إعداد: مركز سيتا
تُبنى على المتغيرات السياسية في العلاقات الدولية الكثير من المواقف تبعاً لتطورات كل مرحلة، لا سيما في وقت أصبح فيه كل من الحصار والعقوبات الإقتصادية “سلاح العصر”، وباتت الكثير من المنظمات مُدرجة على لوائح الإرهاب لمخالفتها معايير الإدارة الأمريكية، بالتحديد. بذات السياق، يختفي كل ذلك في ضوء كل متغير ومتبدل في تلك السياسات.
لم تُخفِ واشنطن طمعها ببالكثير من المناطق، كالشرق الأوسط ودول شرق آسيا، منذ القِدم. هذه المناطق، كانت موضع صراعات دائمة عاشت خلالها حروباً دامية طويلة، إلى أن تبلورت واخذت شكلها الحالي المتبدل غير الثابت في العهد الحديث. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث ويحدث في أفغانستان. تلك البقعة التي كانت تقف مانعاً أمام كل الجيوش، وفاصلاً بين الشرق والمشرق الموسع.
إنهاء لدوامة العنف؟
بالعودة إلى الوراء قليلاً وتحديداً عند إنسحاب قوات الإتحاد السوفياتي من أفغانستان في العام 1989، أثير جدل واسع في أوساط قوى المجاهدين بشأن المصالحة الوطنية التي أعلن عنها الرئيس الأفغاني وقتذاك، محمد نجيب الله. وكانت رسالة القوى الأجنبية إلى قادة أحزاب المجاهدين، الذين كانوا يتخذون مدينة بيشاور الباكستانية مقرا لهم، أن الشعب الأفغاني سئم الحرب، وأن الوقت حان للواقعية والتخلي عن شعارات الحسم العسكري مع الحكومة الأفغانية الموالية للروس.
اليوم وبرعاية قطر وألمانيا، إنطلق في الدوحة المؤتمر الأفغاني للسلام بحضور نحو 53 شخصية أفغانية من سياسيين ورجال دين وإعلاميين وأعضاء من المجتمع المدني الأفغاني، جشع هذا المؤتمر على الحوار بين الحكومة الأفغانية وطالبان. وفي ذات السياق، يتزامن المؤتمر مع الجولة السابعة من المباحثات بين الولايات المتحدة وطالبان، والتي تستضيفها الدوحة منذ 29 يونيو/حزيران (2019)، وجرى تعليقها لبعض الوقت من أجل الإفساح في المجال أمام المؤتمر الأفغاني للسلام، بهدف إيجاد تسوية سياسية لإنهاء دوامة العنف التي تشهدها البلاد منذ 18 عاماً.
وكان قد أعلن المبعوث الأمريكي الخاص إلى أفغانستان، زلماي خليل زاد، عن تقدم المفاوضات الجارية في قطر مع حركة طالبان الأفغانية واصفاً إياها بأنها “الأكثر إنتاجية”، إذ تبدو انها تسير على مسار التوصل إلى اتفاق ينهي 17 عاماً من “الحروب التي لا تنتهي”، وفقاً لعبارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وجهاً لوجه
واشنطن، التي دفعت مليارات الدولارات وحركت جيشها مرتين إلى أفغانستان كي تقضي على حركة طالبان، عادت لتفاوض الحركة، التي كانت مدرجة على قائمة الإرهاب الدولي بحسب التصنيف الأمريكي لها في العام 2010، ثم ما لبثت أن أعلنت أن زعيم حركة طالبان الباكستانية، الملا فضل الله “إرهابياً عالمياً”.
لكن اليوم ومع تقاطع المصالح، تجلس واشنطن وجها لوجه مع طالبان، قبل إعادة قواتها المتمركزة في أفغانستان. إلا أن ذلك يُصرف في الحسابات السياسية على أنه أمر منطقي بعد تكريس الحركة نفسها قوة سياسية حاسمة، فهذه ليست المرة الأولى التي يجتمعان فيها معا، إلا أنه وفي هذه المرة كان هناك إعتراف علني أمريكي بالفشل في كسب الحرب ضد طالبان، التي أصحبت أكثر قوة مما كانت عليه خريف عام 2001 عندما تم إسقاط حكمها بسبب استضافتها لزعيم تنظيم “القاعدة” أسامة بن لادن.
ولكن بالرغم من إعلان إدارة الرئيس ترامب عزمها سحب قواتها من أفغانستان، لكنه من المستبعد أن تقوم الولايات المتحدة بإخراج نفسها من المشهد العسكري الأفغاني تماماً. لذا، يرجح ان تُبقي واشنطن على عدد من الخيارات الأخرى المفتوحة هناك أبرزها مفاوضاتها الدائرة منذ وقت طويل مع عدد من الشركات الأمنية القوية، كـ “بلاك ووتر” التي خلفت فظائع في العراق، من أجل فرض النظام عبر العناصر المرتزقة لتلك الشركات، ولكن تحت مسميات أخرى، في حال أدى الإنسحاب الأمريكي إلى حدوث فوضى ما.
ما السر؟
إن طالبان العدو اللدود للاتحاد السوفياتي السابق، اليوم على علاقة جيدة بروسيا، التي تحاول دفعها بإتجاه المطالبة بالإنسحاب الأمريكي من أفغانستان. فالإنخراط الروسي الكبير في النزاع الأفغاني، فاجأ كثيرين وخصوصاً بسبب التاريخ الدامي لروسيا أثناء فترة احتلال البلاد بين 1979 و1989. إلا ان الهدف الأكبر يكمن في حماية أمن الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى التي تعتبرها ضمن منطقة نفوذها لا سيما الحدود التي تعتبر سهلة الاختراق والبالغ طولها 1300 كلم بين أفغانستان وطاجيكستان.
في هذا الشأن، يبدو أن روسيا قلقة من تغلغل التنظيمات الإسلامية في أفغانستان، وتريد من حركة طالبان والحكومة الأفغانية أن توحدا جهودهما لمحاربته، وهو ما تدركه الولايات المتحدة جيداً. لذلك، تسعى بكل ثقلها كي تبقى في أفغانستان، فموقعها الإستراتيجي جعلها موضوع إهتمام لواشنطن، لمواجهة الصين القريبة منها ومشاريعها الإقتصادية كـ “طريق الحرير” المار بمحاذاتها، والإقتراب من إيران من جهة الشرق، إلى جانب التواجد بالقرب من بحر قزوين ومنطقة القوقاز، حيث تقع دول الإتحاد السوفياتي السابق وخاصة الدول المسلمة منها، لإزعاج الروس بطريقةٍ أو أخرى.
ختاماً، إن الموقع الإستراتيجي لأفغانستان جعلها محط تنافس عالمي بين أكبر القوى في العالم. فالأمريكي يبدو أنه يعمل على إحياء الحرب الأهلية فيها وإزكاءها مجدداً، في ظل معلومات تتحدث عن تهريبه للجهاديين من تنظيم “داعش” الإرهابي من سوريا والعراق إليها. في المقابل، تجاهد موسكو بكل ثقلها لتوقف المخطط الأمريكي للتمركز على الحدود القريبة منها بعدما افشلته في بحر قزوين، إضافة إلى الصين التي تريد ان تمر مشاريعها الإقتصادية بهدوء وسلاسة.
يبدو، وبحسب العديد من المراقبين، أن ساحة الصراع القادمة قد تنطلق شرارتها من هناك، لكن هذه المرة بثقلٍ أكبر من دون أن يكون هناك أحد رابح، في حين يبقى الشعب الأفغاني هو الخاسر الأكبر.
مصدر الأخبار: سيتا + وكالات
مصدر الصور: صحيقة العراق- روسيا اليوم.