3. الإعلام والهوية والسياسة

في غمار الممارسات المختلفة لقواعد السياسة الواقعية التقليدية أصبح كثير من الناس عبر مختلف النظم والعهود السياسية مأسورين في النظر إلى السياسة من منطلق مثل هذه الشعارات السياسية الواقعية: فرق تسد، إبطش بخصومك ثم اعتذر عن بطشك بهم، إذا بطشت بخصومك فالأمثل هو أن تنكر ولو لحين قيامك بذلك، احرص على أن تكون قادراً على تجرّع العلقم دون أن تبدو على وجهك علامات الامتعاض، احرص على استخدام المال كأداة تشحيم لترطيب العلاقة مع كرسي السلطة، ومع أولئك الذين قد يوصلونك إليه، أو ينازعونك عليه.. الخ.

ويأتي الإعلام المسيس في نفس الركب، ويجعل من نفسه مطية لمثل هذا النوع من السياسات، وهكذا في ظل انعدام وجود ثقافة سياسية حقيقية راسخة، يصبح الناس قابلين إلى أن يتحولوا إما إلى مسخ مقلد لمن يجلسون على هرم السلطة، وإما أداة لهم، أو إلى قوة معارضة لهم سرعان ما تتحول إلى صورة مماثلة لأصحاب السلطة لمجرد أن تحل محلهم، وإذا كانت السلطة هي إعمال تأثيرات ضد المقاومة المحتملة لها، فإن إعمال هذه التأثيرات في ظل الواقعية السياسية ومبادئها يتحول إلى عنف وإكراه وإرهاب وطغيان، ويصبح أمام الناس الاختيار بين أن يكونوا جلادين أو ضحايا أو جمهور المشاهدين للقهر الذي يمارسه الجلادون على الضحايا.

مشكلة العنف والإرهاب مثلما عبّرت عنه الباحثة حنة أردنت تكمن في أن السلطة من الممكن أن تنزلق نحو العنف والإرهاب من أجل المحافظة على وجودها، لكن العنف والإرهاب لا يمكن لهما أبدا أن يتمخضا عن سلطة، ولذا فهما في التحليل النهائي وسيلتان لتفويض السلطة لأبنائها. وبذلك تتسع الفجوة بين السياسة كما يجب أن تكون، وما يعرف بالسياسة الواقعية خاصة في ضوء حقيقة أن السياسة ليست مورداً يمكن توزيعه على حصص عادلة بين المتنافسين سياسياً بل هي قدرة ومهارة وممارسة يمكن تعلمها واستخدامها لحل المشكلات الوطنية، ومن هنا فإن المشكلة لا تكمن في توزيع للحصص السياسية ولكن في الأساس الذي تقوم عليه الهياكل السياسية القائمة ومدى قدرتها على إنتاج الحلول السياسية للمشكلات الوطنية.(1)

هذه الحلول السياسية لا تعني إلغاء التنازع والتنافر والاختلاف، بل منع أن تحول أي منها إلى عنف، وعنف مضاد، ولأن العنف شأنه شأن المشروعية تماماً لا يمكن له أن يتحقق عملياً إلا من خلال الوسائط الرمزية التي تشمل الأدب والفن والإعلام والثقافة، فإن الخيار الأمثل أمام محاولات تجسيد الهوية الوطنية إعلامياً يتمثل في العمل على انتقال الإعلام من إعلام السلطة أو السلطة إلى الحوار الإعلامي حول السلطة أو السلطات، لأن الهوية تعني الترابط رغم الاختلاف، بل قد تعني أيضاً الترابط من أجل تحقيق التنوع والاختلاف، أي أن الأمر لا يتعلق إطلاقاً بإلغاء الإختلاف وإفناء كل أشكال التنازع، بل استثمار التنوّع والإختلاف في حل أية نزاعات قائمة أو قد تقوم.

إن حل أي مشكلة مثلما عبر عن ذلك “أينشتاين” ذات مرّة لا يمكن أن يتم من خلال نفس المنظور الذي قاد إلى وقوعها(2)، وبذلك يكون الإختلاف أساساً لحل المشكلات، لأنه يعلمنا كيف يمكن أن ننظر إلى الأشياء بطرق جديدة مختلفة، لكي نستطيع فهمها وحلها لكن مثل هذا المنظور لمسألة الهوية يتطلب المبادرة والممارسة القائمتين على التحليل والتمحيص في ظل حوار مجتمعي حقيقي فاعل ومسئول عبر مختلف القنوات، والوسائل الإعلامية، بيد أن الحالة الليبية الراهنة حولت الليبيين في أغلبهم إلى شعب من المشاهدين بدلاً من أن يكون شعباً من الفاعلين، كل طرف له صندوقه الخاص الذي يشاهده بانتباه، ثم يخلد إلى النوم مستريح البال إزاء اللكمات واللطمات الإعلامية التي وجهها أصحاب صندوقه إلى أصحاب الصناديق الأخرى.

وخلال فترة الممارسة الانتخابية للقرار السياسي عبر التصويت للمجالس التشريعية أو هيئة الدستور، فإن آراء الناس لا حضور لها خارج كونها تحصى معاً خلال تلك الفترات الانتخابية، أما عدا ذلك فالرأي رأي الساسة المنقسمين على أنفسهم، والمنفصمين عن الشعب، يلي ذلك رأي المحللين والمحرمين والناشطين السياسيين والإعلاميين والذي ينشط أغلبهم أمام لاقطات الصوت، وفي استوديوهات التلفاز، وغرف البث الإذاعي، ثم يعودون للخمول عندما تغيب لاقطات الصوت، ومصابيح الإضاءة الكهربائية، وعيون “الكاميرا”، ورنين القرش!

كما أن الممارسة الحقيقية للسياسة لا يمكن لها أن تتأتى من خلال استبعاد الآخرين أو استعبادهم، والممارسة السياسية الحقيقية لا تحققها بطولات فردية منعزلة عن جسم المجتمع، بل تتحقق في أفضل صورها عندما يستشعر كل مواطن أنفاس المواطنين الآخرين على رقبته مثلما عبر عن ذلك مارتن لوثر كينج في إشارة منه إلى التلاحم البشري اللازم لإحداث التغييرات الكبرى في حياة الشعوب.(3)

ثم إن العمل السياسي مثل كل عمل آخر قابل للنجاح وللفشل، وليست هناك وصفات جاهزة لتحقيق النجاح وتجنب الفشل، لكنه من الممكن دوماً تطوير المهارات والقدرات من أجل زيادة فرص النجاح. لكن السؤال الأهم سياسياً هو: ماذا يفعل بالنجاح؟ وكيف يتم التعامل مع الفشل إذا وقع؟ وإزاء هذا الأمر يتوهم السياسيون الفاقدون لأبسط أسس الثقافة السياسية أن النصر الانتخابي مفتاح الهيمنة والتسلط والهزيمة الانتخابية كارثة الكوارث، في حين أن أبسط قواعد المنطق السياسي تشير إلى أن فوز أغلبية انتخابية ما لا يعني أبداً إلغاء البرنامج السياسي للأقلية غير الفائزة، بل يعني فقط تأجيل تطبيق برنامجها إلى حين تمكنها من تطويره، وإقناع الآخرين به من أجل حشد أغلبية كافية للفوز في الجولات الانتخابية اللاحقة أي أن الحكم وفق منطق الشورى أو الديمقراطية هو الناس الذين يجب على السياسيين أن يسعوا عبر الإعلام وغيره إلى محاولة إقناعهم ببرامجهم السياسية الفعالة بعيداً عن كل أنماط الخداع والتزييف والتضليل.

وهكذا نجد السلوك السياسي في مجمله سلوكاً تفاوضياً يقوم على الموازنة بين مختلف التوجهات والمصالح والموائمة بينها، لكنه ليس بالضرورة سلوكاً معيارياً يقوم على مقارنة ما نقوم به من إجراءات بمعيار أو معايير محددة لأن السياسة تعني مقارنة ما نقوم به من إجراءات بإجرءات بديلة أخرى.

ثم أن السلوك السياسي ليس سلوكاً قسرياً يقوم على أحكام ملزمة مثلما يحدث في ساحات القضاء وليس سلوكاً تبادلياً يقوم على حسابات الربح والخسارة مثلما يجب أن يحدث في الاقتصاد ولكنه يجب أن يكون حوارياً تفاعلياً مثلما يحدث في ميادين الثقافة والإعلام.

من أجل ذلك يكون السبيل الأمثل هو النظر إلى مشكلات حياتنا من خلال مختلف الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والقانونية لأنه في غياب تلك الرؤى الشاملة قد تصبح التدابير السياسية التي يتخذها السياسيون أخطأ من خاطئة لأنها تعمد في أغلب الأحيان إلى لجم الحصان من ذيله!

وهكذا، ربما يكون الوضع المستقبلي لليبيا غير واضح وغير متفق عليه الآن، لكلن المتفق عليه هو أن وضع التشرذم والتشظي القائم الآن ميت ومميت ويتطلب التعجيل بإقباره وتجاوزه تيمناً بالسنة النبوية الشريفة التي تؤكد أن إكرام الميت يتمثل في التعجيل بدفنه.

المراجع:

1. حنة أرندت. في العنف. ترجمة إبرهيم العريس. دار الساقي. بيروت – لبنان. 2015. ص: 50.
2. أنظر:
Margaret Wheatly. Leadership and the New Science: Learning about Organization from an Orderly Universe, Berrett Koehler Publishers، San Francisco 1992, p.5.
3. أنظر:
Kathleen Hall – Jamieson. The Annals of American Academy of Political and Social Science, Philadelphia 1992, P.199.

مصدر الصور: Ifex – رويترز.

موضوع ذا صلة: خطى قليلة تفصل ليبيا عن “الفوضى أو الاستقرار”

أ. د. علي المنتصر فرفر

أستاذ الإعلام في جامعة طرابلس – ليبيا