يتفاقم السجال أكثر فأكثر حول قضية إلغاء صفقة الغواصات – التي سبق وأن أتفقت عليها استراليا مع فرنسا – بأمر أميركي. في المقابل، يحاول الأوروبيون – وبالحد الادنى من خلال وسائل الإعلام – دعم باريس في المواجهة مع واشنطن في هذا الملف.
من هنا، عبّرت باريس عن استيائها جراء ما حصل في ملف الغواصات، وأتت تصاريح وزير الخارجية الفرنسية، جان إيف لودريان، قاسية تجاه الولايات المتحدة، معبراً عن “فقدان الثقة بين الحلفاء”، حيث تعتبر فرنسا إحدى الدول الأوروبية الأكثر قرباً سياسياً واستراتيجياً من واشنطن، كما أن هناك بعض القادة الفرنسيين الذين يتباهون بهذا الشيء. لكن الأمر لم يعد بهذه السهولة التي كانت سابقاً.
لقد جاءت مسألة إلغاء صفقة الغواصات في سياق الحرب الاقتصادية التي اعلنتها الولايات المتحدة – في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب – على الأصدقاء قبل الاعداء، تحت مقولة “أميركا أولاً”. وأول فصولها كان الانسحاب الفردي من الاتفاق النووي الإيراني وأعادة فرض العقوبات الآحادية الجانب – بعدما بدأ رفع العقوبات الأممية – من دون الإتفاق مع الشركاء الأوروبيين، ما جعلهم يخسرون وجودهم اقتصادي في اسيا الوسطى.
أيضاً، تمثل أحد الفصول في التواجد العسكري في بعض البلدان نتيجة لـ “الربيع العربي”، كما هو الحال في مناطق الشمال والشرق السوريين، وليبيا عبر تركيا، بما فيها الممتد إلى إفريقيا، ومؤخراً قرار الإنسحاب الفوري من أفغانستان دون أي تنسيق مع الحلفاء الأوروبيين.
من خلال ما سبق، تأتي أزمة صفقة الغواصات الأسترالية – الفرنسية ضمن سياق الحلف الانجلو – ساكسوني التي تحاول الولايات المتحدة إنشاءه رسمياً لمواجهة الصين؛ لكن هذا الحلف له أيضاً عدة أهداف أبرزها مواجهة الإتحاد الأوروبي، من دون “إعلان حرب” الرسمي والمباشر كما حصل سابقاً مع الصين.
في هذا المجال، تبرز العديد من النتائج على شكل تساؤلات مشروعة، وأهمها:
• أليست الولايات المتحدة التي انسحبت دون قيد و شرط من الاتفاق النووي الإيراني وأجبرت الاوروبيون على الخروج من الأسواق الايرانية، وخسرت شركة “توتال” الفرنسية مليارات الدولارات؟
• أليست واشنطن هي التي حثت بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي بشكل رسمي لمحاولة إضعافه سياسياً واقتصادياً؟
• أليست هي ايضاً من أطلق يد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لمواجهة الكرد – حلفاء فرنسا وأوروبا – في الشمال السوري، وأعطت “الضوء الأخضر” لهذا الأخير لمواجهة فرنسا في ليبيا؟
• أليست الولايات المتحدة – التي تحاول حالياً التمدد ضمن القارة الإفريقية وخصوصاً في منطقة الساحل – تقوم بمواجهة أوروبا، عامة، وفرنسا، التي تعتبر إفريقيا “عمقاً استراتيجياً” لها، خاصة؟
• أليست واشنطن من عرقل المبادرة السياسية للرئيس إيمانويل ماكرون في لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت؟ اقتصادياً، أليست هي كذلك من عرقل مسار شركة “توتال”، وغيرها من الشركات الأوروبية” للتنقيب عن الغاز في البحر اللبناني، وتمنع أيضاً عملية إعمار مرفأ بيروت بعدما قدمت العديد من الشركات – لا سيما ألمانيا وفرنسا – خطة لإعادة بنائه؟
في يوم من الأيام، قال الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، في آخر حياته، عن تصرفات واشنطن “إنها لا تشبه الحرب، لكنها فعلياً حرب ضروس يومية تشنها الولايات المتحدة دون هوادة على فرنسا.”
رغم ذلك هناك اليوم فرصة لكل من فرنسا والاتحاد الأوروبي لإنشاء استراتيجية سياسية – اقتصادية – عسكرية وحتى أمنية شبه مستقلة عن الولايات المتحدة. فعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي لا يملك جميع الأمكانات لذلك حالياً، لكن إذا استطاع اغتنام الفرصة وتم توحيد الموقف الأوروبي، لا سيما على الصعيدين السياسي والاقتصادي، اللعب بورقتي موسكو وبكين بوجه واشنطن، يمكن القول بأن ذلك كله سيؤسس إلى قاعدة متينة يمكن لها توفير استقلالية تامة مستقبلية للاتحاد بعيداً عن الولايات المتحدة، التي هي بتراجع على الصعيد الدولي، حيث أن كل انهيار أميركي يعني بالوقت الحالي انهياراً أوروبياً أيضاً، لا بل انهيار المحور الغربي برمته.
لذا، يمكن القول بأن هناك فرصة أخرى لخلق الامكانيات الضرورية للاستقلالية عن الولايات المتحدة وهي تعتمد بالأساس على وعي الرأي العام الأوروبي بأن النهج الأمريكي واحد لا يتغير مع تغير الحاكم، بمعنى أن الرئيس جو بايدن يسير في نفس النهج الذي سار عليه سلفه ترامب، وهو ما خيّب ظن الرأي العام الأوروبي التي عوّل على قدومه إلى البيت الأبيض، وفرح بخسارة نده ترامب في الانتخابات الرئاسية.
فيما يخص المنازعة الحالية، هناك سؤال أوروبي مهم: هل سيتخطى قادة الاتحاد الأوروبي مشاكلهم وصراعاتهم الداخلية والخارجية للاستفادة من الفرصة المتاحة لهم، أم سيبقون على توافقهم ودعمهم لفرنسا في الإطار الاعلامي البحت؟
أخيراً وبعد الاتصال الذي تم بين الرئيسين الفرنسي والأمريكي وعودة السفير الفرنسي إلى عمله في واشنطن، يبقى السؤال المطروح: ما هناك من “مكافأة” بديلة قدمتها أو ستقدمها واشنطن إلى باريس كتعويض عن الصفقة الملغاة؟
على أرض الواقع، يبدو بأن الرأي العام الأوروبي، بشكل عام، والفرنسي، بشكل خاص، لا يعول على أية بدائل أمريكية، فهو “مستاء” جداً مما يحصل من الرئيس بايدن وإدارته، خصوصاً مع عدم وجود أي مردود، مالي أو تجاري أو غيره، يعود على عامة الشعب. لكن يمكن القول بأن المتضرر الأكبر يبقى بعض الأثرياء وبعض أصحاب شركات التكنولوجيا والتسلّح، والرئيس ماكرون كونه يعتبر رمز للسلطة العليا في فرنسا.
مصدر الصور: الحدث – الحرة.
موضوع ذا صلة: صناعة الغواصات المتطورة.. إمتياز ألماني
محلل سياسي لبناني – فرنسي.