مقدمة
بنهاية الحرب العالمية الثانية، اندفع المعسكران العالميان – الرأسمالي والاشتراكي – في سباق تسلح نووي محموم، جدير بتدمير الأرض مرات عديدة، لقد وُلد العالم الجديد. التفوق العسكري الأمريكي صاحبه تفوق دبلوماسي واقتصادي، فغنائم ما بعد الحرب صبّت جميعاً في مصلحة أمريكا، فتأسست الأمم المتحدة وجُعِل مقرها في نيويورك، وأصبح الدولار – المرتبط بالذهب – عملة عالمية قياسية بفضل اتفاقية “بريتون وودز”، وتأسس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للانشاء والتعمير، ومقرهما في واشنطن.
وُلِدَ النظام الدولي الحالي، إثر انهيار الإمبراطورية البريطانية، وقيام “الإمبراطورية” الأمريكية. لقد بلغت بريطانيا في أوج قوتها مرتبة “أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ”، واحتلت طوال قرن لقب “القوة العالمية الأولى”، ومع أنها خرجت منتصرة في الحرب فإنها كانت قد هَرمَت، فجاءت الحربان العالمية الأولى والثانية لكي تُطيحا بها، وما لبثت أن تخلت عن مستعمراتها التي “لم تغب عنها الشمس”.
وفيما كانت أوروبا تغرق في أزمة اقتصادية خانقة، تدخلت الولايات المتحدة – عبر “مشروع مارشال” – لإعادة بناء أوروبا الغربية. لم تكن الأموال التي أنفقتها واشنطن في أوروبا محض عمل خيري، بل كانت ضرورية لوفاء أوروبا بسداد ديونها لها؛ ومنذ ذلك الوقت، صارت الولايات المتحدة صاحبة اليد العليا، وتخلّت أوروبا عن “كبريائها التاريخي”، وقبلت أن تسير خلف القيادة الأمريكية.
في عصر هيمنة القوة الواحدة، عصر العولمة والتكنولوجيا، اليوم، ما هو المنتظر للمستقبل القريب والبعيد، بعد انتشار جائحة “كورونا”، وبعد قيام عالم متعدد الأقطاب، هل صمدت التكتلات القومية من خارج النفوذ الأميركي؟ وهل من نظام عالمي جديد يواكب التقدم التكنولوجي الواعد؟
في مقدمة هذه الدراسة سنعرض إلى بناء القوة الأميركية الأحادية بعد الحرب الباردة، وصولاً إلى عصر العولمة، من ثم نلفت إلى نظرة دوائر القرار في واشنطن للعالم للعقود الثلاث المقبلة. ونبحث في دور تسليح الفضاء كحلبة صراع جديدة ما بين الصين وأميركا، ونناقش الظروف التي واكبت انتشار وباء “كورونا” ومدى تأثيره على النظام العالمي، وهل صحيح أن كل السياسات والإيديولوجيات والفلسفات سوف تتنحى جانباً أمام الثورة الرابعة بتقنيات الذكاء الإصطناعي، وتسري بنا إلى نظام عالمي آخر.
أولاً: النظام العالمي المعولم أمريكيٌّ بامتياز
كانت أمريكا قُبَيل دخولها الاضطراري في الحرب العالمية الثانية تُفضّل العزلة الدولية، مستندة إلى عقلية الجزيرة الحصينة البعيدة عن مواطن النزاع في أوروبا، ولم يزد تعداد جيشها قبل الحرب على 174 ألفاً، ليحتل بذلك المرتبة الـ 14 على مستوى العالم.
إن الذي ساعد الولايات المتحدة على تحقيق قفزات استراتيجية سريعة هو الطبيعة الديناميكية المنفتحة للمجتمع الأمريكي، فهو مجتمع مهاجرين، شديد التنوع، يحتفي بالنجاح والابتكار؛ ففي سنوات الحرب الخمس، قفز تعداد الجيش الأمريكي إلى 11 مليون مقاتل، مجهزين بأضخم آلة عسكرية عرفتها البشرية، وخاضت الحرب بكفاءة، ثم توجت هيمنتها باختراع السلاح النووي، فبادرت إلى استخدامه ضد المدنيين في مدينتي ناغازاكي وهيروشيما اليابانيتين من دون رحمة. لم يكن قتل مئات الآلاف من المدنيين ضرورة لا مناص منها لوقف الحرب مع اليابان، فقد كانت طوكيو تترنح وترسل مؤشرات استسلام، إلا أن الرئيس الراحل هاري ترومان أراد من استخدام السلاح النووي أن يُدَشِّن عصر تفوق أمريكي لا يُضاهى، وعينه في ذلك الوقت على الاتحاد السوفييتي؛ الخصم المستقبلي.
إن الآلة العسكرية الجبارة وإحكام السيطرة على النظام الاقتصادي العالمي عوَّدا أمريكا على ثقافة استعلاء مؤسَّسة على ركنين رئيسيين: الطغيان العسكري، والجشع الاقتصادي.
إقرأ أيضاً: “كورونا” والهيستيريا السياسية
وسّعت الحرب الباردة دائرة الاستقطاب بين المعسكرين لتشمل العالم كله وجميع مناحي الحياة. فاندلعت ثورات العالم الثالث الطامح إلى “الفردوس” الاشتراكي الموعود، ودعمت أمريكا أنظمة مستبدة، وخاض الطرفان حروباً بالوكالة كان وقودها العالم أجمع. فشكل عالم الحرب الباردة صورة صادقة عن روح النظام الدولي: صراع صفري من أجل الهيمنة والبقاء. أما شعارات التحرر والعدالة الاجتماعية التي روّجها الاتحاد السوفييتي، ووعود الديمقراطية وحقوق الإنسان التي روجها الغرب، فلم تكن سوى أدوات في المعركة. لقد كان الصراع في جوهره استراتيجياً لا مكان فيه للأخلاق ولا للقيم، إلا “للأيديولوجيا المسلحة”؛ أي تلك النظريات التي يروجها الطرفان، اشتراكية كانت أم ليبرالية، من أجل بسط الهيمنة وتوسيع دائرة النفوذ.
وُلِدت الليبرالية في القرن الـ 17، بينما وُلدت الاشتراكية في القرن الـ 18. ولكل منهما مبادئ إنسانية جديرة بالاحترام، إلا أن الأزمات نقلتهما من خانة القيم الإنسانية إلى خانة التوظيف الاستراتيجي، وهذه الخطيئة الثانية التي ارتكبها النظام العالمي: وظّف المقدس لخدمة الصراع، فكل شيء ليس إلا أداة في صراع تسيُّدي مجنون، كل شيء ينبغي أن يكون حطباً في جحيم التنافس الجهنمي.
وبعد انهيار جدار برلين عام 1989، ومعه انهار المعسكر الاشتراكي، بدا أن الليبرالية الغربية قد حققت عن جدارة انتصارها النهائي. فاندفعت معظم دول العالم النامي بما فيها دول أوروبا الشرقية، في مطلع التسعينيات، إلى تنظيم انتخابات ديمقراطية – شكلياً في معظم الأحيان – تزلفاً لانتصار الليبرالية العالمية المزعوم، وبدا أن الغرب قد رسم الشكل النهائي للتاريخ وإلى الأبد، وتوَّج أمريكا على عرش الهيمنة العالمية من دون منازع، واندفع العالم المنبهر بكل ما هو أمريكي صوب القبلة الأولى للسياسة الدولية: واشنطن.
لم تُضِع أمريكا الوقت في الاحتفال، بل عكفت على صياغة العالم الجديد على صورتها، فوظفت تفوقها العسكري لتصبح “شرطي العالم”، وامتطت العولمة الاقتصادية لتكديس أكبر ثروة عرفتها البشرية، مخلفة فوارق هائلة بين الأغنياء والفقراء. فتأسست منظمة التجارة العالمية، العام 1995، لرعاية العولمة الاقتصادية، واعدةً العالم بالمدد المستمر للمواد الخام والسلع؛ لكن الاقتصاد الأمريكي كان المستفيد الأول، فعاش في التسعينيات أفضل أوقاته: معدلات نمو عالية، تضخم منخفض، معدلات بطالة تقل عن 5%، وأسواق مال مزدهرة تقودها طفرة الاستثمار الرقمي.
يتأثر الدكتور مايكل أوهانلون، استاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد، بكتاب زميله بروس جونز، مدير مركز جامعة نيويورك للتعاون الدولي، وهو بعنوان “لا تزال القيادة لنا: أميركا، القوى الصاعدة والتوتر بين التنافس وضبط النفس”، فيقول “إن البديل عن النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، إذا كان موجوداً، لم يعرفه أحد في واقع الامر ولم يحدده أي منظر أو كاتب أو رجل دولة على قدر من المصداقية. ثمة نتيجتان أساسيتان رسختا في ذهني بعد قراءة الكتاب:
– النتيجة الأولى، أنه “”لا توجد قذائف هاون في بلدان بريكس”، فجونز يركز على عدم التقليل من شأن إنجازات أي من القوى الصاعدة، بل هو يبرهن بشكل مقنع وأصيل، أنها لم ولن تشكل كتلة جيو – ستراتيجية بديلة عن المجتمع الغربي (مثل الاتحاد الأوروبي والناتو ومجموعة الدول السبع) وما فيه من أنظمة ديمقراطية هي الأكثر تقدما بشكل عام من أي تجمع دولي آخر قائم. فمصالح دول “البريكس” لا تجتمع بشكل طبيعي حول أية أجندة واضحة، بل تختلف مع بعضها البعض بقدر ما تتوافق، والكثير من مصالحها في الواقع تتماشى مع مصالح القوى الناشئة، وهي تسعى إلى أفضل تعاون معها، وقد عبرت عن ذلك بأنفسها بالفعل.
– النتيجة الثانية، أن أميركا والصين ليستا صديقتين طبيعيتين بكل معنى الكلمة، لكن بالكاد يرجح أن تصبحا عدوتين. بل إنهما – كما كتب جونز – “متنافستين، وليستا متحاربتين في حرب باردة”. بالتأكيد، الجميع يراقب المشهد الدولي اليوم ويتبين مخاطر هذه العلاقة الحاسمة وفي كثير من الأحيان، آثار تعقيدات العلاقات بين الصين وحلفاء أميركا الرئيسيين في شرق آسيا. لذا، في حين أن المستقبل لا يزال بعيداً ويصعب التنبؤ به، فإن حالة الأمل حول هذه العلاقة وحول آفاق السلام بين القوى العظمى عموماً في العقود المقبلة تعتمد على التوازن أكثر من اعتمادها على القوة إلى حد ما. فالبلَدان – كل منهما – بحاجة إلى الآخر، ويستفيد أحدهما من الآخر، ومرة أخرى، كلاهما ذكي بما فيه الكفاية لمعرفة ذلك.
وكانت هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 قد أفقدت أمريكا توازنها الاستراتيجي والاقتصادي، واندفعت الآلة العسكرية وراء حرب عبثية طويلة باهظة الكلفة في كل من أفغانستان والعراق؛ وبينما انشغلت القوة العظمى بمطاردة أشباح في الكهوف والصحاري، تفرغت كل من الصين وروسيا لاستعادة عافيتهما الاقتصادية ونفوذهما الدولي. لقد كانت الحرب الأمريكية على أفغانستان والعراق أكبر خطأ استراتيجي ارتكبته الولايات المتحدة، ولا يمكن فهم سبب هذا الخطأ إلا في إطار التَّسيُّد الذي أسسته أمريكا لنفسها بعد الحرب الباردة: البطش العسكري والتفرد بالزعامة.
إقرأ أيضاً: هل تموت العولمة على يد فيروس “كورونا”؟
ثم جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية، العام 2008، لتضرب أسواق الولايات المتحدة ثم أوروبا وبقية العالم، واستمرت الأزمة تعيد تشكل الاقتصاد العالمي، وانتهت إلى تراجع تدريجي للنفوذ الأمريكي، وصعود الصين كمنافس فتيٍّ خفيف الحركة سريع النمو، وصولاً إلى حرب باردة جديدة، لكنها هذه المرة اقتصادية، فاندفعت إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، بخطوات غير مسبوقة لفرض رسوم جمركية على البضائع الصينية، وتشجيع الشركات على بناء خطوط تصنيعها في الولايات المتحدة، وشن حظر على شركات صينية تقنية، كشركة “هواوي”، لمنعها من بناء الجيل الخامس – G5 للإنترنت عالمياً، وضغط على حلفاء أمريكا ليحذوا حذوه، كل ذلك للحد من صعود الصين وإبطاء نموها، وإبقاء التفوق الأمريكي أطول مدة ممكنة، وفي هذه الأجواء داهمنا عصر “كورونا”.
ويخلص أوهانلون إلى أن “الأسس التي يعتمدها جونز كسبب للتفاؤل الحذر حول الولايات المتحدة والنظام الدولي بصفة عامة – الذي بني إلى حد كبير ولا يزال متماسكاً بطرق مختلفة – تتضمن بعض الملاحظات والقياسات التي أجدها شخصيا مقنعة في أبحاثي وكتاباتي كذلك. فأميركا لا تزال تتولى القيادة في الانفاق على البحث والتطوير العالميين، من حيث نوعية جامعاتنا، في مجال الابتكار وبراءات الاختراع والتصنيع المتقدم في المواد الصيدلانية والفضاء وغيرها من التكنولوجيات الرئيسية المتطورة، وكذلك الانفتاح والشفافية والاعتماد القانوني لاستثماراتنا ومناخات أعمالنا وتجارتنا.”
ويضيف أوهانلون أنه “على الرغم من إخفاقنا في إصلاح قوانين الهجرة، فنحن لا نزال بوتقة العالم الأكثر إغراء، ويمكن القول إننا أصحاب الملف الديموغرافي الصحي أكثر من أي قوة عظمى (نمو سكاني حقيقي متواضع وسكان لا يشيخون تقريباً بالسرعة التي يشيخون بها في أوروبا واليابان وروسيا والصين). ورغم جهودنا في تنفيذ انسحاب تدريجي من منطقة الشرق الأوسط وسجل مختلط في الحروب الأخيرة هناك، فنحن لدينا الآن بطبيعة الحال أكبر وأقوى جيش في العالم.”
من ضمن الكثير من تلك النقاشات، يركز بروس جونز على كتاب روبرت كاغان “العالم صنع أميركا” القصير والمثير للإعجاب الصادر قبل بضع أعوام، والذي لا يقدم ملخصاً موجزاً عن نقاط القوة الأميركية الدائمة فحسب، بل تذكيراً في الوقت المناسب بحقيقة مفادها أن عالم اليوم – الذي أصبح سلمياً ومزدهراً بشكل عام وفقا للمعايير التاريخية – لم ينشأ من تلقاء نفسه ولن يكون مستداماً من تلقاء نفسه في أي وقت قريب. لكن جونز يتقدم بخطوة مهمة من خلال مناقشته لجوانب متعددة في عالم اليوم – من حيث أنها عضوية وصولاً إلى كيفية عملها – مواتية بطبيعتها لتعزيز موقف أميركا. ويؤكد أن قوتنا اليوم تعتمد إلى حد كبير على التحالفات والائتلافات، ولا تعتمد فقط على دفاتر محاسبية بسيطة تظهر قدرتنا الوطنية، و”نحن حالياً في وضع جيد إلى حد ما في ائتلاف الإدارة رغم كل عيوبنا والنواقص التي نعاني منها في حالات معينة”.
فمن الناحية العسكرية، لدى الولايات المتحدة “العشرات من الحلفاء يسجلون على الأقل 30% من قيمة الإنفاق الدفاعي في العالم، تضاف إلى 40% من ذلك الإنفاق نقدمه بأنفسنا. ومن الناحية السياسية، نحن نمتلك أقوى ديمقراطية في عالم تحكمه الأنظمة الديمقراطية بشكل متزايد رغم أن هذا البيان يبدو غريباً في ضوء صعود الصين. في المجال الاقتصادي، يمكن القول إننا من بين أكثر الدول راحة ويسراً في هذا السياق بما يتناسب بشكل طبيعي مع العولمة في عالم تهيمن عليه فكرة الترابط والتواصل بين الدول بصورة متزايدة .”
من ناحية ثانية، يطمئن الباحث الأميركي أوهانلون أنه، بالرغم من أن “إيران وكوريا الشمالية والحضور الروسي في تطورات الأزمة الأوكرانية وتوترات الربيع العربي تسبب شعوراً أميركياً بالتعب والتوجس من المستقبل، هناك أسباب قائمة للتفاؤل الحذر حول الولايات المتحدة والنظام الدولي بصفة عامة يراها بعض الأكاديميين مقنعة و.. فاعلة”، مضيفاً “قبل سنوات عدة، في سياق الركود العظيم بعد غزو العراق وأفغانستان، انتشرت موجة من الكتب التي تصور وتشرح تراجع أميركا المزعوم والقابل للجدل. لقد درس علماء وكتاب مرموقين أمثال إيكنبري وكوبشان وكاغان وإيدلمان وزكريا وفريدمان وماندلباوم وبريمر وبريجنسكي قوة أميركا في سياق النظام العالمي المتغير بسرعة. وكان هذا الجدل قد بدأ منذ أواخر الثمانينات عندما قاد بول كينيدي وصموئيل هنتنغتون نقاشاً وطنياً حول ما ينبغي أن يكون ’وقتاً سعيداً’ من الناحية الجيوسياسية في فترة ’الغلاسنوست’ و’البريسترويكا’ السوفييتية التي تلتها مرحلة نهاية الحرب الباردة، لكن التي أصبحت مرحلة تشك فيها أميركا من قدرتها على التنافس طويل الأجل؛ وبالتالي، قدرتها في المدى الطويل على البقاء كقوة عظمى.”
مصدر الصور: إندبندنت عربية – Center for Strategic and International Studies.
العميد م. ناجي ملاعب
باحث في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري / عضو الهيئة العلمية لمجلة الدراسات الأمنية – لبنان.