم للتسلل إلى الغرب وقهره. وقال ديل فالي “لقد فهم الرئيس ماكرون أن عليه تعزيز القانون والنظام، لأننا حتى الآن لم نكن قادرين على مواجهة هذه الانفصالية الغريبة، التي كانت دائما مخفية من خلال الدين”، مضيفاً “لا أحد يمنع المسلمين من التوجه الى المسجد، نريد فقط حظر مشروعهم الشمولي والانفصالي والعنصري”. ورد رئيس مسجد ليون، كامل كبتان، على هذا الكلام لصحيفة “لوفيغارو” إن “مفهوم الانفصالية هذا يزعجني كثيراً لأن من يريد الانفصال ليس المسلمين، فهم يريدون الاندماج فقط”.
لذلك، ليس من المستغرب أن يرى عدد من القادة المسلمين الأمور بشكل مختلف. ويقولون إن التشريع القادم يخاطر بالمزيد من وصم الغالبية العظمى من المسلمين الفرنسيين الذين يمارسون عقيدتهم سلمياً.
وهذه ليست المرة الأولى التي تتهم فيها الممارسات الإسلامية بأنها ضد القيم العلمانية الراسخة في فرنسا. وقد أثارت التدابير السابقة التي تحظر النقاب الذي يغطي الوجه، وأغطية الرأس في المدارس، والبوركيني على الشواطئ، على سبيل المثال، ادعاءات بالتعصب والتمييز.
ثانياً: نظرية التسامح والتعايش وفق علمانية اوروبا الحضارة والتاريخ
بعد هجمات فيينا التي تبناها تنظيم الدولة الإسلامية – “داعش)”، 2 أكتوبر/تشرين الأول 2020، وأسفرت عن مقتل 4 أشخاص من بينهم المنفذ وإصابة 22 شخصاً، طالب المستشار النمساوي، زباستيان كورتس، التكتل القاري ببذل مزيد من الجهود لمواجهة الإسلام السياسي. وفي تصريحات لصحيفة “فيلت” الألمانية، قال كورتس “أتوقع نهاية التسامح المفهوم خطأ”، وطالب الاتحاد الأوروبي بزيادة التركيز على هذه المشكلة مستقبلا، معرباً عن اعتقاده بأن الإيديولوجية السياسية للإسلام تهدد الحرية ونموذج الحياة الأوروبي. فهل من مجال بعد لفضاءات التسامح التي ينادي بها دعاة الإعتدال والإندماج في المجتمعات الأوروبية؟
العلمانية الفرنسية أصبحت ديناً.. ولكل دين إيديولوجيا وتطرّف
ما توصل إليه سلام كواكبي في مقابلته يفسر ما وصمت به العلمانية الفرنسية، يقول مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – فرع باريس “للأسف، أصبحت العلمانية التي أدعو إليها ويدعو إليها الكثير من المثقفين العرب، أصبحت لدى بعض الفرنسيين ديناً، ولكل دين إيديولوجيا وتطرّف. العلمانية الفرنسية تتّصف بأنها حادة؛ فقانون العلمانية الفرنسي يقول في نصه بحيادية الدولة تجاه الأديان، وعدم تدخّل الدولة في الدين، والعكس. إلا أن ما يقوم به السياسيون الفرنسيون الآن هو تدخل في الشؤون الدينية. يقول ماكرون إن الإسلام يعيش أزمة، لكنها جملة قد يقولها مفكر أو أكاديمي. أما الإشارة إلى ذلك، وفي هذا التوقيت، فهي ليست من وظيفة سياسي. أنا لا أقصد أن أقول بعدم وجود إشكالات ترتبط بالمسألة الدينيّة فكراً وتطبيقاً، بل أعتقد بوجودها وبحاجتها إلى مراجعة واجتهاد، لكن ما أقصده أن هذا الحديث من قبل سياسي في هذا الشأن خرق لقانون العلمانية نفسه.”
ويضيف كواكبي “أما مسألة إغلاق المساجد والجمعيات، فالقانون يسمح بإغلاق الأماكن التي تدعو إلى العنف أو الإرهاب. لقد أُغْلِق مسجد لمدة 6 أشهر لأنّ أحد مسؤوليه نشر على موقع المسجد ما اعْتبر أنه تحريض على العنف، وعوضاً عن معاقبته شخصياً، عوقب المصلون في المنطقة عبر إغلاق المسجد. هذه عقوبة جماعية لا تتوافق مع روح الليبرالية، والثورة، والديمقراطية الفرنسية، وحرية التعبير التي كثر تناولها مؤخّراً. كذلك الأمر في ما يتعلق بإغلاق بعض الجمعيات، لمجرّد الشبهة بأنها تدافع عن مواقف عنفية أو تدعو إليها، ويكون المتهم بذلك شخصاً من أعضائها. يأتي ذلك شكلاً من أشكال ردّ الفعل غير المستند إلى قرارات مدروسة.”
العنف لا ينتمي إلى مجتمع معين
في مبنى غير ملفت في زقاق ضيق خارج باريس – يهدف إلى إبقاء أماكن وجود الجمعية سرية – يشير باشاري من مقر جمعيته المناهضة لـ “الإسلاموفوبيا” إلى زيادة مطردة في الأعمال المعادية للمسلمين في الأعوام الأخيرة، لا سيما منذ هجمات باريس الإرهابية العام 2015. وقد وصل عدد هذه الهجمات إلى “ما يقرب من 800 في العام 2019″، وفقاً لإحصاءات جمعيته، وذلك بزيادة قدرها 77% في غضون عامين. ويؤكد باشاري أن “العنف لا ينتمي إلى مجتمع معين”، موضحاً أن “الإرهاب لا ينتمي إلى مجتمع واحد، إنها ظاهرة يجب محاربتها بكل الوسائل الممكنة. لكن ليس من الصواب وصم مجتمع بأكمله لأن أحد الأعضاء ارتكب هجمات إرهابية”.
وفي خطابه الشهير حول “الانعزالية الإسلامية”، أكد الرئيس ماكرون أن “هدف فرنسا هو تكوين وتأهيل جيل من الأئمة والمثقفين الذين يدافعون عن إسلام يتوافق مع قيم الجمهورية”. ومن المعلوم أن هناك مجموعة من الأئمة الليبراليين ظهروا في دول أوروبية عديدة، بما فيها فرنسا، في محاولة للتوفيق بين القيم الأوروبية ومبادئ الدين الإسلامي.
ويذكر الإعلام الأوروبي الإمام حسن شلغومي، إمام مسجد مدينة درانسي الفرنسية، كأحد هؤلاء الأئمة، ويعتبر من الشخصيات الإسلامية المعروفة في فرنسا، ولد في تونس العام 1972، ذو توجه إصلاحي ويرى فيه الكثيرون “الإمام النموذجي”. فهو يعارض الحجاب الكامل، كالبرقع، ويدافع عن المساواة بين الجنسين، كما يعتبر من المتحمسين للحوار بين الإسلام والمسيحية واليهودية. وشارك في حفل تأبين لضحايا الهولوكوست في مدينة درانسي، غير أن مواقفه هذه لم تجلب له الإعجاب فحسب، وإنما أيضاً انتقادات وأحيانا حملات كراهية.
ساهم شلغومي، العام 2010، في حملة حظر شامل للبرقع في الأماكن العامة، واصفاً إياه بـ “سجن النساء”. وتلقى نتيجة مواقفه الجريئة تهديدات بالقتل ووضع تحت حماية الشرطة بسبب آرائه في الإسلام الحديث المستنير. شلغومي دان بشدة الهجوم على مجلة “شارلي إيبدو” الساخرة، يناير/كانون الثاني 2015. وقال لقد باع الجناة “أرواحهم للجحيم. لقد تصرفوا فقط بدافع الكراهية”. قبل 10 أعوام، كان قد أكد بالفعل أن العدو الحقيقي للإسلام هو “التطرف”. وفي موقف متقدم له بعد مقتل مدرس التاريخ صامويل باتي، اعتبر شلغومي، مع حوالي 10 أئمة آخرين، أن “الإسلاموية مرض من أمراض الإسلام يجب محاربته”.
الإسلام ليس بعيداً عن الحداثة
البروفيسور مهند خورشيد دعا المسلمين لفهم سور القرآن وأحكامه في سياقها التاريخي، واعتبر أن هناك سوراً قرآنية بشأن استعمال العنف تتعلق بمواقف حرب في القرن السابع في شبه الجزيرة العربية، لكنها لا تشكل بأي حال من الأحوال أوامر لمسلمي اليوم، فهي لا تبرر العنف والإرهاب. ويقول خورشيد “بعد وقت قصير من وفاة النبي محمد، أصبح الإسلام أداة سلطة في أيدي أولئك الذين يقاتلون من أجل الخلافة. نُسبت الكفاءات الإلهية إلى الحاكم واستمدت المطالبة الشاملة بالقيادة شرعيتها من ذلك، مما أدى إلى انحطاط واختزال الناس إلى مجرد توابع مُطيعة. فتم الابتعاد عن دين المحبة والرحمة. لذا، فإن الإصلاح ضروري اليوم لتحرير الإسلام الذي بات رهينة السياسة (..) لا يمكن للإسلام أن يطور قدرته على التحرر إلا من خلال الإصلاحات المستمرة”.
وأوضح خورشيد في مقال نشره موقع شبكة NDR الألمانية، 30 أكتوبر/تشرين الأول 2020، حاجة الإسلام إلى إصلاح عاجل وشامل، واعتبر أن “هجوم نيس الوحشي تسبب في رعب في جميع أنحاء العالم”، محذراً من أن “الإسلاميين يريدون الإطاحة بالمجتمعات الليبرالية في جميع أنحاء العالم”.
بدوره، يشير سلام كواكبي إلى وجود “المرصد الوطني للعلمانيّة” في فرنسا، الذي يضم شخصيات سياسيّة وفكريّة محترمة. يتعرّض اليوم هذا المرصد المكلَّف بالسهر على احترام العلمانيّة إلى هجوم عنيف، بسبب قراءته الهادئة والعقلانيّة. إن العمل على تفادي التطرف في أي اتّجاه كان يحتاج إلى تعزيز دور العملية التربويّة، كما التوعية المجتمعيّة، ومحاولة فهم الأسباب الحقيقيّة للتوجّه الراديكالي والعنفي، وردود الفعل الهوجاء والصراخ الإعلاميّ لا يمكن أن يكونا مفيدَين.
ويضيف الكواكبي “إن مسألة الاندماج والتلاقح الثقافي والعيش المشترك وقعت ضحية مزايدات الطرفين. وعلى النخب الواعية، في رأيي، أن تدعو إلى حوار قائم على أسس واضحة، يسأل أسئلة الديمقراطيّة وحرّيّة التعبير والعلمانيّة. نسبة العنف والإرهاب بتعريفه الواسع شهدت تطوراً عالي التركيز في مدة وجيزة وفي أنحاء مختلفة من أوروبا، وهذا لا يعكس سوى حقيقة ملموسة هي أن العالم يعيش تغيرات حادة وجذرية في بنيته وسياساته وتحالفاته ومواقف شعوبه من بعضها البعض، تماماً كما حدثت تلك التغيرات على مدى قرن من الزمن؛ الحرب العالمية الأولى، فالأزمة الاقتصادية، فصعود الفاشية والنازية، فحرب عالمية ثانية، فتقسيم جديد للقوة في العالم مع الحرب الباردة، ثم استفراد الغرب بالهيمنة الآحادية واستئناف رحلة البحث عن عدو جديد يكون مبرراً للنشاط العسكري الأميركي.”
فتش عن العامل الإقتصادي والفشل الحكومي كمولد للعنصرية
لنا في تجربة سلام كواكبي – كمواطن فرنسي – خير دليل على أسباب الوصول الى مفهوم الانفصالية الغريبة التي وسم بها مشروع القانون الفرنسي، فيقول “لنكن منصفين، فأنا مواطن فرنسي منذ أعوام طويلة، لم أواجه تمييزاً عنصرياً منذ 18 عاماً. العنصريّة غير مسيطرة على الفرنسيّين، ثمّة عنصريّون بالطبع، ولكن فرنسا ليست عنصريّة. ولفهم كثير من التناقضات التي تدفع أحياناً إلى ترجمة بعض الظواهر فقط اجتماعياً، نعود إلى المسألة الاقتصادية التي هي أساس حقيقي لفتح نقاش أوسع. من الملاحظ أن الوضع الاقتصادي للكثير من المسلمين الفرنسيين، نتيجة فشل السياسات العامة وتناقض بعضها الآخر، كما التهميش في الدراسة والإقصاء في بعض حقول العمل، ويضاف إلى ذلك كله البُعد الجغرافي الحضري للضواحي التي تضم أغلبهم، كلها وسواها عوامل تؤدي إلى خلق شعور لديهم بالاضطهاد، وهو ليس اضطهاداً عرقياً أو دينيّاً، بل هو قائم على أسس اقتصادية. وكل الخطوات التي قامت للوصول إلى حل قوبلت بِتَعَنُت حكومي، أو رفض بيروقراطي، كما خطة الوزير السابق بورلو لإنعاش الضواحي وتجاوُز العنف في بعضها.”
ويضيف كواكبي أنه في عيد رأس السنة “بعض شبّان الضواحي يذهبون إلى وسط باريس، ويقومون بأعمال شغب متنوعة، وهذا ليس شغباً لأجل الشغب، وليس عبارة عن سلوك متهور وحسب، بل هي ردود فعل لم تنجح الحكومات بجميع اتجاهاتها في إيجاد حلول لها من خلال تغيير السياسات العامة. يُضاف إلى ذلك مسألة الانتماء؛ فالكثير منهم لا يشعرون بانتماء إلى أي شيء. ثمة شباب ينتمون إلى مدخل العمارة التي يقضون جل النهار فيها دون عمل، فَهُم لا ينتمون حتى إلى المجتمع المحيط أو إلى الحي، إضافة إلى العزوف عن الانخراط في أي عمل مدني أو سياسي. فعلى الرغم من أن الأغلبّة مواطنون فرنسيون، لكنهم ما زالوا متأثرين بثقافة أجدادهم القادمة معهم من بلادهم، التي لا تتمتع بأيّ هامش حرية للعمل العام. يُضاف إلى ذلك فقدان الأمل في أن يؤدي هذا الانخراط إلى تغيير يُذْكَر. في هذا الإطار، أستعيد ما طلبه شقيق جورج فلويد، الأسود الأمريكي الذي قتله شرطي، عندما توجه إلى المحتجين قائلاً: لا تكسروا المحلات وتحرقوا السيارات، صوتوا!. وهذه المقولة تصح في كل مكان في العالم. أنا شخصيّاً صوتُّ لأوّل مرة في حياتي في سن الأربعين بعد تجنسي، فكما تعلمين لا يوجد انتخابات في سوريا، ومن الملاحظ أن نسبة التصويت في الضواحي منخفضة جداً.”
التغيير يأتي من هناك
يقول المستشرق يان ياب دي راوتر “هناك مبادرات لناشطات حقوقيات مثل منى طحاوي، من داخل العالم العربي نفسه، يغيرن نظرة العرب عن المرأة، التغيير لا نقوم به نحن في أوروبا، بل يأتي من هناك. ليست مهمة أوروبا أن تصنع أفكارها عن العرب، النظرة تأتي من الداخل ونحن نعكسها. قلت دائماً إن التغيير يأتي من هناك؟ لكن لدي مشكل في هذا الطرح أيضاً. أنا مع الديمقراطية وأعرف أن واحداً من مشكلات العالم الإسلامي أنه لا يوجد تفريق بين الدين والدولة، ليس في مصر وليس في دول كثيرة والدين يتصف بكونه غير متسامح، سواء تعلق الأمر بالمسيحية أو الإسلام أو اليهودية، الدين عموماً متعصب، فإذا لم نفصل الدين عن الدولة نحصل على دولة متعصبة، هذه باختصار. المشكلة فإذا تلقينا المفاهيم من الداخل فإنها تكون مشبعة بدينية ما.”
كان هناك دائماً صراع بين الأديان على مدى التاريخ الإنساني، وتنافس بينها وتفاضل، لهذا فالدين منطقة احتقان، وانفعال شديد، لكن الدولة إن تأسست بمعزل عن الدين، فإن حدة الصراع مع الحضارات الأخرى تقل، لان المصالح الإنسانية، والكونية مشتركة ومتقاربة.
الصراع الديني لا يزال مستمراً، لكن لا يجب على العرب أن يفكروا أنهم ورقة تلعب بها القوى الكبرى وتحركها وفق مصالحها. يشعر معظم العرب أنهم عاجزون، تابعون، وأن أوروبا أقوى، عليهم أن يتوقفوا عن التفكير على هذا النحو وينظروا إلى أنفسهم كندٍ وشريك موازٍ للغرب. من هنا يبدأ التغيير، العقل العربي عقل تابع، وعليه أن يخرج من هذه التبعية الفكرية، ويتحول بفكره إلى مستوى أعلى، هو مستوى الشريك.
الإسلام الأوروبي بديل قابل للحياة
يدافع المستشرق الهولندي عن نظريته بالقول “إذا أخذنا هولندا كمثال، هناك تيارات إسلامية كثيرة تراوح بين الشدّة أو التطرف والتسامح، هناك المسلم الذي يؤمن ولا يطبّق الشرائع، هناك المسلم الممارس للشرائع، السلفي، المتطرف، الشيعي، السني، الأحمدي.. وقسْ على ذلك تيارات كثيرة تعيش جميعها في هولندا وتمارس حياتها، وأفكارها ودينها بشكل حر تماما، ومن دون خلاف أو اصطدام بينها.”
ويضيف دي راوتر “لماذا يحدث هذا؟ لأن الجو العام، أو الغطاء العام الذي تنشط تحته، مظلة ديمقراطية واسعة، تشمل الكل، وتسمح للكل بالتعايش داخلها بشكل سلمي، هذا الإسلام الموسع، المتعدد، هو النموذج المستقبلي للإسلام، وهو إسلام ديمقراطي، ويعيش داخل دولة علمانية، الدين فيها مفصول عن السياسة لهذا قلت إن مستقبل الإسلام في الغرب لأن كل أشكال الإسلام ممكنة، وهذا ليس موجوداً في الدول الإسلامية.”
ويعزو فشل الإعتدال الإسلامي في معظم البلدان العربية المسلمة إلى تداخل الدين والسياسة، فيقول “السبب الرئيس هو فصل الدين عن الدولة، هذا ما يجعل كل أشكال الدين ممكنة. لماذا لا نطبق هذا المثال فصل الدين عن الدولة في مصر، مثلاً، وفي العراق، والعربية السعودية؟ هذه الدول عليها بتبني هذا الفصل وتطبيقه داخلها، بمبادرات شخصية، وإن كلفها ذلك 100 عام، لكنه ممكن، ومن دون فرض من الغرب.”
وفي مجال تأكيد ما خلص إليه، يذكر المستشرق في مقابلته بقوله “حضرت منذ سنتين مؤتمراً في روما عن وضع الأئمة في أوروبا، وكان من تنظيم شباب مسلمين أوروبيين، وتقريباً النتيجة التي خلص إليها المؤتمر هي أن مستقبل الإسلام في أوروبا، وليس في أي مكان آخر من العالم، وذلك، بسبب الفصل بين الدين والدولة، ومساحة الحرية. لا يمكننا، نحن في الغرب، أن نملي هذا الخيار، أو المطلب الضروري، على الدول الإسلامية، هي من سيجد طريقها إليه بنفسها، وبقناعات داخلية.”
في الخلاصة، ليس من السهولة الإنعتاق المشرقي من الشعور بـ “الدونية” عن عالم الغرب، ولكن في عصر العولمة وتوفر المعرفة وانفتاح جامعات العالم أمام كافة الشعوب تتشكل الفرص أمام شبابنا لنهل العلوم والتكنولوجيا والإنتماء الى ثورة الذكاء الأصطناعي، وقد فعلوا وبرع منهم الكثيرون في الخارج، لماذا؟ لأن هذا الخارج أمّن لهم البيئة العلمية، وشجعهم على البحث والتحليل، ومنحهم الجنسية واعتبرهم من مواطنيه، بينما لم يُقدّروا في أوطانهم، والسبب الواضح لقد قبل الغرب النظام السياسي القائم على مبادئ الثورة الفرنسية الثلاثة: الحرية والعدالة والمساواة، بينما يتداخل الديني بالسياسي عندنا، ولم يكن يوماً في سبيل نصرة الدين ولكن في سبيل نصرة الحاكم؛ فكم من فتوى وفتوى مضادة استصدرت تلبية لرغبة الحاكم؟ هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، لقد نقلنا أحكامنا وفتاوينا ومشاكلنا إلى بلاد الغربة التي استضافتنا ولم تحجب عنا الجنسية كمواطنين، وعندما لاحت فرصة التعصب والتطرف – وهي ليست فرصة بريئة – أثناء اندلاع ثورات “الربيع العربي” نمت التنظيمات المتشددة ومارست أقسى أنواع الفتاوى والقوانين، ولم تكتفِ بذلك بل عمدت إلى تكفير الآخر، هذا في بلداننا الثائرة ولكن أن يستجيب الشباب المسلم في معظم بلدان الغرب إلى هذه الأساليب إنه منتهى نكران الجميل. وقد يتلطى البعض بنظرية المؤامرة، ولا أنكر أن البلدان المضيفة قد وجدت في تنظيم “القاعدة” أو “جبهة النصرة” أو “داعش” والتي كشفت مبكراً عن غايتها في تنظيم “الدولة الإسلامية” ونصبت خليفة لها، وجد العالم الغربي فرصة التخلص من المتشددين على أراضيها ولم تعترض على مغادرتهم البلاد، فراداً وجماعات، لكن ذلك لم يعالج المشكلة فعودة أولئك المقاتلين ومن نجا منهم لم تصلحها السجون، وصم العائدون آذانهم حتى عن السؤال والحوار والمشاركة، كما رأينا آنفاً.
يبدو أن المستشرق الهولندي على حق في كلامه أن “الحل يأتي من هناك”، وما لم يتم انشاء وترسيخ دولة المواطنة التي تفصل الدين عن الدولة والدولة عن الدين سيطول الإنتظار وسنغرق أكثر في غياهب التاريخ فيما العالم يتسابق الى العلمنة كحضارة كونية.
مصدر الصور: العربي الجديد – الميادين – المنار
موضوع ذا صلة: شراء الكنائس في أوروبا: الصلاة خير من النوم
العميد م. ناجي ملاعب
باحث في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري / عضو الهيئة العلمية لمجلة الدراسات الأمنية – لبنان.