ثانياً: الأوبئة وتأثيرها على الأنظمة الإجتماعية والسياسية والإقتصادية
1. من تداعيات جائحة “كورونا”
– إبطاء العولمة الاقتصادية: وهذا تيار ليس جديداً، فقد بدأ منذ ثلاث أعوام، بسبب السياسات التي سنتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، إلا أنه الآن سيتعزز عالمياً، إذ ستسارع الشركات والدول إلى امتلاك بنى تحتية ذاتية تقلل اعتمادها على الأسواق العالمية.
– نحو الانكفاء وتصاعد المد القومي ولسان حال دول العالم: نفسي – نفسي، وبالطبع فلن يقف الانكفاء عند حدود الاقتصاد، بل سيتعداه إلى تعزيز نزعات قومية وعنصرية، وهي توجهات رأيناها تتصاعد في الأعوام الماضية، فجاء فيروس “كورونا” ليزيد الخوف من الآخر مصدر العدوى، فأغلقت الحدود، وتصاعدت نزعة الأنانية القومية، ما سيعزز الانكفاء على الذات، وسيدفع باتجاه كراهية الأجانب، والحقد على الأقليات، واستهداف اللاجئين.
– نظام دولي ذو قطبية مرنة: فالنظام الدولي القادم سيقوده قطبان رئيسان هما الصين وأمريكا، ولكنه لن يكون بصرامة القطبية التي رأيناها في الحرب الباردة. عالم ما بعد “كورونا”، ولفترة قد تطول، منكفئٌ على ذاته، يحيط به الخوف من الفقر، وتتصاعد فيه النزعات العنصرية، وهذه وصفة جاهزة لحروب أهلية وأخرى عابرة للحدود، وهنا سنلتفت إلى تأثير ذلك على وظيفة الدولة ومؤسساتها الأمنية في المرحلة القادمة.
أقرأ أيضاً: رسم السياسات الدولية – العولمة
– أجواء الخوف والتوتر: تدفع الناس للتخلي طوعاً عن حرياتهم من أجل الأمن، والإجراءات الاستثنائية التي سنتها معظم الدول مبررة بالفعل، لأنها تأتي في سياق احتواء الجائحة، إلا أن عواقبها البعيدة لن تكون حميدة، فإن الدولة ستجد مبررات عديدة للإمساك بالأمور بقبضة من حديد.
– مصادرة خصوصية الناس: ومما سيزيد الأمر خطورة هو استخدام التكنولوجيا الذكية لمصادرة ما تبقى من خصوصيتهم، ونحن اليوم أمام اللحظة التي ينتقل الاعتداء على الخصوصية من خانة المذموم إلى خانة المحمود، فأمام جائحة “كورونا” تُشكَر السلطات على استخدام تقنيات التعرف على الوجوه، وتحديد الأماكن، وشبكة المعارف، كل ذلك في سبيل احتواء الفيروس، وهذا من الأسباب التي جعلت تجربة الصين في احتواء المرض ناجعة، وستحذو دول العالم حذوها، وسيتم اختراع تطبيقات جديدة أكثر دقة للتعرف على البيانات الحيوية للناس، كالخارطة الجينية ودرجة الحرارة وضغط الدم، وهي معلومات لا تحدد الحالة الصحية للإنسان فحسب بل يمكن أن تحدد المزاج النفسي كذلك.
– صعود قوى غير ديمقراطية للحكم: فإذا أخذنا بالاعتبار أن اليمين المتطرف قد ينجح في الصعود إلى سدة الحكم في عدد من دول العالم، فإننا أمام سيناريو مخيف، يتلقف المتطرفون فيه أدوات سيطرة الدولة، ويندفعون باتجاه الهيمنة المطلقة على خصوصيات الناس وعلى أفكارهم وآرائهم، بل سيتعدى خطر ذلك ليطال مغامرات عابرة للحدود. سيكون العالم أشد خطورة بوجود حكومات متسلطة ترفع لواء العنصرية والشعبوية.
2. “كورونا” والعولمة الأمريكية
العالم الذي نعيشه اليوم متشابك ومتداخل، والعولمة هي السمة الأهم للمنظومة الدولية، وللعولمة ركنان أساسيان: الأول اقتصادي، والركن الثاني تقني؛ وفي الوقت الذي ستتراجع فيه العولمة اقتصادياً بسبب أزمة “كورونا”، سوف تواصل التكنولوجيا الدفع بها إلى الأمام، ولذلك فالعولمة مستمرة ولكن بوتيرة مختلفة وبقيادة متعددة الأقطاب.
بنت العولمة اقتصاداً يعود بالربح الوفير على المصنِّعين، ورسخ في ذهن الجميع يقينٌ تام بديمومة خطوط الاستيراد وسرعة توريدها، إلى أن أظلتنا أزمة “كورونا”، فهزَّت هذا اليقين، فالمصانع تتعرض للإغلاق الجزئي أو الكامل لفترات غير محددة، وبقرار من الدول، ليس وفقاً لمبادئ العرض والطلب، وهو ما قذف الأسواق العالمية في حُمّى الاضطراب وعدم القدرة على التنبؤ بالمستقبل، فانهارت أسواق المال والبورصات، وتراجعت توقعات النمو، وازداد الخوف من ركود عالمي كبير.
لأما بالنسبة إلى التأثير الصحي لجائحة “كورونا”، فسوف يزول مع الزمن، وستتجاوز البشرية خطرها كما تجاوزت أوبئة وطواعين وحروباً سابقة، لكن الأثر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي سيبقى سنوات، وربما عقوداً قادمة.
يتساءل جوزيف س. ناي Nye Joseph، الباحث في جامعة هارفيرد، بالقول: “إن مفتاح الأمن والازدهار المستقبليين لأمريكا هو تعلم أهمية ’السلطة مع’ وكذلك ’السلطة على’ الآخرين”. تضع كل دولة مصالحها أولاً، ولكن السؤال المهم هو كيف تحدد هذه المصالح على نطاق واسع أو ضيق، فقد أظهرت هذه الإدارة ميلاً نحو تفسيرات المعاملات قصيرة المدى، صفرية، مع القليل من الاهتمام للمؤسسات والحلفاء. ويتم تعريف ’أمريكا أولاً’ بشكل ضيق للغاية. إنها تتراجع عن المصلحة الذاتية طويلة المدى والمستنيرة التي ميزت الاستراتيجية الأمنية التي صممها الرؤساء الأمريكيين السابقين، ثويودور روزفلت وهاري ترومان ودوايت أيزنهاور، بعد عام 1945، ليخلص إلى أن التهديد الجديد لأمن أمريكا ليس فقط من القوى عبر الوطنية مثل “كوفيد – 19” وتغير المناخ، ولكن من فشل الأمريكيين المحلي في تعديل مواقفهم تجاه هذا العالم الجديد. هذا هو الدرس المؤلم الذي تعلمنا إياه الفيروس.
3. الصين و”كورونا” وطريق العولمة
لقد أخفت الصين انتشار الفيروس 3 أشهر، وارتكبت بذلك خطيئة كبرى سببت انتشاراً عالمياً للوباء، ثم اتخذت إجراءات استثنائية، أصابت اقتصادها بتراجع حاد، لكنها نجحت في احتوائه، بعدها انطلقت في تلميع صورتها، فبادرت إلى مد يد العون لدول خذلها حلفاؤها، مثل إيطاليا وصربيا، مقدمة نموذجاً جديداً للتضامن الدولي. وإذا نجحت الصين في اكتشاف لقاح أو دواء للمرض، فستكون أقدر من الولايات المتحدة على تصنيعه بسرعة أكبر وتكلفة أقل، وسيكرس ذلك ريادتها العلمية والتقنية.
المهم استراتيجياً هو سرعة تعافي الصين اقتصادياً وقدرتها على استئناف الإنتاج في مصانعها، وهو ما يتحقق بالفعل، وتأمل الصين أن تحقق معدلات نمو عالية تعوض فيها النقص الذي طرأ في الشهور الماضية، وغالباً ستنجح الصين في ذلك، لا سيما إذا طال أمد الأزمة في أمريكا وأوروبا. ولكن هل ستُسلِّم أمريكا للصين؟ هذا ليس متوقعاً على الإطلاق، فالولايات المتحدة ستسعى بكل ما أوتيت من قوة للاحتفاظ بريادتها العالمية، عندها ستضطر إلى مواجهة صفرية مع الصين، هذه المواجهة ستبني نظاماً ثنائي القطبية، وسيكون المحرك الذي يشكل النظام العالمي الجديد.
أقرأ أيضاً: النظام الدولي الحالي: من العولمة إلى التعددية
تعرف الصين أن المواجهة مع أمريكا قادمة لا محالة، وتدرك أن صعودها الاقتصادي يحتاج قوة عسكرية لحمايته. فقد نهجت بكين – خلال العقود الماضية – سياسة الابتعاد عن الأزمات الدولية، وأفسحت المجال لأمريكا وغيرها للانخراط في حروب وأزمات جيو – سياسية، إلا ما اختص بالأمن القومي الصيني المباشر، المتمثل في تايوان والتيبت وبحر الصين الجنوبي.
لكن هذه السياسة لن تستمر طويلاً، فالصين بدأت بالفعل تطوير منظومتها العسكرية، وانخرطت في تحالفات إقليمية، وسوف تضطر للتدخل بشكل أكبر في نزاعات عالمية، ذلك لحماية مصادر المواد الخام لا سيما في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وحماية أسواقها في آسيا، وضمان حرية النقل الذي ينبغي على مشروع “الحزام والطريق” أن يقوم به. والصين بعيدة جداً عن تطوير بنية عسكرية تواجه فيها أمريكا، فالقدرات العسكرية الأمريكية لا تُضاهى، ولن تنجرَّ الصين إلى مواجهة عسكرية معها، لكنها ستعتمد استراتيجية تُرهق فيها “الأَسد الجريح” وتستنزف قوته، بينما تعزز من حضورها الدولي وتوسعها الاقتصادي.
ستحقق الصين صعوداً اقتصادياً، لكنها لن تحتل المكانة التي تحتلها أمريكا على المسرح العالمي، ولن تستطيع بناء عولمة صينية؛ فعزلة الصين الثقافية وارتفاع الفجوة بين الساحل المتطور والداخل الصيني الفقير وديكتاتورية الحزب الواحد وسياسة التحكم المركزي والانغلاق الإعلامي، كلها لن تكون مفيدة في بناء منظومة عالمية تكون بكين مركزها.
4. ماذا عن الإتحاد الأوروبي؟
تأسس الاتحاد الأوروبي فيما بعد الانتصار الغربي الماحق على الاتحاد السوفييتي، وكما حملت تسعينيات القرن الماضي الرخاء لأمريكا فقد عاش الاتحاد الأوروبي عصره الذهبي، لقد حقق للقارة العجوز تقاعداً مريحاً، فقد وعد الاتحاد مواطنيه بالأمن الجماعي والرخاء الاقتصادي، وقد تحقق الأمن بالفعل بعد الرعب الذي سيطر على القارة أثناء الحرب الباردة، واستطاعت منظمة حلف شمال الأطلسي – الناتو أن تؤمن القارة ضد روسيا “المُتعَبَة المُهانة”، وأن تقدم الدعم للدول التي خرجت من عباءة الاتحاد السوفييتي، لدرجة استفزت أكثر السياسيين الروس انفتاحاً على الغرب، ما دفع روسيا تحت قيادة الرئيس فلاديمير بوتين إلى أن تلتقط أنفاسها وتتحرك للدفاع عن عمقها الاستراتيجي، فاجتاحت القوات الروسية شمال جورجيا عام 2008، فأصيب الناتو بالصدمة والشلل، ووقف عاجزاً عن فعل أي شيء، ثم اجتاحت القوات الروسية شرق أوكرانيا، وضمت جزيرة القرم العام 2014، ولم يفعل الاتحاد الأوروبي شيئاً مرة أخرى، سوى الإدانة وتقديم مساعدات متواضعة لأوكرانيا، هنا اهتز الوعد الأول من وعود الاتحاد: الأمن الجماعي.
ويرى وضّاح خنفر، الرئيس والمؤسس المشارك لـ “منتدى الشرق” ورئيس منتدى العمل المشترك والمدير العام السابق لشبكة “الجزيرة”، أن الاتحاد الأوروبي لن ينهار قريباً، فالمنظمات الإقليمية والدولية لا تموت، لكنها إما أن تتطور أو تنزوي، والاتحاد الأوروبي يحتاج أكثر من أي وقت مضى لإعادة تأهيل ذاته، ولا يبدو ذلك على وشك الحدوث، إذا أخذنا بالاعتبار صعود اليمين المتطرف المعادي للفكرة الأوروبية؛ ولذلك، فمن المتوقع أن تنشأ تكتلات داخل الاتحاد بين دول متقاربة في مصالحها الاقتصادية أو نزعتها السياسية، لفترة ليست قصيرة، بانتظار قيادة للاتحاد تقوم على تطويره ليتوافق مع مصالح أوروبا بشكلها الجديد، والدولة الوحيدة القادرة على ذلك هي ألمانيا، لكنها تدخل هي الأخرى أزمات سياسية يسببها تصاعد اليمين المتطرف.
مصدر الصور: The University of Adelaide – Getty Image.
العميد م. ناجي ملاعب
باحث في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري / عضو الهيئة العلمية لمجلة الدراسات الأمنية – لبنان.