في منتصف يونيو/حزيران 2021، أطلقت الصين سفينة فضائية مأهولة بثلاثة رواد إلى الجزء المنتهي من محطة الفضاء الصينية الدائمة تيانجونج – “القصر السماوي”، والذي يبلغ طوله 17 متراً، كانت هذه الرحلة هي الثالثة من ضمن 11 رحلة متوقعاً لها أن تطلقها الصين خلال عامي 2021 – 2022 حتى اكتمال بناء المحطة، والتي بدأ تجميعها في الفضاء، أبريل/نيسان 2021.
ينظر الصينيون إلى المحطة بوصفها إنجازاً وطنيّاً وعالميّاً سيسرع من وتيرة استكشاف الفضاء وتطوير التكنولوجيا اللازمة لذلك، كما سيساهم في الاستغلال السلمي لموارد الفضاء عن طريق التعاون الدولي، أما الولايات المتحدة، فترى أن المحطة “نذير شؤم بالغ”.
في تقييم نشرته وكالات استخباراتية أمريكية أبريل/نيسان 2021، صُورت المحطة بوصفها خطوة إضافية تتخذها الصين في مجهوداتها لتجاوز القدرات الفضائية الأمريكية، وكسب الهيبة الاقتصادية والعسكرية التي تمتعت بها الولايات المتحدة لعقود بسبب برامج الفضاء الخاصة بها. وفي مقال رأي نشرته صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية تحت عنوان: “ينبغي للأمريكيين أن يقلقوا بشأن الصين أكثر من روسيا”، وصف الكاتب جيمس هومان المحطة الصينية تيانجونج بأنها مرحلة أخرى في “سباق الفضاء الجديد”، الأمر الذي يسبب تهديداً للأمن القومي الأمريكي، على حد تعبيره.
يعتقد بعض المتابعين أن الصينيين قد اختاروا وقت بناء محطتهم الفضائية الجديدة بدقة؛ إذ يبنون محطتهم الفضائية الجديدة في وقتٍ تعاني فيه محطة الفضاء الدولية – ISS من مشكلات خطيرة تهدد استمراريتها، بسبب تسرب الهواء الذي أتعب علماء ناسا – NASA في تحديد مكانه بدقة، أواخر العام 2020، ما يضع الصين على بعد خطوة من أن تكون صاحبة محطة الفضاء الوحيدة في مدار الأرض.
وحدة الفضاء العسكرية الأمريكية
تعد وحدة الفضاء العسكرية الأمريكية الأولى من نوعها في العالم، جرى تدشينها العام 2019 على يد الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترمب. وحسب الموقع الرسمي للوحدة، فإن الهدف منها هو تنظيم وتدريب وتجهيز أعضائها لحماية مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في الفضاء؛ ليس ذلك فحسب، وإنما يشير الموقع بشكلٍ صريحٍ إلى أن الفضاء قد أصبح مسألة أمن قومي للولايات المتحدة بسبب التهديد الآخذ في النشوء من منافسين قريبين في الفضاء، ما يستدعي السعي وراء حفظ التفوق الأمريكي هناك.
في تصريح له لوكالة “فوكس نيوز”، حذر رئيس وحدة الفضاء العسكرية الأمريكية، الجنرال دايفيد تومبسون، من أن الصين تسعى لزيادة قدراتها في الفضاء، وأنه يمكنها أن تتعدى قدرات الولايات المتحدة الأمريكية قريباً. يكمل الجنرال تومبسون بقوله “لا أعتقد أن صعود الصين لتتبوأ القيادة في الفضاء بنهاية العقد الحالي أمر مستبعد تماماً، في النهاية هم يخطون خطوات مذهلة في ذلك المسعى”. في الوقت الحالي، تطلق الصين ضعف الأقمار الصناعية التي تطلقها الولايات المتحدة في الفضاء، وهو ما يصفه الجنرال بالتهديد الهائل.
روسيا على الخط.. كيف تستفيد الصين من الدعم الروسي؟
في تقرير لها تحت عنوان: “روسيا التي كانت قوة عظمى في الفضاء سابقاً، تتجه للصين لإطلاق مهماتها”، تتطرق صحيفة “نيويورك تايمز” إلى التعاون المشترك بين روسيا والصين في الفضاء، وكيف أنهما تشكلان كتلة ضد الولايات المتحدة وحلفائها، تضمن لهما قدرتهما على المنافسة وتحقيق أهدافهما المشتركة.
تسعى روسيا إلى الانسحاب من وكالة الفضاء الدولية – ISS بمجرد انتهاء تعاقدها مع الولايات المتحدة وحلفائها العام 2024، وقد أعلنت موسكو أسبابها لتلك النية؛ إذ صرح مدير وكالة الفضاء الروسية، ديمتري راجوزين، بأن قرار الانسحاب لا مفر منه إذا لم ترفع الولايات المتحدة عقوباتها عن روسيا، والتي أضرت ببرنامجها الفضائي ضرراً بالغاً.
بعد الإنسحاب من ذاك التعاقد العام 2024، سيتم التعاون بين روسيا والصين في اطلاق مهمة إلى نيزك باستخدام روبوتات ذكية لاستكشاف خصائصه وتحليلها، كما ستطلقان سلسلة من المهمات إلى القمر بغرض بناء قاعدة بحثية دائمة على قطبه الجنوبي بحلول العام 2030، وأولى تلك المهمات قد أُطلق بالفعل في أكتوبر/تشرين الأول 2021، بغرض تحديد أماكن الجليد الذي يمكن استخدامه فيما بعد لتوفير المياه اللازمة لبعثات قادمة.
الطيف الكهرو – مغناطيسي بتصرف القوة العسكرية
ومن قوة الفضاء إلى فضاء القوة، فقد شهدت السنوات الأخيرة زيادة في الصراع والتوتر الدولي، كما رأينا، حديثاً، في أوكرانيا. السمة الرئيسية لهذا النوع من المواجهة، على عكس تلك ضد الجماعات المسلحة (متمردين، إرهابيين أو جهاديين)، هو تطبيق مستوى تكنولوجي عالي. فالمدفعية والدبابات القتالية والطائرات والطائرات بدون طيار والأنظمة الأرضية/الجوية كلها وسائل لتجهيز الجيوش المعاصرة التي تم تطويرها بشكل طفيف. يضاف إلى كل ذلك الوسائل الهجومية للحرب الإلكترونية.
منذ الأزمة الأوكرانية السابقة العام 2014 وتدخّل موسكو في سوريا، تمكنت الدول الغربية من تكوين فكرة أوضح عن القدرات الهجومية للأنظمة والعقائد الروسية فيما يتعلق بالحرب الإلكترونية. كان الروس قادرين على رؤية التأثيرات التي يمكن أن يكون لها بوسائلهم الخاصة، والتأثيرات المتنوعة كما هي عديدة: التشويش على إشارات GPS، والهواتف المحمولة، وروابط البيانات من الطائرات بدون طيار (حتى الأكثر تقدماً)، الرادارات، وصلات الراديو، الأقمار الصناعية، أنظمة أرضية/جوية، إلخ.
قامت روسيا بتحديث هذه الممارسة وتطبيقها في التدربت المتتابعة، وستكون نتائج التدخلات العسكرية المختلفة لموسكو موضوع بحث في معايير نشر واستخدام هذا النوع من الأنظمة. حتى الولايات المتحدة تُظهر تجدداً ملحوظاً في الاهتمام بالحرب الإلكترونية، لا سيما عنصرها الهجومي.
كانت العواقب المحتملة من النوع الذي انتهى به الأمر إلى إثارة قلق وزارة الدفاع الأمريكية – DoD بدرجة كافية. وبحسب التقرير الذي قدمته هذه الإدارة، فإن كلا من روسيا والصين تظهران كفاءة كبيرة في مجال الحرب الإلكترونية. وينسب التقرير لمحللين في وزارة الدفاع الأميركية إلى أن الولايات المتحدة تخاطر بفقدان السيطرة على ساحة المعركة إذا لم تتحكم في الطيف الكهرو – مغناطيسي ووجدت أن الإصلاحات في هذا المجال لم تحقق النتائج المتوقعة. ويذكر التقرير أن روسيا كانت قادرة على تنفيذ “إجراءات واقعية ناجحة ضد الولايات المتحدة والجيوش الأجنبية الأخرى.”
يستشهد التقرير الأميركي بالمشاكل التنظيمية، والمعدات القديمة، بالإضافة إلى الطيف الكهرو – مغناطيسي الذي يتم تحميله بشكل متزايد؛ وبالتالي، معقد بشكل كبير لاستغلاله، ويسلط الضوء بوضوح على الضرورة المطلقة لإتقان البيئة الكهرو – مغناطيسية قبل التفكير في أن تكون مسيئة فيها.
ماذا سيحدث عند مواجهة خصم استغل الإمكانات الكاملة للحرب الإلكترونية؟
أولاً: سوف تمنحه تلك الميزات الوصول إلى جميع المعلومات التي يمكن استخلاصها من الاستماع إلى الطيف الكهرو – مغناطيسي ما سيسمح له ذلك بمعرفة جميع الوسائل المستخدمة والمنتشرة، لتحديد المواقع التقريبية وربما النوايا؛ لذلك، فهو يعرف تماماً توازن القوى ونقاط القوة ونقاط الضعف في النظام.
ثانياً: من شان الحرمان من وسائل الملاحة عبر الأقمار الصناعية – GNSS، أن يضر بشكل مباشر بتنفيذ بعض الأسلحة الموجهة (الصواريخ والقنابل والصواريخ والقذائف) ما يعقد بشكل كبير حركة الوحدات (البرية والجوية والبحرية).
ثالثاً: سيكون للحرمان من كل أو جزء من وسائل الاتصال عواقب وخيمة جداً على سير العمليات، فإن عدم تلقي معلومات من القوات في الميدان، بدون تحليل استخباراتي، لم يعد من الممكن رسم موقف تكتيكي، يستقر الضباب. الميزة الوحيدة هي أنه لن تكون هناك مشاكل تتعلق بالبيانات الضخمة. لم تعد هناك حاجة للذكاء الاصطناعي لمعالجة تدفق البيانات لأنه لن يكون هناك المزيد أو القليل جداً. ومن المحتمل أيضاً، في هذه الظروف، أن تكون الكمية الصغيرة من البيانات التي ستصل هي تلك التي يرغب الخصم في تركها. ويُخشى أن تكون هذه المعلومات خاطئة، أو على الأقل غير كاملة، ليس فقط لحرماننا من رؤية تكتيكية، ولكن لإعطائنا صورة خاطئة عنها.
رابعاً: إن حرماننا من وسائل تحديد الهوية لدينا (مثل IFF تحديد الهوية أو الصديق أو العدو) يعني أنه لم يعد من الممكن بالنسبة لنا التعرف على وحداتنا على وجه اليقين: هناك خطر أكبر نظراً لأن الاتصالات ستتعطل أيضاً. من المحتمل أن يتسبب هذا في اشتباك القوات المتحالفة مع بعضها البعض، أو إسقاط إحدى طائراتهم عن طريق الخطأ.
خامساً: إن حرماننا من كل أو جزء من وسائل الكشف بعيدة المدى وكذلك أنظمة أسلحتنا (تشويش الطائرات والسفن والأنظمة الأرضية/الجوية ورادارات المراقبة، إلخ) لن يجعلنا عمياناً فحسب، بل بلا حول ولا قوة. يعني فقدان قدرات الاكتشاف يؤدي الى فقدان القدرة على التنبيه؛ وبالتالي، الاضطرار إلى الخضوع لمفاجأة استراتيجية أو تكتيكية دون القدرة على الرد لأن عدداً من أنظمة الأسلحة سيتم تحييدها أيضاً.
انعكاس خسارة سباق الفضاء على الولايات المتحدة والصين
بالنسبة للولايات المتحدة، فإن خسارة سباق الفضاء بينها وبين الصين تعني خسارتها موقعها بوصفها قوة عظمى في العالم؛ إذ بسيطرتها على الفضاء، ستتمكن الصين من تحييد القوة الجيو – سياسية للولايات المتحدة، وستستطيع التحكم بالبيانات والمعلومات في جميع أنحاء العالم.
في تقرير لها تحت عنوان “الولايات المتحدة تخسر سباق الفضاء الثاني ضد الصين”، تقدم مجلة “فورين بوليسي” تصوراً لما يمكن أن يحدث بخسارة الولايات المتحدة سباق الفضاء على الشكل التالي: “تخيل معنا إذا وضع مزارع في كينيا أو طالب في بوليفيا في موضع الاختيار بين دفع تكلفة خدمات الإنترنت من قمر صناعي تابع إلى الولايات المتحدة وحلفائها، أو استخدام تلك الخدمات مجاناً هدية من الشعب الصيني؟ حينها، لن يهتم أولئك المستخدمون كثيراً إذا كانت الأخبار التي يتلقونها عبر تلك الخدمة مزيفة أو بعيدة عن الواقع الفعلي، ولن يهتموا أيضاً، إذا لم تأتهم أخبار عن أقلية الإيغور أو التبت الذين تضعهم الصين في معسكرات الاعتقال.”
أما بالنسبة للصين، فيعني ذلك وأد مشروعها الطموح بوصفها قوة عظمى بالكلية؛ إذ لن تسمح الولايات المتحدة وحلفاؤها بعد ذلك للصين بأن تخطو أية خطوة خارج الإطار المحدد لها، وستتشكل تحالفات جديدة في العالم لذلك الغرض بالذات، كما هو حادث الآن في تحالف أوكوس – AUKUS، بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
كل ذلك يضعنا في موضع شك بالغ تجاه سباق الفضاء بين الولايات المتحدة والصين، ويجعلنا ننظر إليه وأيدينا على قلوبنا خوفاً من تطورات متسارعة قد تجلب ما لا تحمد عقباه إلى عالمنا.
في الخلاصة
تتيح مراقبة الطيف توقع مخاطر معينة مثل الطائرات بدون طيار (اكتشاف روابط البيانات) والطائرات (اكتشاف الرادارات أو الاتصالات) وقوات العدو (الارتباط اللاسلكي) وما إلى ذلك. يوفر هذا أيضاً إمكانية الاستجابة السريعة لاكتشاف التشويش للحد من تأثيره (تغيير وضع التشغيل)، والتشويش أيضاً هو مرادف لوجود عدو اكتشفك بطريقة أو بأخرى. بعد كل شيء، تستخدم الجيوش لمراقبة بيئتها في المجالات المرئية والأشعة تحت الحمراء والصوتية، وغالباً أيضاً باستخدام الرادارات؛ فلماذا نتخلى عن الاستماع إلى ترددات الراديو؟
من غير المرجح أن تعاني كل هذه التأثيرات في وقت واحد على جميع قوى مسرح العمليات، وهذا يتطلب من الخصم أن يكون لديه وسائل حرب إلكترونية كبيرة للغاية. ولكن يمكن أن يحدث هذا بشكل جيد في المواعيد المحددة في مناطق جغرافية معينة، مما يسمح للعدو بالاستفادة من المكان الذي يقرره من خلال شل القوى المعارضة له. بطبيعة الحال، لا يمكن أن يكون لتكتيك الحرب الإلكترونية الهجومية تأثير كبير إلا على حساب استخدام وسائل تكنولوجية كبيرة. القوات المتمردة المجهزة فقط بالتسلح الفردي الخفيف ستتأثر قليلاً جداً لأنها تستخدم أيضاً القليل جداً من الطيف الكهرو – مغناطيسي.
كما يمكن أن يكون للحرب الإلكترونية تأثير كبير على سير العمليات العسكرية، حيث تعتمد جميع أنظمة ومعدات الجيوش الحديثة، بطريقة أو بأخرى، على الترددات الراديوية ويمكن لجميعهم أن يروا أن عملهم قد تدهور إلى حد ما بمجرد حرمانهم منه، إلى درجة محايدة تماماً.
صحيح أن الحرب الإلكترونية وحدها لا يمكنها أن تربح صراعاً أو معركة، ولكن اليوم – وبعد الصعود إلى الفضاء و”عسكرته” سواء عن طريق الطيف الكهرو – مغناطيسي أو المحطات الفضائية في مواجهة خصم متقدم تقنياً – إن خسارة المواجهة يضمن حتماً الهزيمة في جميع المجالات.
نشرت في العدد الأخير من مجلة الأمن الداخلي – لبنان
مصدر الصور: CGTN – جامعة كاليفورنيا.
موضوع ذا صلة: الحرب السيبرانية تندلع.. وكالات حكومية أميركية تسقط بالجملة!
العميد م . ناجي ملاعب
باحث في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري / عضو الهيئة العلمية لمجلة الدراسات الأمنية – لبنان.