1. مدخل: من هم الليبيون؟
يهدف هذا المسعى إلى محاولة تأصيل مسألة الهوية الليبية فيما يختص بعلاقتها بالإعلام في إطار التساؤل الرئيس الذي يطرحه: كيف يمكن لنا أن نفهم الهوية الليبية؟ وكيف يمكن لنا أن نفهم علاقة هذه الهوية بالإعلام والأوضاع الإعلامية الليبية؟ وهو تساؤل يبدو محورياً خاصة في ظل ما شهدته وتشهده الحالة الليبية عبر أزمان طويلة من عمليات تشكيل وإعادة تشكيل لأسس الهوية الليبية.
ومن أجل تحقيق تأصيل أمثل لهذه المسألة الأساسية في حياة ليبيا والليبيين، ينطلق هذا المسعى من رؤية منهجية مفادها أنه من غير الممكن النظر إلى مسألة الهوية وعلاقتها بالإعلام بمعزل عن مداخل تاريخية وسياسية واقتصادية وقانونية، وذلك بغية إيجاد نظرة أكثر عمقاً وشمولاً لهذه المسالة بالغة الأهمية.
مفاد ذلك أنّه لا توجد نقطة ارتكاز واحدة لتحقيق الهوية وتجسيدها، وهو أمر ينطبق على كثير من المظاهر والظواهر الحياتية بالشكل الذي عبّر عنه “أرشميدس” منذ زمن بعيد بقوله “أعطني نقطة ارتكاز وسأرفع لك العالم”. وهكذا، انهارت محاولات تفسير الأشياء والظواهر من خلال عامل واحد محدد، وأصبح لازماً على المعرفة العلمية الحديثة النظر إلى الظاهرة الواحدة من خلال عدة زوايا وجوانب ومعطيات.
بيد انه في إطار ما تسعى إليه هذه المحاولة من إيجاد نظرة “بانوارمية” لمسألة الهوية الليبية بالوقوف عند أبرز المحطات التي مرت بها عمليات تأصيل هذه الهوية. لقد أبرز “أدريان بلت”، مندوب الأمم المتحدة في ليبيا خلال عامي 1950 – 1951، برؤية ثاقبة التهديدات التي قد تؤثر على وحدة ليبيا واستقلالها (وهما جوهر الهوية الليبية) عندما أشار – في مؤلفه الذي صدر العام 1970 – إلى أن “أي تهديد لاستقلال ليبيا ينبثق على الأرجح إما من انشقاقات داخلية سياسية أو اجتماعية، وإما بسبب حدوث تغيرات جوهرية في توازن القوى الاستراتيجي في منطقة البحر المتوسط”.(1)
وفي هذه الأوقات المفصلية الصعبة، تصبح مسألة الهوية الليبية بالغة الأهمية، بحيث لا يمكن لها أن تترك تحت أي ظرف من الظروف بأيدي أصحاب المصالح والمطامع الفئوية، ولا بأيدي اليائسين البائسين الذين استبدلوا كره الذات بنقد الذات، وتجاوزوا تأصيل الهوية إلى اعتبار الإنتماء الليبي جزءاً من المشكلة، وكأن الحل يكمن في أن ينتحل الليبيون لأنفسهم انتماءات جديدة أو أن يتيهوا في الأرض بحثاً عن هويات بديلة.
إن أساس هذه التوجهات غير السويّة يكمن – أولاً وأخيراً – في العجز عن فهم الذات والعجز عن تحليل الذات، والنظر إلى أنفسنا بعين فاحصة ناقدة، وذلك بسبب الخوف، أو من اجل الهروب من هذه المشكلة التي يظن الظانون أن لا حل لها. وفي غياب أن ننظر إلى أنفسنا بأنفسنا يكون طبيعياً أن يكون اهتمامنا منصباً على نظرة الآخرين لنا؛ أي أن ننظر إلى أنفسنا بعيون الآخرين، وأن نفهم أنفسنا بناءً على فهم الآخرين لنا؛ أي أن هذا التوجه يعني إزاحة أنفسنا إلى الهامش، وجعل الآخرين هم المركز، بحيث يتحتم علينا دوما أن ندور في أفلاك غيرنا، وألا نتحرك إلا في الاتجاه الذي يريد لنا الآخرون أن نسير إليه.(2)
وعلى الرغم من أن المعطيات الاجتماعية والثقافية والجغرافية للهوية الليبية بقيت راسخة، إلا أن تلاطم الأمواج السياسية محلياً وإقليمياً ودولياً قاد إلى محاولات تشكيل هذه الهوية أو إعادة تشكيلها في ضوء هذه الاعتبارات السياسية أو تلك، ومثلما كانت رؤية الباب العالي خلال فترة حكم الإمبراطورية العثمانية قائمة على إمبراطورية ثنائية العرق: ترك وعرب يجمعهما الإسلام سواء في ليبيا أو غيرها من البلاد العربية. كما عمد الإيطاليون إلى محاولة إذابة الهوية الليبية ضمن مكونات الإمبراطورية الايطالية، حيث أعلن الجنرال “كانيفا” في خطاب له موجه إلى الليبيين أن “إيطاليا هي أبوكم، لأنه تزوج من ليبيا أمكم”. أما الجنرال “بالبو”، حاكم ليبيا خلال الفترة من 1922 – 1943، فقد أشار إلى انه “لدينا ايطاليون كاثوليك، وإيطاليون مسلمون يجتمعان كعنصرين بنائين في تنظيم عظيم وقوي هو الإمبراطورية الفاشية”.(3)
وعندما تأسّست الدولة الليبية المستقلة، في نهايات العام 1951، كانت مراجل السياسة تعتمل، ليس من أجل صون الهوية الوطنية، بل من أجل صوغها في إطار تيارات يستلهم بعضها فكرة الهوية الأممية بكل تشعباتها وتفرعاتها، ويستلهم بعضها الآخر فكرة الهوية القومية بكل أصنافها وتنوعاتها.
وحين احتدم الصراع داخل الحركات الأممية والقومية وبينها، تنامت الحركات الحزبية السرية لهذه التيارات في ليبيا، وكان لا بد لهذه الدولة الوليدة أن تجد لها مخرجاً، وهو ما حدا ببعض السياسيين الليبيين آنذاك إلى استلهام فكرة “الشخصية الليبية”؛ تلك الشخصية التي تشبه الجمرة التي تتوقد تحت الرماد، وما علينا إلا أن نزيل ذلك الرماد على حد تعبير أحد أبرز سياسيي تلك الفترة.(4)
ومع أفول الأوضاع السياسية الملكية وحلول الوضع الجمهوري العام 1969، دقت طبول القومية بقوة مزلزلة، لكن الواقعية السياسية آنذاك دفعت في إطار المحاولات الوحدوية التي سعى إليها سياسيون الجمهورية إلى مزاوجة القومية والدينية مثلما جاء ضمن فكرة الجمهورية العربية الإسلامية للتعبير عن النمط الوحدوي المقترح بين ليبيا وتونس، العام 1974، أو إلى مزاوجة القومية والدينية مع الانتماء الجغرافي الليبي لكي يكون هناك بعد متوسطي لهذه الهوية مثلما عبرت عنه محاولة الوحدة بين ليبيا ومالطا.
بيد أنه مع إعلان الفكر السياسي الجماهيري العام 1977، رجحت كفة العقيدة السياسية في مقابل الهوية الليبية، بحيث أصبحت الجماهيرية التي هي أساساً نظام فكري وسياسي بؤرة الهوية الليبية، بل رديفاً وأحياناً بديلاً لها لدرجة أنها كانت تتناقض مع أسس النظام الفكري الجماهيري نفسه، فالإنسان الليبي الذي أُريد له أن يعيش الجماهيرية نظاماً مذهبياً راسخاً لا حيدة عنه، كان يستطيع أن يخرج من “الجماهيرية” ويدخل إليها، وأن يزورها ويغادرها، وأن يعمل ضمن مؤسّسات سياسية واقتصادية وثقافية داخلها وخارجها. كل ذلك كان يحدث بفعل مزاوجة العقيدة السياسية بالهوية الوطنية، ثم أتى على هذه الجماهيرية حين من الدهر لكي يقال لليبيين أنهم أفارقة قبل أن يكونوا عرباً، وأن الانتماء القاري يمثل بوصلة التوجه للانتماء الوطني.
ومع رياح التغيير العاصفة التي اجتاحت ليبيا العام 2011، صار الحديث عن المكونات التي بدت تبرز وكأنها قطع فسيفسائية يتم تنسيق أجزائها على الخارطة الليبية مثلما يفعل الأطفال بألعاب التركيب الورقي لأجزاء صورة أو منظر. وترجع ضبابية هذا الطرح المتعلق بالمكونات إلى حقيقة استقائه قياساً على ما يحدث في بلدان المشرق العربي وخاصة العراق رغم اختلاف المعطيات والظروف بين البلدين من حيث التركيبة السكانية، ومما جعل صورة هذه المكونات غير واضحة المعالم؛ فإذا كانت مكونات اجتماعية فمن غير الواضح معرفة، كيف يمكن لها أن تنسجم مع واقع القبائل الليبية المحترمة التي انبرت للالتحام ومقارعة الغزاة، ولم تكن بحاجة إلى تخريجات فلاسفة المكونات لكي تهب بعزة وشموخ لأداء واجباتها الوطنية.
أما إذا كانت تلك المكونات ثقافية ترتبط باللغة وبعض مسائل التراث الشعبي، فهذا شأن آخر يوجد في جل بلدان العالم بما في ذلك الولايات المتحدة التي تمتزج فيها كل أجناس وثقافات الدنيا دون أن يسميها السياسيون والمثقفون والقانونيون مكونات.
ومع أفول نجم التيارات القومية والعلمانية في نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، انبرت تيارات الإسلام السياسي لكي تطرح نفسها بديلاً جديداً على الساحات الوطنية والأممية. بيد أن مثل هذه التيارات التي تنسب نفسها للإسلام الأساسي عمدت إلى طرح فكرة الربط بين هذه الأجزاء أو المكونات في ظل تفسيراتها الخاصة للهوية، رغم أن هذا الربط تحقق عمليا لدى الليبيين دون حاجة لأي طرح سياسي، لكن هذا النمط من الإسلام الذي تم تكوينه سياسياً لم يكن قادراً إطلاقاً على تحقيق هذا التمازج، لأن الإسلام الذي أراد له رب العباد أن يكون ديناً واحداً لأمة واحدة اصطنعت له تلك التيارات في عالم السياسة عدة مسارب وأطياف ومشارب، وأصبح تيار الإسلام الواحد يصارع تيارات إسلامية متباينة بل متنافرة ومتحاربة.
لذا لم يكن لما يعرف بمفهوم المكونات ذكر ولا وجود في حياة ليبيا والليبيين، وحتى عندما قفز إلى الواجهة مثل هذا المفهوم خلال الوثائق السياسية التي أعدت بإشراف الأمم المتحدة مثلما هو الحال بالنسبة للاتفاق السياسي الليبي الموقع في الصخيرات المغربية، تاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول 2015، كانت الإشارة في المادة الـ (50) منه إلى المكونات الثقافية وليس إلى مكونات اجتماعية.(5)
ثم إن هؤلاء الليبيين – بغض النظر عن تكويناتهم ومكوناتهم – تم الانتقال بهم مراراً من تحرير إلى تحرير وعندما جاء العثمانيون إلى ليبيا قيل لليبيين أنهم جاءوا لتحريرهم من فرسان القديس يوحنا.
وعندما زحفت جيوش الطليان صوب ليبيا العام 1911، قيل لليبيين إنها جاءت لتحريرهم من عسف الأتراك. وعندما دكت جيوش الحلفاء معاقل الايطاليين في ليبيا – خلال الحرب العالمية الثانية – قيل لليبيين إنها جاءت لتحريرهم من الفاشية الايطالية. وعندما أسقط الحكم الملكي العام 1969، قيل لليبيين إن الهدف هو تحريرهم من نظام فاسد وقواعد عسكرية أجنبية جاثمة، وسيطرة أجنبية على اقتصاد البلاد. وحينما أخذت ليبيا نصيبها من “الربيع العربي” العام 2011، قيل لليبيين إن الهدف هو تحريرهم من دكتاتورية طاغية. ولا تزال تشن الحروب لتحرير ليبيا من “الإرهاب” أو من سلطة الميليشيات أو سلطة العسكر، ولا يعلم إلآم يبقى حبل التحرير على الجرار، وما هي الآثار النفسية والاجتماعية والسياسية التي يتركها مسلسل التحرير الطويل على رؤيتهم لذاتهم، ولليبيا الوطن الذي ينتمون إليه جميعاً.
أما النتيجة التي ترتبت على مختلف محاولات التفكيك والتركيب للهوية الليبية خلال مختلف الفترات الزمنية فهي تحتاج إلى دراسات مستقلة متعمقة، لكن أبرز الأمور يتمثل في أن الليبيين أنهكت مشاعر الانتماء الوطني لديهم؛ لأن هذا الانتماء أراد له السياسيون دوماً أن يسير على درب مذهب سياسي محدد، وهكذا تعددت هذه المذ اهب وتنوعت، وتباينت وتباعدت، وترك كل واحد منها شروخاً في صرح الهوية الليبية لدرجة جعلت البعض يخلصون إلى أن الليبيين لم يعد يعودوا هم الليبيون، رغم أن ليبيا لا تزال – رغم أنف أعدائها – كما هي، تنتظر همّة أهلها، وهبّة أهلها لكي تظل واحدة بأهلها، قوية بهم، شامخة بشموخهم، وهو ما يعني أن تسير التيارات السياسية فيما يختص بمسألة الهوية الوطنية خلف الليبيين وليس أمامهم؛ أي أن تعكس روح التلاحم بين الليبيين بدلاً من أن تعمد إلى اصطناع رؤى سياسية ومذهبية تزعم أنها تجسد هذا التلاحم، في حين أنها تؤسّس لشروخ وانقسامات مماثلة لما تشهده بلدان أخرى أصبحت بفعل سياستها العاجزة وسياسييها الأكثر عجزاً تعتمد المحاصصة والمغالبة أسساً لهويات فسيفسائية تجعل الوطن ومقدراته وترابه ميراثاً غير مقدس يقسم على زعماء الطوائف والمذاهب، تنفيذاً لإرادات وإملاءات المستعمرين السابقين واللاحقين.
الهوية الليبية لا يمكن لها أن تبقى أسيرة أهواء أصحاب المصالح والمطامع الأنانية والفئوية، ولا أصحاب المذاهب السياسية التي تتغلف بالدين أو بغيره، ولا من خلال جبهات سياسية بلا قتال ولا نضال تتخذ من تحرير ليبيا شعاراً لها، وأولى بليبيا أن تتحرر من مثل هذه الجبهات وليس من خلالها.
تحرير ليبيا لن يكتمل إلا بتحرير الهوية الليبية، وبتحرير الليبيين من براثن الجهل والأمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية، وهو ما يتطلب مشروعاً ثقافياً وطنياً شاملاً ذا أبعاد إستراتيجية. الثقافة الوطنية هي القوة الناعمة القادرة على الانتقال بليبيا إلى بر الأمان؛ فالهوية ثقافة قبل أن تكون انتماءً جغرافياً أو موقفاً عاطفياً أو حالة تاريخية أو شكلاًدستورياً أو قانونياً، وحين تترسخ مثل هذه الثقافة وتتجسد سوف تسقط أوراق التوت تلقائياً عن كل الهياكل المهترئة التي تتاجر بالهوية وبالوطن، وتشرق شمس الحقيقة على ليبيا الجديدة، ليبيا القادمة.
المراجع:
1. أنظر:
Adrian Pelt. Libyan Independence and the United Nations: A Case of planned Decolonization Originally Published for the Carnegie Endowment for International Peace, New Haven and London, Yale University Press 41970. Reprinted by Center for Libyan Studies, Libyan Institute for Advanced studies in Association with Kalam Research and Media 2016, P.37.
2. أنظر:
Hassan Hanafi, “Looking in at Ourselves” in Al-Ahram International (26/12/1996-1/1/1997), P.15.
3. جون رايت، انبثاق ليبيا، ترجمة الطيب الزبير الطيب، دار الفرجاني، طرابلس/ ليبيا 2012، من ص339 – 344.
4. هذا القول يرجع إلى الأستاذ عبد الحميد البكوش أثناء شغله وظيفة رئيس مجلس الوزراء في ليبيا 25/10/1967 – 4/9/1968.
5. أنظر:
Unsmil, Unmissions. Org.(Unsmil.Vnmission.org)
مصدر الصور: الحرة – العرب.
موضوع ذا صلة: المواطنة والمشاركة السياسية: الحالة الليبية(1/2)
أ. د. علي المنتصر فرفر
أستاذ الإعلام في جامعة طرابلس – ليبيا