الإنفاق العسكري الإيراني والعوامل المؤثرة فيه
مما لا شك إن القوة العسكرية هي الوسيلة الفاعلة والرادعة لحفظ الأمن القومي وحمايته لأية دولة وهي الوسيلة التي يتم اللجوء إليها في حالة قصور الوسائل الأخرى عن تحقيق مصالح الدولة ويرتبط مفهوم القدرة العسكرية للدولة بمدى إمكانية صناع القرار السياسي على توظيف قواتها المسلحة كماً ونوعاً بمسار يخدم أهداف السياسة الخارجية في وقتي السلم والحرب.
يعرف الإنفاق العسكري وفق الأمم المتحدة “هو ما يتم تخصيصه من أموال الميزانية العامة في الدول لتغطية تكاليف نفقات القوات المسلحة”، ومن هنا يتيح وضع تعريف محدد للأنفاق العسكري إمكان قياس ومقارنة تخصيص الموارد المالية للمؤسسة الدفاعية من ضمن ما يخصص من الموازنة العامة، بمعنى التعرف إلى ميزانية الدفاع للسنة المالية مقارنة بميزانيات الوزارات الأخرى في الدولة.
وفي ضوء ذلك يحدد حجم “الإنفاق العسكري” ما تخصصه الدول من ناتجها القومي الإجمالي لمجال الدفاع والأمن، سواء أكان لاستيراد الأسلحة من الخارج، أم تصنيعها محليا وللتطوير والبحث العلمي من أجل الإرتقاء بالتكنولوجيا العسكرية، كما أنه يحدد مدى إدراكها لوجود تهديد خارجي لأمنها القومي وما تتكبده من تكلفه مالية على نشاطها العسكري. وهذه التكلفة هي بمثابة مدخلات للقطاع العسكري، ولذا فإنها لا تفيد بمفردها في تقدير القوة الأمنية أو العسكرية والتي هي مخرجات لذلك القطاع فتلك القوة بشقيها تتوقف على التوازن بين فئات الإنفاق المختلفة بضمن ميزانية الدفاع والتكلفة ومستوى التكنولوجيا والتدريب وعلى العقيدة العسكرية. ولذلك فإن ميزانية الدفاع الإجمالية قد تفضي إلى مستويات مختلفة من الأمن أو التهديد تبعا لكيفية الإنفاق.
الإنفاق العسكري مقارنة بالدول المحيطة
يمكن رصد أهم ملامح سباق التسلح في منطقة الشرق الأوسط من خلال ما تشير إليه احصائيات معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام –SIPRI، فقد تراجع اجمالي الإنفاق العسكري في الشرق الأوسط بنسبة 17% خلال العام 2016، مقارنة بالعام 2015، ولكنه ارتفع بنسبة 19% مقارنة بالعام 2007، وذلك بالرغم من انخراط كل دول هذه المنطقة فيما عدا سلطنة عمان في نزاعات محلية.
وتراجعت السعودية إلى المرتبة الرابعة من حيث الإنفاق العسكري، وراء الولايات المتحدة والصين وروسيا على التوالي، في حين أن السعودية، التي تقدر ميزانية إنفاقها العسكري 63.7 مليار دولار في العام 2016، كانت ترفع من إنفاقها العسكري سنويا منذ العام 2002 إلا أن إنفاقها العسكري، في العام 2016 انخفض بنسبة 30% مقارنة بالعام 2015، ومن ناحية أخرى ارتفع الإنفاق العسكري الإيراني بنسبة 17% خلال العامين 2015 – 2016.
وفي ذات السياق، تشير البيانات الأحدث التي أعدها تقرير معهد SIPRI، لعام 2017، إلى أن الإنفاق العسكري كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي قد بلغ في العام 2016 نحو 16.7% في عمان، ونحو 10.4% في السعودية، و6.7% في الجزائر، و6.5% في الكويت، و5.8% في الكيان الصهيوني، و4.8% في كل من البحرين والعراق، و3.2% في المغرب، و3 % في إيران، و2.3% في تونس، و2% في تركيا، و1.6% في مصر.
وأوضح المعهد في تقريره أن معدل الزيادة في الإنفاق العسكري الإيراني تسارع بوتيرة عالية، في العام 2019، إذ احتلت إيران المرتبة الثامنة عشرة عالمياً في الإنفاق العسكري حيث وصل حجم انفاقها إلى 13 مليار دولار، في العام 2018؛ لذلك، تمثل زيادة الإنفاق العسكري الإيراني أعلى بنسبة 53%، في العام 2018، عما كان عليه الإنفاق العسكري قبل خمس سنوات.
تسارع تطوير القدرات العسكرية الإيرانية في ضوء التهديدات
يلاحظ تزايد حجم الإنفاق العسكري الإيراني، بدءاً من العام 2018، عقب إعلان الولايات المتحدة الانسحاب من الإتفاق النووي؛ وبالتالي، يتطلب ذلك الوضع المضطرب تصاعداً في حجم التهديد أمام التصعيد الأمريكي مما يتطلب مزيداً من الموارد العسكرية لمواجهة تلك المخاطر. وما يجب ذكره هنا أن إيران ترى بأن تحقيق أمنها، أمام التحديات الخارجية، يجب أن يتواكب مع تعزيز قدراتها العسكرية في المجالات التقليدية وغير التقليدية، وهو ما يفسر زيادة الحكومة الإيرانية من الدعم المالي للإنفاق العسكري في مشروع موازنة العام 2019، في خطوة تأتي لتعزز الدفاع تجاه المخاطر الإقليمية.
وعليه، شكلت تطورات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى تزايد الوجود الأجنبي في المنطقة والتدافع على تحقيق المصالح، إلى حالة من عدم الإستقرار، الأمر الذي دفع إيران إلى زيادة إنفاقها العسكري سواءً بإستيراد الأسلحة من الخارج أو تصنيعها محلياً لتعزيز أمنها مما يرفع الموازنة المالية الإيرانية المخصصة للدفاع.
تولي إيران اهتماماً كبيراً لتطوير قدراتها العسكرية، وأعلنت في ضوء ذلك عن انجازات في صناعاتها الحربية المختلفة والعمل على تحديثها على الرغم من تراجع العائدات النفطية بسبب العقوبات النفطية التي فرضتها الولايات المتحدة عليها، فضلاً عن العقوبات على استيراد الأسلحة. وانسجاماً مع ما تقدم، يشير معهد “غلوبل فاير باور” – Global Firepower Institute إلى أن إيران تحتل المرتبة الثامنة عالمياً من حيث حجم القوات المسلحة، إذ يصل عدد أفراد القوات البرية إلى أكثر من 545 ألف فرد تقريباً، بينهم 220 ألف مجنداً في الخدمة الإلزامية. أما فيما يتعلق بالمعدات البرية فتمتلك القوة نحو 1658 دبابة، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى وبحسب تقديرات المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن، يتألف الحرس الثوري الإيراني – IRGC من 350 ألف جندي، في حين يرى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن أن عدد أفراده لا يتجاوز 120 ألف جندي، وللحرس الثوري قوات برية وبحرية وجوية. بالإضافة إلى ذلك، يتبع القوات البحرية نحو 20 ألف جندي، والباقون موزعون على القوات البرية والجوية.
إعتماد القدرات الصاروخية كخيار إستراتيجي
إستمرت إيران في تطوير قدراتها الصاروخية بإعتبارها وسيلة للردع وخياراً استراتيجياً، طالما أنها تطال أهدافاً بعيدة ولأطراف تراها خصوما لها، وأنها مجال لتطوير التقنية الوطنية. ومنذ العام 2008، أجرت إيران تجربة صاروخية على صاروخ من صنعها وتصميمها من مدى 2000 كلم، وبذلك اعفت إيران نفسها من الإعتماد على استيراد التقنية الأجنبية. وفي العام 2009، ارسلت إيران أول قمر صناعي مستخدمة صاروخاً عابرا للقارات ايذاناً بأنها دخلت إلى صناعة مثل هذه الصواريخ البعيدة المدى.
وبدأت إيران جهوداً كبيرة في توسيع البرنامج الخاص بالصواريخ الباليستية، وأصبحت قادرة على تصميم وانتاج الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى، إذ تشير التقديرات إلى امتلاك إيران واحدة من أكبر ترسانات الصواريخ الباليسيتية في المنطقة، مع تركيزها على تحديث قدراتها الصاروخية وتطوير مدياتها ودقتها بالاعتماد على القدرات الذاتية.
وفي ضوء ذلك، يمكننا القول، في إطار تحديث إمكاناتها الدفاعية، عملت إيران على تطوير قدراتها اللا تماثلية من خلال تعزيز تواجدها في المنطقة عبر حلفائها من التنظيمات المسلحة التي تشكل وسيلة دفاع متقدمة بالنسبة اليها وأداة ضغط إقليمي لمواجهة التحديات التي تهدد أمنها.
ما زالت إيران حريصة على تأكيد عدم تراجعها عن سياستها لا سيما فيما يتعلق ببرنامج الصواريخ الباليستية، رغم الضغوط الدولية التي تتعرض لها في هذا السياق، بسبب اتساع نطاق الإهتمام الدولي بالتهديدات التي يفرضها استمرارها في تطوير تلك الصواريخ، على الصعيدين النووي والإقليمي، وهو ما لا يمكن فصله عن مجمل التطورات التي شهدتها الساحتان الإقليمية والدولية في الفترة الأخيرة، وكانت محل متابعة خاصة من جانب طهران، سواء على مستوى التوتر المتصاعد حول الإتفاق النووي، أو على صعيد الإنتقادات الإقليمية والدولية الموجهة للأدوار التي تقوم بها إيران في المنطقة، ومساعيها لتكريس وجودها العسكري داخل سوريا. وقد طرحت التصريحات التي أدلى بها قائد القوة الجو – فضائية التابعة للحرس الثوري، أمير علي حاجي زاده في 6 مارس/ آذار 2018، التي قال فيها أن إيران “تعتبر ضمن الدول الخمس الرائدة في مجال الصواريخ والدفاع العسكري والرادارات والقنابل والطائرات المسيّرة على مستوى العالم.”
الإهتمام بالدفاع الجوي والأمن السيبراني والطائرات المسيرة
ضمن هذا السياقات، يمكن التعرف على مستوى التسلح الإيراني، من خلال التقرير الذي أعده المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية حول “التوازن العسكري”، في العام 2019، أشار فيه إلى أن إيران تمتلك نحو 32 بطارية من صواريخ أرض جو – سام 300 تسلمتها من روسيا، في العام 2016. ومن جهة أخرى، أشار التقرير أن إيران طورت نسخاً من هــذه الأسلحة، ومن بينها منظومتـي “باور373″ و”سام رعد”.
يضاف إلى ذلك، كشفت إيران في الآونة الأخيرة النقاب عن نظام صواريخ الدفاع الجوي المحلي “خرداد”، وأورد وزير الدفاع الإيراني، الجنرال أمير حاتمي، أن صواريخ “صياد 3” يمكنها إسقاط الطائرات المقاتلة والمركبات القتالية الجوية من دون طيار من على مسافة 120 كلم.
وفقاً للمعلومات عـن قدرة “خرداد” على تتبع الأجسام الخفية، فإن هـذا النظام يمكنه التتبع مـن مسافة 85 كلم والإشـتباك من على بعد 45 كلم. إن الإطار الزمني لنشر النظام مدته خمس دقائق، بينما سيكون قادراً على الإشتباك مع ستة أهداف في وقت واحد، هذا من ناحية. من ناحية أخرى، طورت إيران نظام رادار “آراش – 2” القادر على تحديد الأجسام الطائرة الصغيرة، وعلى حد تعبير قائد الدفاع الجوي في خاتم الأنبياء، العميد فرزاد إسماعيلي، فإن أحد هذه الأنظمة عبارة عـن “رادار فضائي بعيـد المدى مزود بترددات مجتمعة وقدرة على اكتشاف الأجسام الطائرة الصغيرة بالإضافة إلى صواريخ الكروز”.
إلى جانب ذلك، عززت إيران تطوير الإمكانات التكنولوجية والقدرات التشغيلية للإنترنت، وأيضاً القدرات الهجومية السيبرانية كوسيلة أخرى لإستراتيجيتها الجديدة غير التماثلية، ما جعلها تحقق تقدماً نوعياً واضحاً، وتدخل ضمن أقوى 5 دول إلكترونياً في العالم؛ بعد كل من الولايات المتحدة والصين، وأصبحت إيران قادرة على الوصول لأهداف بعيدة المدى، إذ خصصت ما يقرب من 76 مليون دولار سنوياً من أجل تطوير قدراتها التكنولوجية.
وما يجب ذكره هنا، هو تصنيع طائرات بدون طيران، حيث يرجع تاريخ تلك الصناعة إلى ما قبل ثورة العام 1979، إذ بدأ محمد رضا شاه، في العام 1970، برنامجاً للتصنيع المحلي للطائرات المسيرة إلا أنه توقف بعد الثورة الإيرانية، لكن من منجزات البرنامج تأسيس مصنع الصناعات الجوية “قدس” بمدينة قم وافتتاحه، في العام 1985، وانتج الطائرة المسيرة “مهاجر”، ومن بعدها “مهاجر 2 و3″، و”أبابيل”، والتخطيط لإنشاء مركز دراسات الصناعات الجوية “شاهد” بمدينة اصفهان الذي قدم الدراسات والتصميمات اللازمة لتصنيع الطائرة “هسا – 100” المسيرة، وهي النموذج الذي تم تطويره، في العام 2005، ليصبح الطائرة “شاهد 123” النموذج الأولي من الطائرة “شاهد 129” التي تعد العمود الفقري الحالي لأسطول الطائرة المسيرة الإيرانية.
كما أعلنت إيران عن إنتاج روبوتات استطلاع من نوع – ARIO-RS10 بهدف الإستفادة منها في العمليات العسكرية قصيرة المدى، وتنفيذ عمليات الإستطلاع والمراقبة المستدامة للمراكز الخاصة والعسكرية الإيرانية، وأيضاً استخدامها في تنفيذ العمليات العسكرية.
مركزية السلطة في خدمة النظام الإسلامي
بعد الثورة، برز الخمينيون كجناح مهيمن، وكان عداؤهم لأميركا حازماً وجازماً، تماماً كرغبتهم في إقامة حكم إسلامي على إيقاع نظرية الخميني في ولاية الفقيه. هذا النظام من الحكومة الدينية، التي تم تبينه في دستور الجمهورية الإسلامية العام 1979، وضع السيطرة الكلية تقريباً بين يدي رجل دين واحد، هو المرشد الأعلى الذي سيشرف على كل أفرع الدولة وله حق النقض “الفيتو” على عملية صنع القرار. وقد عمل المرشدان، وهما “روح االله الخميني” الذي تسلم المنصب من العام 1979 حتى وفاته عام 1989 و”علي خامنئي” الذي خلفه في ذلك العام والذي لا يزال في هذا المنصب، كمشرفين عاملين على عملية صنع القرار وليس كمديرين لكل دقائقها. صحيح أن مكتب المرشد الأعلى في عهد “علي خامنئي” بات أكثر انخراطاً في تقرير السياسات عما كان الأمر في عهد “روح االله الخميني”، إلا أن الهيئات الرسمية منحت عموماً حرية تطبيق أجنداتها، طالما أنها لا تخرج عن السياقات التي يحددها المرشد الأعلى.
هناك، عدا المرشد الأعلى، مؤسسات حكومية أخرى استحدثت بعد الثورة للنهوض بالمهام اليومية الخاصة بوضع السياسة العامة وتنفيذها، منها السلطة التنفيذية المنوط بها السياسة الخارجية. أما مجلس صيانة الدستور، الذي يتكون ومدنيين من فقهاء شيعة دينيين، فيقوم بالتدقيق في ملفات المرشحين للمناصب، ويعمل لضمان توافق وانسجام سياسات الحكومة مع الشرع الشيعي.
ويعتبر المجلس الأعلى للأمن القومي اليوم أهم هيئة في إيران لصنع القرارات الإستراتيجية، وهو يتألف من كبار المسؤولين الحكوميين، والقادة العسكريين، وممثلي القائد الأعلى. ويقال أن هذا المجلس هو الذي يجب أن يقر رسمياً القرارات الإستراتيجية والسياسات الخارجية، سواء جاءت من الحكومة أو من الحرس الثوري، قبل أن تشق هذه طريقها إلى حيز التنفيذ.
لقد كان الحرس الثوري الآلية الرئيسة لتحقيق هذه السياسة وكما عبرت هذه المنظمة، العام 1980، أنه “لا مناص أمامنا سوى تعبئة كل القوى المؤمنة في الجمهورية الإسلامية، وأيضاً تعبئة كل القوى في المنطقة برمتها. يجب أن نلقي الرعب في قلوب أعدائنا حتى تهجر قلوبهم فكرة غزو وتدمير ثورتنا الإسلامية. وإذا لم يكن لدى ثورتنا رؤية عالمية وهجومية متقدة، فسيعمد أعداء الإسلام إلى استعبادنا مجدداً ثقافياً وسياسياً.”
كي نفهم الأساس المنطقي للسياسة الخارجية الإيرانية، يتعين أن نلاحظ أن ثورة العام 1979 كانت قبل كل شيء رفضاً للهيمنة الأجنبية على البلاد، خاصة منها النفوذ الأميركي. فالقضايا الرئيسة التي لمت شمل المعارضة الإيرانية المتنوعة، كانت النزعة المعادية للإمبريالية والولايات المتحدة. وقد استخدم الثوريون شعاراً شعبوياً “لا شرق ولا غرب” لتأكيد رغبتهم بأن تشق إيران طريقاً إيديولوجياً وسياسياً مستقلاً. تضمنت الثورة ألواناً من القومية الإيرانية والإسلاموية التي رددت أصداء فكر الفيلسوف فرانز فانون، وأرادت صياغة الإسلام الشيعي بوصفه النظام السياسي الوطني والمحلي الحقيقي. إضافة إلى ذلك، كان لدى الخميني أجندة إسلامية قوية.
حين نُحلل سلوكيات إيران الإستراتيجية وعملية صنع القرار فيها، حري بنا أن نلاحظ أن ثمة مستويين رئيسين في سياستها الخارجية، كلاهما يقعان تحت العين الساهرة للمرشد الأعلى وخاضعة إلى سلطته، لكنهما تختلفان في الشكل والمضمون. المستوى الأول، هو السياسة من دولة إلى دولة، التي تديرها في معظم الأحيان الحكومة المنتخبة في طهران؛ والثاني هو علاقة إيران مع الكيانات غير الدولتية، التي يشرف عليها الحرس الثوري وتجري غالباً خارج سياق صلاحيات الحكومة.
هذا قد يجعل السياسة الخارجية تبدو متلبسة بجملة تناقضات. ففيما تروج البلاد لفكرة تفوق نظام الحكم الإسلامي فيها، ولا تزال تعتبر النصير الصريح الأبرز لنزعة معاداة أميركا والصهيونية، إلا أن علاقاتها تشي بصورة أكثر تنوعاً. كذلك، على رغم أن معظم حلفاء إيران الصاخبين هم من الكيانات غير الدولتية، التي تتشكّل في معظمها من الجماعات الإسلامية الشيعية، إلا أن طهران تحتفظ بروابط مثمرة مع جمهرة من البلدان التي تعتنق أنظمة غير إسلامية. إذ تشتهر إيران، على سبيل المثال، بأنها أقرب إلى الهند من جارتها الإسلامية باكستان. وهي لطالما فضلت غالباً المسيحيين الأرمن على الشيعة الأذربيجانيين في النزاع المتواصل بينهما.
الواقع أن الجمهورية الإسلامية انتهجت طيلة تاريخها مساراً لا طائفياً إلى حد بعيد. فقادة إيران لطالما شددوا على المُثل العليا الإسلامية وخطبوا ود حلفاء من السنة. كما أن غالبية الباحثين الذين درسوا السياسية الخارجية الإيرانية منذ العام 1979، لا يصنفون هذا السجل من السلوك على أنه طائفي، أو بأنه يستهدف في المقام الأول النهوض بأجندة شيعية، بل على العكس يرون أن عملية صنع القرار في إيران أقرب ماتكون إلى السياسة الواقعية.
مع ذلك، يبدو أن العامل الطائفي في السياسة الخارجية الإيرانية قوي عوده خلال العقد المنصرم. وكانت المحفزات الرئيسة لهذه الانعطافة نحو دعم واضح وقاطع للوكلاء الشيعة وحلفائهم في الشرق الأوسط، هي حدث إطاحة الزعيم العراقي صدام حسين، العام 2003، واندلاع “الربيع العربي”، في أواخر العام 2010. هذان الحدثان وما أشعلاه من نزاعات، خاصة في العراق وسوريا واليمن، باعدا بحدة بين مصالح إيران وجيرانها. ثم جاء الخوف المتبادل من نوايا كل طرف، ليقذف بإيران ومنافسيها العرب بشكل مطرد إلى خضم السلوكيات الطائفية
إيران و”القاعدة”: مصالح أقوى من الإنتماء المذهبي
تشي علاقة إيران المقلقة والمُحرجة مع تنظيم “القاعدة”، بأن ثمة ما هو أكثر من الأهداف الطائفية في سياستها الخارجية. فقد أقام عدد قليل متناثر من ناشطي “القاعدة” وعائلاتهم في إيران بين الفينة والأخرى منذ الغزو الأميركي لأفغانستان، في العام 2001. أول موجة من هؤلاء، ضمت أفراد عائلة أسامة بن لادن التي حطت الرحال في إيران بعد فرارها من وجه القوات الأميركية في أفغانستان. وقد وضعتهم السلطات الإيرانية قيد الإعتقال استناداً إلى قواعد قانونية غامضة. بيد أن الوثائق الداخلية التي صودرت، في مايو/أيار من العام 2011، خلال غارة أبوت أباد التي قتل فيها أسامة بن لادن، تعتبر إيران عدواً لا حليفاً، وتسبغ عليها وعلى الشيعة نعوتاً عنصرية. كما تصف أعضاء الجماعة في إيران بأنهم أسرى.
مع ذلك، يبدو أن ثمة شكلاً من أشكال التفاعل المُتواصل بين القاعدة وإيران. فعدا عن الأسرى، سُمح لأعضاء آخرين في التنظيم بالمجيء والعيش في إيران بحرية. ففي يوليو/تموز العام 2016، فرضت وزارة المالية الأميركية عقوبات على العديد من أعضاء القاعدة الذين يعتقد أنهم يعيشون في إيران، بسبب دعمهم النشط للعمليات الإرهابية عبر المنطقة، بما في ذلك في سوريا.
لكن، من غير الواضح أي هدف يخدم أعضاء القاعدة المقيمين في إيران وما وضعيتهم هناك، وكيف يقومون بأعمالهم بحرية. وعلى رغم أن إيران و”القاعدة” في حالة حرب في سوريا واليمن، إلا أنهما طورتا علاقة مفيدة للطرفين، على الأقل في ما يتعلق بوجود ونشاطات أعضاء القاعدة العاملين انطلاقاً من إيران. وكما تستنتج أكاديمية “وست بوينت” العسكرية الأميركية من وثائق “أبوت أباد”، تبدو العلاقات بين إيران والتنظيم “مترعة بالصعوبات”. فإيران تثمن في الغالب الوجود المحدود لـ “القاعدة” على أراضيها بكونه شكلاً من أشكال النفوذ والسطوة اللذين يمكن توظيفهما ضد الولايات المتحدة، أو ضد جيران كالسعودية وباكستان، أو ضد دول يعتقد أنهم يتحدرون منها.
وتعتقد وزارة المالية الأميركية أن إيران أبرمت صفقة مع هذه المنظمة الجهادية تسمح لها بموجبها بتواجد صغير ومحدود، في مقابل عدم قيامها بعمليات إرهاب أو تجنيد ضمن حدودها. وربما تعتبر إيران أيضاً أن أعضاء القاعدة يمكن أن يكونوا رهائن لديها إذا ما أطلت الحاجة برأسها. لكن، كيفما كان الأمر، مثل هذا الترتيب غير مريح سياسياً.
في الختام، يبدو أن المصلحة، والمصلحة فقط، هي ما يوجه البوصلة لأي نظام سياسي مهما اختلفت التسميات. وبكلمات أوضح، تتحرك السياسة الخارجية الإيرانية في العديد من الحالات على إيقاع ميولها المرتبطة بالسياسة الواقعية؛ تلك الميول التي تمكنها من الإنخراط في صفقات أسلحة مع الولايات المتحدة وإسرائيل خلال الحرب العراقية – الإيرانية، والحفاظ على علاقة محدودة مع “القاعدة”، وإبرام شراكة استراتيجية مع روسيا.
*خبير أمني واستراتيجي – باحث أول في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري “إينغما”.
المصدر: مجلة الدراسات الأمنية – قوى الأمن الداخلي.
مصدر الصور: الميادين – البوابة – التايمز.
موضوع ذا صلة: إلغاء الاتفاق النووي مع إيران “كارثي”