السفير د. عبدالله الأشعل*

اقترح الرئيس الفلسطيني، محمود عباس – أبو مازن، أمام مجلس الأمن وأمام مجلس جامعة الدول العربية، على المستوى الوزارى في أوائل فبراير/شباط 2020، التمسك بـ “مبادرة السلام العربية” لتكون رداً عربياً على “صفقة القرن”، من ناحية أولى، ورفضا لهذه الصفقة، من ناحية ثانية، وإتقاء “غضب” الولايات المتحدة، من ناحية ثالثة، وهي التي وضعت ثقلها وراء الصفقة، خاصة وأن الرئيس أبا مازن كان قد رفضها رفضاً قاطعاً، جملة وتفصيلاً، حتى مجرد النظر فيها.

وبناء على إقتراح عدد من الوزراء، أصدر مجلس الجامعة العربية بالفعل قراراً جماعياً برفض الصفقة وتأييد ما طلبه الرئيس أبو مازن الذي ذهب محصناً بالموقف العربي إلى مجلس الأمن، وأن كنت أتفهم لماذا تراجع كثيراً عن خطابه في الجامعة العربية لأن ذلك يعد من قبيل الذكاء السياسي والدبلوماسي رغم اعتراض الكثيرين على هذا التراجع.

أيضاً، عبر بعض الدبلوماسيين المخضرمين عن نفس الموقف، مما يتطلب تحليل هذا الإقتراح ومدى صلاحيته ليكون بديلاً دبلوماسياً أو حقيقياً من العرب عن الصفقة، وبذات الوقت موقفاً رافضاً لها بشكل غير مباشر تفادياً لحساسية واشنطن وتجنباً لإغضابها، خاصة وأنه منذ الإعلان عن الصفقة، في 28 يناير/كانون الثاني 2020، إزدادت المواقف الرسمية العربية تراخياً فيما إزداد الموقف الشعبي العربي والفلسطيني إدراكاً لخطورة الصفقة، وإزدادت إسرائيل أيضاً اطمئناناً لتنفيذها بل تبدو تصريحات رئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، وكأنه مندهش من المواقف الرسمية المُقبلة على العلاقات مع إسرائيل ومنها لقاؤه مع رئيس مجلس السيادي في السودان، عبد الفتاح البرهان، في كمبالا علماً بأن معظم تصريحاتهم كانت خلطاً للأوراق وبذراً للشكوك في الكثير من الحقائق ولا يصدقها إلا من كان في قلبه مرض.

بإعتقادي، إن إقتراح التمسك بـ “المبادرة العربية للسلام” هو هروب من مواجهة الصفقة، ولذلك نحلل ضعف هذا الإقتراح وعدم جديته في ضوء الحقائق المحيطة بالمبادرة والصفقة، وأبرز النقاط تتمحور في:

أولاً، تفكك الموقف العربى منذ “كامب ديفيد” حيث استمر الصراع المصري – العربي ظاهرياً، على الأقل، لتطويع موقف الأخير كي يتماشى مع إسرائيل. عشر سنوات ولم تتردد مصر في موقفها مما أسمته “السلام الشامل”، حيث بدأ التفكك سريعاً بعد العام 1979، والذي شهد قيام الثورة الإيرانية التي صارت حدثاً مركزياً في تحالفات المنطقة لأنها بدأت بعداء واشنطن فكان لا بد من حلفاء الأخيرة من مساندتها في التصدي. في هذا الشأن، زعم نتنياهو بأن إسرائيل هي التى زرعت الإمام الخميني، ودليل فساد هذا الزعم أن واشنطن خسرت “إيران الشاه”، وخسرت معه كل ركائز استراتيجيتها في مواجهة موسكو ضمن “الحرب الباردة”، وهناك دليل إضافي وهو أن واشنطن لا تزال تسعى لإعادة إيران إلى نظام ما قبل الثورة حيث لقيت من الإهانة على يد إيران ما لم تلقاه في أى مكان.

بالعودة إلى الموضوع، لقد عكست المبادرات العربية تراجع الموقف العربي وتقهقره أمام إسرائيل بعد تعاظم تأثير واشنطن على العواصم العربية لصالح إسرائيل ما أدى إلى انشطار الموقف الفلسطيني مع استمرار تراجع الإحتضان العربي للقضية الفلسطينية. بدأت نذر هذه المرحلة منذ الثمانينات عندما تورط الرئيس الراحل صدام حسين في حرب طويلة ضد إيران لا تخدم العراق ولا المنطقة العربية، إذ كان هدفها استنزاف الدولتين معاً رغم عدائهما المشترك لإسرائيل وتعاطفهما مع الفلسطينيين.

ثانياً، إن ظروف المبادرة العربية والهدف من طرحها تحتاج إلى مراجعة أمينة. ففي مارس/آذار 2002 أي موعد عقد القمة في بيروت، كا الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، قد وصل إلى قمة الأزمة مع إسرائيل إذ لم يستطع أحد أن ينقذه منها. فإنعقدت القمة وهو محاصر ببيته، في قوت قررت فيه إسرائيل نهائياً التخلص منه لأنها تدرك أنه قد صار وحيداً تماماً؛ هو في جان والعرب في الجان الآخر.

أيضاً، كانت واشنطن تعد العدة، منذ ما قبل 2001، لغزو العراق ولكن بمساعدة إيران هذه المرة. أما العام 2002، فقد شهد “إنتصار” رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل، آرييل شارون، النهائي على المقاومة الفلسطينية بجنين حيث أوقف تماماً العمليات الإستشهادية، التي كانت تعادل عند العرب “القنبلة النووية” الإسرائيلية، وبدأت فكرة الجدار الأمني، كما تهيأت واشنطن كي يعلن الكونغرس القدس عاصمة أبدية ودائمة لإسرائيل إذ لم يعترض أحد وظل هذا الموقف بيد الرئيس الأمريكي إلى أن نفذه دونالد ترامب، العام 2019.

في العام 2002 ايضاً، كان الرئيس صدام حسين محاصراً منذ الجلاء أو الاجلاء عن الكويت. بالتالي، تلقت إسرائيل المبادرة العربية على أن لا ضمانات أو أوراق قوة لها، بل أن إسرائيل حاولت الإستفادة من نصوصها فعمدت إلى الإتصال بالسعودية كي للحوار معها بإعتبارها من تقدم بمشروع المبادرة حتى تفتح هذا الباب لها على منطقة الخليج، مقترحة على الرياض أن تنفذ خلال المباحثات معها، وهي تقصد تطبيع العلاقات أي الجزء الخاص بـ “الجوائز” الاسرائيلية من المبادرة.

للعلم، تتلخص المبادرة في قسمين؛ القسم الأول، إلتزام إسرائيل بالإنسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة وفقا لقرارات الأمم المتحدة. والقسم الثاني، تقبل حل الدولتين وأن تكون القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية الجديدة وذلك مقابل الإعتراف العربي الجماعي بها وتبادل العلاقات الدبلوماسية معها وفتح باب التطبيع لمن أراد. هنا، قررت إسرائيل الحصول على الإعتراف قبل الإنسحاب أو حتى إعترافها بحقوق الشعب الفلسطيني، حيث فوجئ العرب بأنها تحصل على ما تريد دون أن تعلن أنها مستعدة للمقابل إلى أن جاءت “صفقة القرن”.

من المؤكد أن الدول العربية تدرك مسار العلاقات مع إسرائيل، وتدرك أيضاً أن فكرة حل الدولتين هي “قنبلة دخان” للتغطية على مشروع إسرائيل على كامل فلسطين، وأنها عازمة على ذلك ولديها أدوات التنفيذ، خاصة الدعم الأمريكي لا سيما دعم الرئيس ترامب الذي فاق، وفق تقدير نتنياهو، كل الرؤساء الأمريكيين السابقين الذين أسهموا بدرجات متفاوتة في دعم المشروع الصهيوني؛ لكن الرئيس ترامب، جعل هذا المشروع هو الأساس متحدياً كل المرجعيات السياسية والقانونية السابقة، وكذلك الموقف الأمريكي في عناصر الصراع والذي كان منسجماً مع قرارات الأمم المتحدة.

من هنا، بنيت المبادرة أساساً على قواعد واهية أبسطها تراجع القوة العربية، ونفاد أوراق ضغطها، ودخول المنطقة في مرحلة جديدة من الضعف والهوان مقابل ارتفاع نجم إسرائيل. والسؤال هنا: ما الجديد في المبادرة أو في ظروف العرب هذه المرحلة حتى يتمسكون بالمبادرة كبديل للصفقة؟ وهل هو بديل كامل أم أنه يمكن الجمع بين الصفقة والمبادرة؟

لقد أشار الأستاذ جميل مطر، في مقاله حول غموض الموقف، إلى أن بعض الشخصيات العربية تطرح هذا البديل حتى يكون لها مكان ضمن الخريطة السياسية الإقليمية، بينما هي تعلم الحقيقة.

ثالثاً، إذا كان التمسك بالمبادرة من الجانب العربي هو سد للفراغ العربي أو قبول بالصفقة بطريقة غير مباشرة، فإن اللعبة باتت مكشوفة. أما إذا كان التمسك بها على سبيل أنها موجودة ولا تزال تعبر عن الموقف العربي، إن هذا الموقف يحتاج إلى عزيمة وارادة عربيتين تسندا المبادرة وإلا ستخترق إسرائيل هذا الموقف من خلالها.

رابعاً وأخيراً، أعتقد أن هذه المبادرة تتناقض فكرتها مع التردي العربي في بيروت، الذي تصادف مع حصار الرئيس عرفات وعدم القدرة على انقاذه، فكانت المبادرة على سبيل “اللغو” وإبراء الذمة فكيف يمكن جدياً التمسك بمبادرة ولدت ميتة بل أكاد أقول أنها إستخدمت من قبل إسرائيل التي حولتها عن مقصدها بعدما تأكدت من الشقاق الفلسطيني والعربي وانعكاسهما على الصف الفلسطيني الذى كان بدأ بصفقة السلام الإسرائيلية – المصرية ثم تكرس بتطورات المنطقة العربية التى ضربت قوتها بالصميم؟. فإذا كانت المبادرة العربية قد أصبحت محطة من محطات المشروع الصهيوني، مثل أوسلو، وأنها أوصلت إلى “صفقة القرن”، فكيف يمكن التمسك بها دون ارادة عربية حقيقية؟

أغلب الظن أن الذين طرحوا المبادرة، مرة أخرى، تحدوهم نية طيبة ورغبة في انقاذ ماء الوجه العربي الذي لم يترك الرئيس ترامب له فرصة لكي يداري سوءته.

*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.

مصدر الصور: موقع البوابة – إنديبندنت.

موضوع ذا صلة: لماذا أرفض “صفقة القرن”؟