أثارت قرارات الرئيس التونسي قيس سعيد – التي أصدرها على أعقاب تفجّر الأوضاع في تونس وأعلن فيها سيطرته على جميع السلطات وتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن كل نوابه فضلاً عن إعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي – انقساماً في ردود الأفعال بين مؤيد ومعارضٍ لها، ليس على مستوى الداخل التونسي فقط، بل على مستويات إقليمية ودولية، غداة وصف حركة “النهضة” الإسلامي – فرع “الإخوان المسلمين” – الأكثر تمثيلاً ما جرى بأنه “إنقلاب”.
تفجّر الأزمة
ذهب بعض المحللين إلى اعتبار الأزمة الصحية بمثابة حلبة صراع بين قصر قرطاج الرئاسي وقصر الحكومة في القصبة تضاف إلى مسلسل الأزمات الدستورية ونزاع الصلاحيات المستمر منذ نصف عام. وقد برز هذا بشكل أكبر مع قرار رئيس الحكومة إقالة وزير الصحة فوزي مهدي – القريب من الرئيس قيس سعيد – عقب أزمة الحملة المفتوحة للتطعيم، والتي تسببت في زحام شديد في المراكز الصحية، ومن ثم اتهامات متبادلة ومبطنة تذهب حتى التلميح إلى نظرية المؤامرة.
ويشير المحلل السياسي ومدير موقع “التونسيون”، منذر بالضيافي، إلى أن سبب تفاقم الأزمة الحالية هو سياسي بامتياز في ظل القطيعة المعلنة بين رأسي السلطة التنفيذية، ويضيف بالضيافي أن “الرئيس يتحمل جزءاً من الأزمة عبر توظيف سياسي شعبوي للمساعدات من شأنه أن يساهم في تعميق الأزمة السياسية والصحية، خاصة في ظل العجز عن التوصل إلى الاستفادة من هذه المساعدات التي ما زال أغلبها مخزن ولم يوجه لمستحقيه” حيث “اقتصر دور الرئيس على الإعلان عن تجميع بعض الإعانات، لكن المطلوب منه أكبر بكثير”.
ولقد كشفت صحيفة “الغارديان” البريطانية أن تفشي وباء فيروس “كورونا” كشف عن مدى الاختلال الذي وصلت إليه الدولة التونسية. فقد وجد استطلاع أجراه المعهد الوطني للإحصاء في تونس أن ثلث الأُسر كانت تخشى نفاد الطعام العام الماضي، وأضافت في هذا السياق أن “الحكومة، وفقا لوثائق مسربة، كانت مستعدة لإلغاء دعم الخبز في المفاوضات للحصول على قرض بقيمة 4 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، وهو الرابع في 10 أعوام. ولم يتفاقم الغضب من تعامل الحكومة مع الوباء إلا بسبب مستوى الدين الوطني، فقد أصبحت مدفوعات القروض الآن ستة أضعاف حجم ميزانية الصحة في البلاد.”
سيناريوهات محتملة
إن إجراءات الرئيس سعيّد أثارت قلق الكثيرين الذين يخشون من أن السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في البلاد الآن في يد رجل واحد، وربما كان سعيّد أحد أكبر المفاجآت عندما انتخب كمستقل، ومن المعروف أنه معاد للأحزاب السياسية. في العام 2020، عيّن هشام المشيشي رئيساً للوزراء، لكنه دخل في خلافات سياسية معه منذ ذلك الحين، حيث كانت البلاد تتصارع مع أزمة اقتصادية واستجابة متعثرة للوباء، يضاف إلى ذلك أن الخلاف على الدستور التونسي يكمن في قلب هذه الأزمة، وهو أمر كان من المفترض أن تسويه محكمة دستورية؛ ومع ذلك، بعد سبع أعوام من الموافقة على الدستور، لم تتشكل المحكمة حتى الآن، بعد الخلافات حول تعيين القضاة.
لكن الخوف الحقيقي اليوم يكمن في نزول مؤيدي أو معارضي قرارات الرئيس إلى الشارع الأمر الذي قد يجر البلاد إلى دوامة من العنف لا نهاية لها، كما أن هناك مخاوف من أن يستخدم الرئيس الأزمة للضغط من أجل ما أسماه التسوية الدستورية المفضلة لديه – نظام رئاسي قائم على الانتخابات ولكن مع دور أصغر للبرلمان.
ردود دولية
أعربت الحكومة الألمانية عن “بالغ قلقها” بشأن التفاقم الأخير في الوضع السياسي في تونس، حيث قالت متحدثة باسم وزارة الخارجية في برلين “نعتقد أنه من المهم الآن العودة بسرعة حقاً إلى النظام الدستوري”، مضيفة أن جميع الأطراف مطالبة بـ “ضمان الامتثال للدستور في تونس وتطبيقه”، موضحة أن هذا يشمل أيضاً الالتزام بحقوق الحريات، التي تعد من أهم إنجازات الثورة التونسية.
من جانبه، حث الاتحاد الأوروبي الأطراف السياسية الفاعلة في تونس على احترام الدستور وتجنب الانزلاق إلى العنف. وقالت متحدثة بإسم المفوضية الأوروبية: “نتابع عن كثب أحدث التطورات في تونس”، وأردفت “ندعو كافة الأطراف في تونس إلى احترام الدستور ومؤسساته وسيادة القانون، كما ندعوهم إلى التزام الهدوء وتجنب اللجوء إلى العنف حفاظاً على استقرار البلاد”.
وفي السياق نفسه، قال متحدث بإسم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إن المنظمة الدولية تحث جميع الأطراف في تونس “على ضبط النفس والامتناع عن العنف وضمان بقاء الوضع هادئاً”. وقال المتحدث فرحان حق “يتعين حل جميع النزاعات والخلافات عن طريق الحوار”، كما امتنع المتحدث عن التعليق بشأن ما إذا كانت الأمم المتحدة تنظر إلى ما حدث في تونس على أنه انقلاب أم لا.
أيضاً، أبدت الولايات المتحدة قلقها إزاء إقالة الرئيس التونسي لرئيس الحكومة، ودعت إلى احترام “المبادئ الديمقراطية” في البلاد التي تعد مهد “الربيع العربي”. وقالت المتحدثة بإسم البيت الأبيض جين ساكي “نحن قلقون إزاء التطورات في تونس”، وأعلنت أن “التواصل قائم على أعلى مستوى” وأن واشنطن “تدعو إلى الهدوء وتدعم الجهود التونسية للمضي قدماً بما يتوافق مع المبادئ الديموقراطية”.
وأعلنت الدبلوماسية الفرنسية أن باريس تأمل “بعودة المؤسسات الى عملها الطبيعي” في تونس “في أقرب وقت”. وقالت المتحدثة بإسم الخارجية الفرنسية إن فرنسا “تدعو أيضاً جميع القوى السياسية في البلاد إلى تجنب أي من اشكال العنف والحفاظ على المكتسبات الديموقراطية للبلاد”.
إقليمياً…
أكد الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، دعم الجامعة الكامل للشعب التونسي، معرباً عن تمنياته بسرعة اجتياز المرحلة المضطربة الحالية، واستعادة الاستقرار والهدوء وقدرة الدولة على العمل بفعالية من أجل الاستجابة لتطلعات ومتطلبات الشعب، كما دعا الأمين العام للجامعة العربية في اتصال هاتفي مع وزير الخارجية التونسي إلى استعادة الهدوء والاستقرار في البلاد بعد قرار الرئيس المفاجئ إقالة الحكومة.
وقالت وكالة الأنباء السعودية إن وزيري الخارجية السعودي والتونسي تحدثا وبحثا الوضع الراهن في تونس، وأضافت أن الوزير السعودي أكد “حرص المملكة على أمن واستقرار وازدهار الجمهورية التونسية الشقيقة ودعم كل ما من شأنه تحقيق ذلك”.
من جهتها، دعت وزارة الخارجية القطرية أطراف الأزمة التونسية إلى “تغليب صوت الحكمة وتجنّب التصعيد”، وأعربت في بيان عن “أمل” قطر في أن “تنتهج الأطراف التونسية طريق الحوار لتجاوز الأزمة”.
تغليب الحوار
في موقفٍ مفاجئ، حثت حركة “النهضة” التونسية على الحوار الوطني للخروج من الأزمة التي دخلت فيها تونس، على الرغم من اتهامه الرئيس قيس سعيّد بـ “الانقلاب” في ضوء إقالته رئيس الوزراء وتجميد عمل البرلمان. ودعا الحزب صاحب أكبر كتلة برلمانية إلى الوحدة بين الشعب مؤكداً رفضه “دعوات الفتنة والاقتتال الداخلي”.
وقال رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي – الذي يرأس حركة “النهضة” والبرلمان على “تويتر” – إن المكتب التنفيذي للحركة وإثر عقده اجتماعاً طارئاً قد أبدى “تفهمه للاحتجاجات.. ومشروعية المطالب.. إلى جانب الخطر الوبائي الكبير.. بما يجعل هذه القضايا أولوية مطلقة للبلاد تحتاج إلى إدارة حوار وطني ورسم خيارات جماعية قادرة على إخراج البلاد من جميع أزماتها”.
وفي تراجع عن دعوة أنصاره للخروج إلى الشوارع للاحتجاج على قرارات الرئيس، حثت “النهضة” على الحوار وبذل جهود لتجنب الاقتتال الداخلي، وقالت في بيان “الحركة… تدعو كل التونسيين إلى مزيد من التضامن والتآزر والوحدة والتصدي لكل دعاوي الفتنة والاحتراب الأهلي”.
أخيراً، يبدو أن هناك تباينات في المواقف الرسمية قبل الشعبية، لكن بمجملها قد تأخذ البلاد إلى منعطف خطير، ما ينذر بأن معارضي حركة “النهضة” – التي التزمت الصمت خاصة وأنها تعتبر نفسها الكتلة الأكبر في البلاد وإن دعت إلى ضبط النفس مؤقتاً حتى إيجاد حل، لكن إن لم يناسبها ذلك فقد تدفع بأنصارها للنزول إلى الشارع لقلب الطاولة – لم يعودوا موافقين على سياساتها، لا بل على توجهاتها، خصوصاً مع عودة “نغمة” الإرهاب إلى القارة السمراء واعتبار الكثير من المراقبين بأن لـ “النهضة” علاقات ومع تلك التنظيمات حيث يُخشى على تونس من تداعيات أية جولات عنف جديدة لا سيما من جهة الجنوب الشرقي للبلاد، أي ليبيا.
إن قرارات الرئيس سعيّد مهمة لكنها ليست حلاً، ما يعني أن تونس على موعد مع 30 يوماً لإيجاد تفاهمات تعمل على تهدئة الشعب الغاضب، وإعادة الأمور إلى نصابها، أو السيناريو الأخطر هو المتوقع.
مصدر الأخبار: سيتا + وكالات.
مصدر الصور: فرانس 24 – المدن.
موضوع ذا صلة: تونس: تداعيات الصراع بين الرئاسات الثلاث