الديمقراطية التوافقية نظام حكم لصيق بالمجتمعات المتصدّعة، وهي تصوّر يرى في التوافق السياسي الآلية الأكثر انسجاماً مع الطبيعة السياسية للكائن البشري، فالتوافقية آلية حكم تقوم على أساس المشاركة في السلطة power-sharing بين مكونات المنتظم السياسي تحقيقاً للاستقرار. ويعد أرسطو من أوائل المنظرين في هذا المجال، فالتعايش السياسي بين الديمقراطية (الفقراء) والأرستقراطية (الأغنياء) يشكل جوهر تصوره النموذجي لمنتظمه السياسي. أما حديثاً، فإن الديمقراطية التوافقية تتخذ شكل النظام المجلسي، والنظام المجلسي انحراف عن كل من النظام البرلماني والنظام الرئاسي، ويتخذ هذا الانحراف أشكالاً مختلفة.

فالديمقراطية التوافقية انتهاك لعقيدة الفصل بين السلطات، ولا سيما عندما تنبثق الحكومة عن الأكثرية البرلمانية، فتتحد فيما بينها كل من السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. ولقد بلغت هذه الحالة الانحرافية ذروتها في ظل الثورة الفرنسية الأولى بتأثير من أحد أبرز شخصياتها Maximilien de Robespierre المتأثر بأفكار Jean-Jacques Rousseau المؤيدة للديموقراطية المباشرة والمستهجنة للأجسام الوسيطة، كما يلاحظ حصول هذا التجاوز في العديد من المنتظمات الديموقراطية المعاصرة عند طغيان الحزب الأكثري على الحكم عقوداً طويلة من الزمن، ناهيك عن المنتظمات السياسية الاستبدادية على اختلافها.

والديمقراطية التوافقية انتهاك مهّدت له تجارب معاصرة أبرزها التجربة الفرنسية، حيث ساد النظام السياسي في هذا البلد خلال ثمانينات القرن العشرين مفهوم المساكنة cohabitation الذي يقوم على أساس تقاسم السلطة السياسية بين أحزاب سياسية متنافسة. ولقد تعززت هذه النزعة بفعل تكاثر القوى السياسية الفاعلة، إذ لم يعد ممكناً لأية جهة حزبية الحصول على الأكثرية البرلمانية وتشكيل الحكومات بمفردها، مما جعل الائتلاف السمة الطاغية في العديد من المنتظمات السياسية الديمقراطية شرقاً وغرباً.

ويُعد Arend Lijphart أبرز روّاد الصيغة التوافقية التي تتطلّب في رأيه بنية تحتيّة تُشعر الجماعات بالرضا، وقوام هذه الآليات الآتي:

1- البرلمانية والتوافقيّة الحكوميّة، فالبرلمانيّة تسمح للهيئة الناخبة بأن تكون ممثلة أفضل تمثيل ممكن، أما التوافقية فتضطلع بدور الكابح للتناقضات السياسية على أنواعها.
2- النسبية الانتخابية: وتتيح فرصة التمثيل للشرائح المجتمعية كل بحسب حجمه التمثيلي، فتمتص التوتر الناجم عن الاحتقان السياسي الذي يسببه النظام الأكثري.
3- التعددية الحزبية: وهي نقيض لظاهرة الاحتكار، ومصدر للتفاعل السياسي البنّاء، وشرط من شروط التقدم والاستقرار.
4- الفدرالية: وهي شكل من أشكال اللامركزية الموسعة، وتمتاز عنها بكونها تشمل الأوجه السياسية والتشريعية الى جانب الوجه الإداري-الإنمائي، وهي توفّر للكيانات المحلّية فرصة إدارة شؤونها بنفسها.
5- الثقافة السياسيّة المهنية التي تمنح جماعات الضغط المهنية اهتماما خاصا، وتسهم في دمجها في المجتمع السياسي، وفي طليعة هذه الكيانات رأس المال والهيئات النقابية.
6- نظام سياسي يعتمد الثنائية المجلسية (نظام الغرفتين) ويسهم في توفير أوسع مروحة ممكنة من التمثيل السياسي والثقافي، وهي صيغة معتمدة في العديد من الدول أبرزها الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا.
7- اضطلاع السلطة القضائية في ظل الديمقراطية التوافقية بدور ريادي في عملية تفسير الدستور وتوزيع السلطات وفض النزاعات على الصلاحيات.
8- مصرف مركزي يتمتع بالاستقلالية المالية والمعنوية، ويسهم من خلالها في إبعاد السياسات النقدية عن المؤثرات السياسية.

تتوافق آليّات الحكم التوافقية المقترحة من قبل Lijphart مع منظومة قيم الدولة الحديثة كونها عقلانية وديمقراطية وحقوقية لكن هذا التوافق لا يجعلها بمنأى عن النقد، فالديمقراطية التوافقية وظيفية ساكنة في جوهرها إذ إن اضطلاعها بالدور الحامي لمصالح ثلاثية السلطة العامة ورأس المال والهيئات النقابية يجعلها من هذا المنظور تتناقض تناقضا صارخا مع قانون الحركة اللصيق بالظاهرة السياسية.

وفي المقابل، فإن المجتمعات الإسكندنافية -فضاء Lijphart التنظيري والتجريبي- استطاعت أن تحقق أعلى مستويات الرفاهية، ناهيك عن أنها استطاعت أن تحقق تحولا استراتيجيا خلاّقا يتمثل بالانتقال بهذه المجتمعات من الطور الرأسمالي الديمقراطي الى الطور الاجتماعي الديموقراطي، من دون أن يترتب على هذا التحول أي آثار جانبية تذكر، أما مفتاح نجاحها في هذه التجربة السياسية النموذجية فتتمثل بثنائية الثقافة السياسية المدنية والثقافة الاجتماعية التعاونية!

وإذا كانت الديمقراطية التوافقية تشكل انحرافاً عن عقيدة الفصل ما بين السلطات، وعن كل من النظام البرلماني والنظام الرئاسي، فإنه يجوز اعتبار لبنان في مرحلة ما-بعد-الطائف، انحرافا عن النظرية الديمقراطية التوافقية نفسها، فالتوافقية اللبنانية، إضافة الى كونها عبارة عن تسويات فوقية أنتي-ديمقراطية تبرمها النخب الحاكمة فيما بينها.

ولقد أنتجت هذه الممارسات السياسية “التوافقية” سيولة شديدة الأذى على الحدود الفاصلة ما بين السلطات الدستورية، فتآكل مبدأ استقلالية السلطة القضائية، وتآكلت بموازاته مفاهيم الأكثرية السياسية الحاكمة والأقلية السياسية المعارضة لصالح “نظام” تقاسم المغانم صنيعة الأليغرشية الحاكمة!

لقد مكّن “نظام” تقاسم المغانم الأليغرشية الحاكمة من كبح التناقضات السائدة بين عناصرها بتمكينها من الاستيلاء على المؤسسات العامة الإنتاجية والإدارية وذلك من خلال التوظيفات الموازية، ومن خلال السيطرة على هيئاتها الناظمة، ومجالس إدارتها، وأجهزتها الرقابية، وهياكلها المحليّة، فاستحالت مجالا سياسيا حيويا، ومرتعا لصرف النفوذ، ومجرّد مرآة للتوازنات السياسية والمنافع السياسية.

كما أسهم التداخل القائم بين الأليغارشية الحاكمة وحاكمية المصرف المركزي والقطاع المصرفي في تعطيل مبدأ استقلالية السلطة النقدية عن السلطة السياسية، وفي تعطيل مبدأ استقلالية السلطة السياسية عن القوى المالية والاقتصادية، وفي حرف سياسات الدولة العامة عن مسارها الموضوعي، فتعطلت المساءلة والمحاسبة، واستحالت السياسات العامة مجرّد وسيلة إنعاش سياسية لهذه الأليغرشية لا وسيلة لتحقيق الخير العام.

وإذا كانت ثلاثية السلطة العامة ورأس المال والهيئات النقابية تشكّل مرتكزات المنتظم السياسي النموذجي المقترح من قبل Lijphart، فإنّ هذه الكيانات تفقد بريقها في الحالة اللبنانية لتحلّ محلها ثنائية الطائفة والعشيرة التي تستظل بأحزاب (تنظيمات) سياسية حديثة جدا من حيث الشكل ومتخلفة جدا من حيث الجوهر، تنظيمات سياسية يشد عضدها في الوقت عينه قوانين انتخابية مفصلة على قياس مصالحها.

لقد مكّن النظام السياسي السائد بأبعاده القانونية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، العشائر النافذة في البلاد من كل الطوائف، من احتكار القرار في هذه الطوائف، احتكار انتج نظاما سياسيا هرميا أنتج بدوره هوّة سحيقة بين الأليغارشية الحاكمة لهذا النظام والفئات المهمّشة من قبل هذا النظام، هوّة أسهمت في تنامي السخط الشعبي على هذا النظام، وسخط استحال في 17 تشرين 2019 ثورة شعبية عارمة، ثورة مدنية واعية تقوم مقام نظام منتهي الصلاحية، فتراقب وتحاسب، حتى تحقيق التغيير في إقامة الحكم المدني، ودولة الحق والقانون، الدولة العلمانية الديمقراطية الاجتماعية المنشودة!

مصدر الصور: أرشيف سيتا + مركز الدوحة للسياسات.

موضوع ذا صلة: ثورة “17 تشرين 2019”: وسيط وطني للجمهورية لا وسيط محلّي لدوائر القرار الأجنبية

البروفيسور وليد الأيوبي

أستاذ العلوم السياسية بالجامعة اللبنانية / الأمين العام المؤسس لحركة “ثورة بلا حدود” – لبنان