المواطن العربي لديه كل الحق من الشعور بالتوجس والخوف من المستقبل، لأن الماضي القريب عانى منه كثيراً، ولم يشكل الحاضر حالاً أفضل، فكيف لمستقبل لا يعرف ما ينتظره، وجلّ اهتمامه كيفية تأمين قوت يومه. فعن أي مستقبل يبحث، ومخاطر الصراع تتصاعد، رغم كل ذلك لا يزال العالم العربي في موقع الدفاع وولّى زمن الهجوم.
لا يزال العالم العربي عُرضة للتهديدات الخارجية وأطماعها التي لا تنتهي، مهدد حتى في وجوده واستمراريته، خاصة وأن الشعوب شبه اقتنعت بأن حكوماتها لا تدير الأزمات بقدر ما تريد من هذه الشعوب التعايش والتكيف معها، لإبقاء مصالحها مستمرة. من هنا، فالأزمات العربية، وإن بدت منفصلة جغرافياً ومُتباينة من حيث طبيعتها وظروفها وهوية الأطراف الفاعلة فيها، ينتظمها خيطٌ جامع، وتوحدها عناصر مشتركة. فالأغلبية الكاسحة من هذه الأزمات هي نتاجٌ مباشر لظاهرة الفراغ الاستراتيجي التي نشأت عن أحداث 2011 – “الربيع العربي” وما تلاها، حيث أفرزت – من بين ما أفرزت – عدداً من الصراعات الخطيرة التي كان من شأنها إضعاف وإسقاط حكومات وكياناتٍ سياسية ومنظومات أمنية كانت تتحكم بأعداد هائلة من السكان وتُسيطر على مساحات من الأراضي.
كان من محصلة ذلك أن بزغ فراغ خطير، من الناحية الأمنية والسياسية، في قلبِ العالم العربي وأطرافه. وهذا الفراغ هو محور الصراعات الجارية حالياً في المنطقة، لكن لن نعدد هنا الأزمات التي عانى منها عالمنا، لكن سننتقل مباشرةً إلى الأزمة الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا.
الأزمة الروسية – الأوكرانية، قد تكون بعيدة عنا جغرافياً، لكن التأثيرات الاقتصادية وحتى السياسية ألقت بظلالها بشكل مباشر على عالمنا اليوم، وأبرزها ارتفاع الأسعار الكبير الذي لا يتناسب ودخل المواطن العربي ليعتقد المتابع أن كل ما نملك هو مستورد من البلاد التي تتحارب فيما بينها. لكن المفارقة العجيبة، أن العرب جميعاً، عندما يتم الاختيار، دائماً ما يكون الإنسان الأوروبي هو الرقم واحد، قوته وتأمين معيشته هو الأهم بالنسبة لهذا الغرب الذي يتبجح بحقوق الإنسان عند إراقة دم أي إنسان عربي، ليس حباً به بقدر ما هو ورقة ضغط يساوم بها نظامه أو حكومته، لاختراق هذا البلد أو ذاك.
فالحالة الشرعية لروسيا في إقدامها على تلك الحرب، كان بسبب مقتل أكثر من 14 ألف مواطن من الناطقين باللغة الروسية في منطقة دونباس التي تقول أوكرانيا إنها تابعة لها، وفيها انفصاليين، وهي تقوم بقصفهم منذ العام 2014، لكن لكونهم أقرب موالاة إلى موسكو من كييف، لم نرَ أو نسمع إدانة واحدة من المجتمع الغربي الذي يتباكى اليوم على أوكرانيا؛ بالتالي، في حسبة بسيطة فقط، وفي عهد أربع رؤساء أمريكيين تم خوض 10 حروب وكانت نتيجتها 6 ملايين قتيل، والنتية صفر عقوبات تجرّم الولايات المتحدة. الآن، يتوضح كل شيء. إنه حكم الأقوى، واليد الطلى في هذه الأرض للولايات المتحدة، من الناحية التحكمية الأحادية القطبية.
إقرأ أيضاً: أثر الأزمة الأوكرانية على العرب والأفارقة والشرق الأوسط
بالعودة إلى أزمات العالم العربي، هي أقرب لأن تعبّر عن مشكلات عميقة في علاقة السلطة مع جميع فئات المجتمع، والمسؤولية ليست محصورة في السلطة بل إن جميع قوى المجتمع تتحمل المسؤولية؛ فالشعب عندما يقْبل بأن يكون خانعاً، ستتمادى السلطة في حرمانه من أبسط حقوقه، وهذا مردّه إلى حالة الضعف النظري والفكري المتلازم مع حال التراجع في الواقع السياسي للنظام العربي، والعلاج معروف هو بناء ثقافة سياسية وأكاديمية مقاومة لهذا الواقع المؤسف الذي نعيشه نتيجة إخفاق الدولة الوطنية، إذ أنه ليس هناك اليوم دولة تمارس دورها السياسي بقدر ما تمارس دورها الأمني على الواقع الاجتماعي، ولا تقوم بدور الدولة الحقيقي، فلا دولة في لبنان أو العراق أو اليمن أو بقية الدول العربية.
هناك اليوم فئات كثيرة ترفض الدولة الإسلامية وتنحاز بشكل فج ووقح نحو العلمانية، في حين أن الأساس المتين كان في القوة الإسلامية التي نعرف؛ بالتالي، هزلت فكرة المواطنة بالدول الوطنية، والشعوب أقرب منها إلى عبيد تمتثل لأوامر الحاكم أو السلطان، تنفذ ولا تعترض، رغم أن تشكيل معظم الدول العربية جاء كتتويج لحركات التحرير ضد الاستعمار، فلدينا اليوم دولة غنية مثل السودان، لكن نجدها اليوم غير قادرة على أداء وظيفتها وسط مطالبات بإخراج الجيش من المشهد السياسي، فلا اقتصاد ولا حكومة ولا دولة قائمة تعيد بناء هذا البلد، وهذا أبسط مثال من مئات الأمثلة التي تحيط بنا.
اليوم وضمن الحركات الإسلامية الحديثة، نجد التقديس لزعيم هذه الحركة، واعتباره كبير القوم وعليته. هذا التمجيد نجده ممنهجاً ومدروساً من قبل الزعماء، ونجد الخطاب الشعبوي لهؤلاء الزعماء يشدد على استخدام نبرة صوت مرتفعة وإشارات بالأيدي، وحالة شعبية تقدس هذا الخطاب، مع أنهم لو تأملوه قليلاً لوجدوه بأنه مكرر ولا جديد فيه، يستذكر أمجاد الماضي، دون علاج حقيقي لأزمات الحاضر.
هذا الأمر شكّل فئات شعبوية صنعت لنفسها وطناً داخل الوطن الأم، وهذا بدوره لا يبني الأوطان بقدر ما هو عامل هدّام لها، فإن كانت الدولة وطنية هذا يعني لا كلمة إلا لمؤسسات هذا البلد؛ وفي غياب دورها الحقيقي، لا قانون يسري إلا على المتستضعف والفقير، وهذا هو حال بلادنا اليوم. التقديس والانقياد الأعمى. وهذا الأمر لا خجل فيه ولا رياء لو كان يخرج بنتائج تنعكس على دورة حياة الشعوب، لكن الأزمات الخانقة باتت في ازدياد إذ لا حلول حقيقية ولا رؤى فاعلة، إلا عبارات كـ “سنفعل، وسنعمل وسندحر”،…إلخ.
إقرأ أيضاً: الحرب الروسية – الأوكرانية.. درس لتحالفات العرب
لقد وصل العالم العربي إلى هذه المرحلة المتأخرة من الاستعصاء الخطير المتمثل في تحوّل كثير من الحلول إلى أزمات بحد ذاتها، نتيجة لأكثر من سبب، حيث ليس ثمة وعي حقيقي اليوم كما كنا نراه في بدايات القرن العشرين عندما كان الشباب ثائراً فعلاً وعارضاً لأجل قضية تستحق الثورة. فالحلول التي تطرحها الحكومات – حالياً – هي حلول جزئية – ظرفية لا تعالج المشاكل الحقيقية في الأزمات ذات الطابع العربي المشترك الواضح، وهي كثيرة.
فالحلول لا تصدر عن رؤى مشتركة حقيقية، حتى وإن قالت الشعارات والتصريحات والبيانات أنها صادرة عن رؤى مشتركة جرى التوافق فيها بين الجميع. وهنا، في حال تشظي الرؤية، وربما تناقضها، يتعذّر الحل، كما في حالة القضية الفلسطينية وتباين الموقف العربي منها خاصة مع جنوح دول لها وزنها باتجاه التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهذا يعني غياب الاستراتيجية الحقيقية. فعالمنا العربي اليوم يحتاج إلى حالة إنقاذ واسعة المدى وطويلة الأجل في كل حقول التنمية وبكل مستوياتها، لا سيما على نحو متزامن ومتكامل، بعيداً عن المعارك الوهمية مع طواحين الهواء، فربما هذا هو سبب تفوّق الغرب علينا. فعند مصائبهم يتحدون معاً، وهذا ما رأيناه من موقف الغرب الشديد من روسيا مؤخراً.
من هنا، إن غياب الوعي المتمثل بالحالة الشعبية، خلق فراغاً كبيراً بين السلطة والشعب؛ وعلى الرغم من أن القانون قد رسم كل شيء، لكن بوجود متحايلين عليه، برز الشرخ وامتد ليطال قاعدة شعبية واسعة من هذا العالم وبالأخص العالم العربي. فالحكام جل همهم المصالح والمكاسب، لكن ماذا عن الشعوب؟ هل حمل مسؤولية الشعب قليلة حتى يتم التهاون بها هكذا؟
بالنسبة لي، لا أميل إلى الغرب كوني عربي “حتى النخاع”، لكن أتمنى أن يكون الإنسان العربي غير مهمّش، ويتمتع بكافة حقوقه التي أجازها الله تبارك وتعالى له أولاً، ومن ثم كفلها القانون؛ فالثورة الحقيقية ليست لإسقاط الأنظمة في ضوء غياب بديل حقيقي، إنما هي التسلّح بالوعي والفكر والثقافة، وهذا لا يتحقق إلا إذا انتفض الشعب لتحقيق هذه الغاية، ونأمل أن يكون هذا قريباً.
مصدر الصور: وكالة الصحافة الفرنسية – سبوتنيك.
كاتب ومفكر – الكويت