ثالثاً: نظرة دوائر القرار الأميركي للمستقبل والسيناريوهات المحتملة
1. عام 2040 بعيون الاستخبارات الأمريكية
أصدرَ مكتب مدير الاستخبارات الوطني الأمريكي تقريراً يتنبأ بشكل العالم في العام 2040، معتمداً في تقييمه على آراء أكاديميين ومحللين ومسؤولين استخباراتيين، لرسم سيناريوهات تقريبية تساعد صنّاع القرار الأمريكيين على وضع الإستراتيجيات، والتنبُّه مبكراً للمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في أمريكا والعالم.
ويصدِرُ المكتب كل 4 أعوام، منذ 1997، تقريراً بعنوان “الاتجاهات العالمية” يقيِّم فيه أهم الاتجاهات والتقلبات السياسية التي ستؤثِّر إستراتيجياً في الولايات المتحدة. وينقسم التقرير إلى 3 أجزاء رئيسة: “القوى الهيكلية”، ثم “الديناميات الصاعدة”، ثم ينتهي بسرد 5 سيناريوهات متوقعة لشكل العالم والنظام العالمي في العام 2040.
يظهر في التقرير بمختلف أقسامه خمس سمات أساسية للمستقبل:
– التحديات العالمية – Global Challenges: تظهر هذه التحديات حول العالم، دون تدخل بشري مباشر في أغلبها، لتضغط على المجتمعات وتسبب صدمات قد تكون كارثية غالباً، تحدياتٌ مثل: التغير المناخي، والأمراض، والأزمات الاقتصادية، ومشاكل التكنولوجيا.
فمثلاً، تسبَّب وباء “كوفيد – 19” في أكبر اضطراب عالمي منذ الحرب العالمية الثانية، وستستمر توابعه الصحية والاقتصادية والسياسية والأمنية لسنوات. وستزيد آثار التغير المناخي – غالباً – من سوء أزمات الأمن الغذائي والمائي، والهجرة، والتحديات الصحية، وتراجع التنوع الحيوي في البيئة. وتستمر تقنيات جديدة في التطور والظهور، ثم الاختفاء، بسرعة متزايدة تسبب اضطراباً في أنماط العمل (الوظائف) وفي المجتمعات، وفي التصنيع، وفي طبيعة القوة والسلطة، وفي معنى أن تكون إنساناً. وستستمر ضغوط الهجرة العالمية، على الدول التي يهاجر منها الناس والدول التي تستقبلهم؛ مثلاً، في العام 2000، عاشَ 100 مليون في دول هاجروا إليها، وزاد الرقم العام 2020 ليصل إلى 270 مليوناً يعيشون في دول المهجر.
هذه الأزمات والتحديات ستتقاطع وتتتابع بطرقٍ يصعب توقعها، وستوسِّع من مفهوم ومساحات “الأمن القومي” الذي لن يقتصر على الدفاع العسكري ضدَّ الجيوش والمخاطر الأمنية التقليدية.
– الانقسام – Fragmentation: تصعِّب حالة الانقسام العالمية المتزايدة من التعامل مع التحديات السابق ذكرها، وللمفارقة، فإن الزيادة المستمرة في الاتصال والتواصل من خلال التكنولوجيا والتجارة وحركة الأفراد، هي نفسها التي تسببت في انقسام وتفكك الدول والشعوب. والاتصال – بمعنى الترابط والتشابك – سيساعد البشر على توفير مستويات معيشة أفضل، ولكن سيتسبب في خلق وزيادة التوترات، في المجتمعات المنقسمة والمُختلفة على القيم وعلى أهدافها الأساسية، وصولاً إلى الحكومات التي ستوظف القمع الرقمي للسيطرة على الشعوب.
– اختلال التوازن – Disequilibrium: التحديات العالمية وآثارها المُتجاوزة للدول والشعوب، يفوق حجمها قدرة الأنظمة والهيكليات الموجودة اليوم على معالجتها، ما يفتح الباب للسمة الثالثة للاتجاهات العالمية: اختلال التوازن. وعلى صعيد المجتمعات والدول، من المرجح أن تظهر فجوة مستمرة ومتزايدة بين ما تريده الشعوب وما يمكن أن توفره الحكومات والشركات. ونتيجةً لهذه الاختلالات، تضعفُ النُّظم والأُطر القديمة، بما يتضمن المؤسسات والعادات والتقاليد وأنظمة الحكم السياسية، وتتآكل أحياناً، وستضطر المجتمعات البشرية لمناقشة نماذج جديدة لكيفية “بناء الحضارة”.
– التنازع – Contestation: يأتي التنازع داخل المجتمعات والدول والنظام العالمي نتيجةً مباشرةً للاختلال في التوازن وما يسببه من تزايد التوتر والانقسامات والمنافسات، وستصبح السياسة الداخلية في الدول المختلفة مُتقلبةً وخلافيَّة، ولن يُستثنى من هذه الظاهرة أية منطقة أو إيديولوجية أو نظام حكم. وعلى الصعيد الدولي، ستصبح البيئة الجيو – سياسية أكثر تنافسية، في ظل تحدي الصين للولايات المتحدة والنظام العالمي الذي يقوده الغرب، وستتسابق الدول لتأسيس واستغلال القواعد الجديدة للنظام العالمي.
– التكيُّف – Adaptation: أي لاعب دولي يسعى للتفوق على منافسيه يجب أن يتحلَّى بقدرة على التكيُّف والتأقلم، وذلك في قضايا مثل التغير المناخي والديموغرافي والتكنولوجي. وفي حالة التغيُّر المناخي، قد يتطلب التكيف تنفيذ خطوات عديدة، بعضها غير مُكلف، مثل: استعادة الغابات التي خربها الإنسان؛ ومنها المعقد، مثل: بناء جدران بحرية، أو التخطيط لنقل مجموعات بشرية كبيرة من مناطق سكنها إلى مناطق أخرى.
وستكون التكنولوجيا وسيلةً فعالة للتكيف، فيمكن أن تزيد الدول من الفرص الاقتصادية بتوظيف تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، وهو ما سيختلف من دولة لأخرى، وسيعزز من التفاوت الاجتماعي ويبرزه أكثر. وستكون الدول الأكثر فعالية هي التي تستطيع كسب الثقة والتوافق داخلياً على الخطوات الجماعية الكبيرة التي يتطلبها التكيف، وستحتاج الحكومات للاستفادة من خبرة وقدرات وعلاقات الفاعلين غير الحكوميين، ليكمِّلوا الجهود الحكومية.
2. السيناريوهات الخمس للعالم في 2040
يطرح التقرير 5 سيناريوهات تجمع كل التفاصيل التي ناقشناها في مشهدٍ واحد، ليحاول توضيح توابعها المحتملة وأثرها في شكل العالم. 3 سيناريوهات منها تصوِّر العالم بقيادة إما الولايات المتحدة وإما الصين، وإما التنافس بينهما، ويتنبأ السيناريوهان الباقيان بتغيرات جذرية أكثر، تنتج من انقسام عالمي شديد.
– السيناريو الأول – نهضة الديمقراطيات: في العام 2020، انتبه العالم لأهمية التعاون الدولي في الأبحاث العلمية، والابتكار، والتقدم التكنولوجي، في مواجهة التحديات العالمية، خاصةً مع نجاح تطوير لقاح “كوفيد – 19” وتوزيعه. ويشهدُ العالم صعود ديمقراطيات منفتحة تقودها الولايات المتحدة وحلفاؤها، ويتغير شكل الاقتصاد العالمي نتيجة للتقدم التكنولوجي الذي ترعاه شراكة بين الحكومات والمؤسسات والشركات الخاصة، لترتفع الأجور وتتحسن جودة حياة الملايين في أنحاء العالم.
إقرأ أيضاً: جدلية البقاء بين الوباء واللقاح
ونتيجة لما سبق، ستتمكن الدول من الاستجابة للتحديات العالمية بشكل أفضل، وستخفُّ حدة الانقسامات الاجتماعية، وتتجدد الثقة في المؤسسات الديمقراطية بسبب المبادرات المستمرة للقضاء على الفساد وتعزيز الشفافية والمساءلة. كما سيسهم التطور التكنولوجي – الذي حققته الديمقراطيات – في جعل بعض الدول تتبنى أنظمةٍ ديمقراطية أكثر شفافية. وستُظهر القيادة الأمريكية مركزيتها في عمليات التنسيق بين الدول لحل المشكلات العالمية، وسيساهم في تثبيت هذا النظام انتعاشُ دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، بسبب النمو الاقتصادي والتقدم التكنولوجي. أيضاً، سيسهم التطور التكنولوجي الذي حققته الديمقراطيات في جعل بعض الدول كثيفة السكان تتبنى أنظمةً ديمقراطية أكثر شفافية، ومنها الهند والبرازيل وإندونيسيا ونيجيريا.
وعلى النقيض، سيتراجع الابتكار في روسيا والصين، بعد لجوء أبرز العلماء ورواد الأعمال الصينيين إلى دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا، بسبب المراقبة الجماعية والقيود الاجتماعية المتزايدة، وسيضعفُ النظام السلطوي في البلدين إثر تزايد القمع وتعطُّل النمو الاقتصادي وتزايد الضغوط الديموغرافية، وفي ظل ضعف النظامين، يُصبحان أكثر عدوانية تجاه جيرانهما.
ستُهدد روسيا بالتدخل لحماية الإثنيات الروسية في دول سوفيتية سابقة ليست عضوةً في حلف الناتو – كما هو الحال في أوكرانيا اليوم – وهذه ستكون محاولةً أخيرة ويائسة لتشتيت الانتباه عن مشكلات موسكو الداخلية، بينما ستتحرك الصين بخطواتٍ تصعيدية في بحر الصين الجنوبي، وستستثمر الدولتان في تكنولوجيا المعلومات المُضللة، وأسلحة الحرب غير المتكافئة، لمواجهة التفوُّق الأمريكي العسكري، متفاديتين تكلفة العنف المباشر.
– السيناريو الثاني – عالم تائه: ستفشل العديد من الدول المتقدمة والصاعدة في التعافي الكامل من آثار جائحة “كوفيد – 19” التي سيطولُ عمرها بسبب التوزيع البطيء للقاحات، وسيزيد إحباط الشعوب في دول كثيرة، ورغمَ ذلك لن تستطيع حركات المعارضة المُنقسمة أن تتفق على مطالب وأهداف واضحة. نعيش في عالم تائه بلا اتجاه، لا يتبع القواعد الدولية في سلوكه، ويقل فيه التعاون الدولي، وتفشل التكنولوجيا في توفير الحلول، وتعاني دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من تباطؤ النمو الاقتصادي، وزيادة الانقسامات الاجتماعية، والشلل السياسي.
وتتجه دول عدة، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، لتطوير برامج التحديث العسكري المستقلة والخاصة بها، وستعمل على تطوير أسلحة نووية لمجابهة كوريا الشمالية والصين، وسبب ذلك قلقهم مما إذا كان من الممكن الاعتماد فعلاً على حليفهم الأمريكي. وستستغلُّ الصين مشكلات الغرب لتوسع نفوذها، خاصةً في آسيا، ولكنها تفتقر للرغبة والقدرة العسكرية التي تجعلها تقود العالم، ومع ركود العديد من الاقتصادات النامية، سيتجه بعضها نحو الصين، وسيعاني العديد منها من فشل الدولة، خاصةً في الشرق الأوسط وأفريقيا.
– السيناريو الثالث – تعايش وتنافس: بعد التعافي البطيء من أزمة “كوفيد – 19″، وبعد الحرب التجارية الممتدة بين أمريكا والصين، يصبحُ الطلب الاقتصادي مقيداً وينتشر الإحباط العام بنهاية العشرينيات، وتتخذ دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية – التي يعاد إحياؤها – إجراءات اقتصادية جديدة لتحفيز النمو.
تجتمعُ دول السبع في كندا العام 2031، لتقرَّ خططاً لتحفيز الاقتصاد وتحرير التجارة والاستثمار، وتحسين نُظم الضرائب، وتخفيف القيود التنظيمية، وتدعمها “روسيا ما بعد بوتين” التي عانَت في أعوام انخفاض أسعار النفط، ومعها اقتصادات صاعدة مثل البرازيل والهند.
ولكن الصين لا تنفتحُ على هذا النموذج الاقتصادي، وستلتزم بنظامها المغلق والمُوجَّه من الدولة، ولكنها ستجعل الأولوية للنمو الاقتصادي والتجارة. وستعمل الصين والولايات المتحدة على تقوية علاقاتهما الاقتصادية، ولكن ستتنافسان على النفوذ السياسي والترويج لأنظمة حكمهما، وعلى الهيمنة والتفوق التكنولوجي والإستراتيجي، وبينما ينخفض خطر النزاعات بسبب الاعتماد الاقتصادي المُتبادل بين البلدين، سيبقى التنافس الجيو – سياسي هو التحدي الأمني الأهم.
– السيناريو الرابع – صوامع منفصلة: في بداية ثلاثينيات هذا القرن، ستتجه الدول لزيادة الحواجز وفرض قيود تجارية بينها، لحماية سكانها ومواردها ولخدمة الصناعة المحلية، في ظلِّ تراجع في الوظائف سبَّبته جزئيّاً العولمة، وخلافات تجارية محتدة، وتهديدات “إرهابية” وصحية عابرة للحدود. وفي العام 2040، سينقسم العالم لتكتلات اقتصادية وأمنية متعددة، تختلف حجماً وقوة، وترتكز حول الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي وأمريكا وبعض القوى الإقليمية مثل الهند، وتركز على الاكتفاء الذاتي والمرونة والدفاع العسكري. وستعاني بعض الدول النامية وسط هذه التكتلات، وستكون معرضةً لخطر أن تصبح دولاً فاشلة، ولكن الدول ذات الأسواق المحلية الكبيرة، أو المجاورة لبلدان كبيرة، ستنجح في إعادة توجيه اقتصاداتها.
وتمتدُّ حالة الانغلاق وبناء الحواجز إلى الإنترنت؛ إذ ستبقى الولايات المتحدة وقلة من حلفائها هي الدول الوحيدة التي تحافظ على شكل الإنترنت المفتوح، وستعمل البلدان الباقية من خلف جدران نارية تتحكم فيه. وسيسبب الركود الاقتصادي اختلالاً أمنيّاً واسعاً في إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا، وسيعزز العودة للهويات الإثنية والدينية الفرعية، ما سيُنهك المجتمعات وسيُقسم الدول وينشر الفوضى.
أيضاً، ستصبح الدول الفقيرة أقل استقراراً، خاصةً مع عدم اهتمام الدول الكبرى أو الأمم المتحدة باستعادة النظام، وستصبح النزاعات مستمرةً فيها، ومن ثم ستُفاقِم وضعَ المشكلات الأخرى. وسيزيدُ المهاجرون الهاربون من الفقر والحكومات الضعيفة والظروف البيئية المتدهورة، ولكن آمالهم ستتحطم بسبب منع الدول الآمنة لأغلب أنواع الهجرة.
– السيناريو الخامس – المآسي والتعبئة: في هذا السيناريو، سيقود العالم – العام 2040 – تحالف عالمي تتزعمه دول الاتحاد الأوروبي والصين، ويتعاون مع المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الدولية العائدة للحياة، لعمل تغييرات واسعة المدى لمجابهة التغير المناخي والفقر ونضوب الموارد، وذلك بعد وقوع كارثة غذائية سببها مناخي، بعد تدمير مصائد الأسماك وتراجع محاصيل الحبوب؛ ما سبَّب ارتفاع أسعار الغذاء وانتهى بمجاعة عالمية. وستتواصل الأجيال الشابة التي عاشت جائحة “كورونا” معاً عبر الحدود، وسيلجؤون للمنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني بدلاً من الحكومات التي سترى شعوبها أنها خيبت آمالها.
وتأتي المبادرة الدولية من الاتحاد الأوروبي، بعد نجاح أحزاب الخضر في الفوز بالانتخابات في دول أوروبية عدة بين العالمين 2034 و2036، لتُطلق حملةً داخل الأمم المتحدة لتوسيع برامج الإغاثة بشكل كبير، وتحديد موعد جديد لتحقيق أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة المقررة العام 2050. وستعلن الصين دعمها للاتحاد الأوروبي بسبب تأثرها الشديد من المجاعة، بينما تلحق بها ببطء دول مثل أمريكا وأستراليا بعد أن تحصل الأحزاب المهتمة بالبيئة على سلطة سياسية أكبر.
إقرأ أيضاً: الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة.. يضحك طويلاً من يضحك أخيراً
هذه المبادرة الأوروبية، بالتعاونِ مع الدول المُتقدمة التي ركزت على تحديات القرن العابرة للقوميات، ستُنشئ منظمةً عالمية جديدة تسمى “مجلس الأمن الإنساني”، تسمح بعضوية الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية، وتتطلب عضويتها التزاماً أكيداً بإجراءات تحسين الغذاء والصحة والأمن البيئي، حتى المُكلفة منها للدول والمجموعات الغنية. وسيُفصل أعضاء المنظمة غير الملتزمين، ليواجهوا حركات شعبية مناهضة ودعوات للمقاطعة تشبه تلك التي قامت ضد الفصل العنصري في جنوب إفريقيا؛ وبحلول العام 2038، سيختلف السلوك العالمي تجاه البيئة والأمن البشري بعد الاعتراف المتزايد بفشل الإجراءات السابقة.
ولكن ستبقى بعض الدول معارضةً لهذه الإجراءات، مثل روسيا وبعض دول “أوبك”، التي ترى فيها تهديداً لقيمها التقليدية، وستواجه الدول ذات المصالح القوية في قطاع الطاقة، مثل روسيا والسعودية وإيران ودول الخليج، حركاتٍ سياسية ضدَّ النظام، وتُهدد بنزاعات اجتماعية وسياسية عميقة.
3. وجهات نظر مغايرة للطرح الإستخباري الأمريكي
بعد استعراض السيناريوهات الخمس وفق تقرير الإستخبارات الأميركية، يبدو أن هناك من يتساءل ويحذّر من تجربة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب؛ لا سيما سلوكه الذي شجع العرق الأبيض تحت ستار شعار “أميركا أولاً”. فقد تركت مقالة لروبرت كاغان في صحيفة “واشنطن بوست”، 22 ديسمبر/كانون الأول 2021، بعنوان “أزمتنا الدستورية هنا بالفعل” انطباعاً مميزاً في المقياس التاريخي بما يخالف التقرير المذكور، حيث قال كاغان: “تتجه الولايات المتحدة إلى أكبر أزمة سياسية ودستورية منذ الحرب الأهلية، ولديها فرصة معقولة على مدى الأعوام الثلاث إلى الأربع القادمة من حوادث العنف الجماعي، وانهيار السلطة الفيدرالية، وتقسيم البلاد إلى دول متحاربة. الجيوب الزرقاء. علامات التحذير قد تحجبها انحرافات السياسة والوباء والاقتصاد والأزمات العالمية والتمني والإنكار.”
وكما كان الحال في كثير من الأحيان في البلدان الأخرى حيث ظهر قادة فاشيون، فإن خصومهم المحتملين مشلولون في الارتباك والذهول من هذا الاستبدادي الكاريزمي. لقد اتبعوا النموذج المعياري للاسترضاء، والذي يبدأ دائماً بالاستخفاف. ننسى أن الرئيس الألماني، بول فون هيندنبورغ، اعتقد أنه سيكون قادراً على السيطرة على أدولف هتلر بمجرد أن عينه مستشاراً، العام 1933. ننسى أنه لم يكن هناك “مسيرة إلى روما” لقمصان بينيتو موسوليني السوداء عام 1922 تجمع البلطجية خارج المدينة وكان من الممكن أن يوقفه الجيش. وصل الزعيم الفاشي إلى روما بالقطار ودعاه الملك، فيكتور عمانويل الثالث، لتشكيل حكومة. في وقت لاحق، تم إنشاء أسطورة مسيرة روما. إن قبول الديمقراطيات الليبرالية الغربية لإعادة تسليح ألمانيا معروف جداً لدرجة أنه لا يحتاج إلى التكرار، وقد حول إلى الأبد كلمة مفيدة بخلاف ذلك، وهي الاسترضاء، إلى مفهوم ساخر وكريه.
والملاحظ من التقرير الأمريكي أن البَون سيبقى شاسعاً بين دول الشمال الغنية ودول الجنوب الفقيرة؛ وفي مقاربة مغايرة لنتائج هذا التقرير، يتساءل الكاتب الفرنسي الراحل روجيه غارودي “أن العالم اليوم يعاني 3 مشكلات مستعصية على الحل: مشكلة الجوع ومشكلة البطالة ومشكلة الهجرة. وما دام 3 مليارات كائن بشري من 5 مليارات مفلسة فهل يجوز الكلام عن سوق عالمية؟ أو عن سوق بين الغربيين تناسب حاجاتهم وثقافتهم وتصدِّر إلى العالم الثالث ما يفيض عنهم؟ هل يجب التسليم بفقدان التوازن هذا، والقبول بهذا الواقع الذي يولد صنوف الإستعباد والعنف والقوميات والأصوليات، من دون أن نضع أسس الفوضى الحالية موضع المساءلة؟”
ويضيف المفكر الفرنسي “… وتُطلق ’العولمة’ لا على الحركة التي تُفضي إلى وحدة سمفونية للعالم بمشاركة جميع الثقافات، بل على العكس، تفضي إلى انقسام متزايد بين الشمال والجنوب ناجم عن وحدة امبراطورية مسوية، مدمّرة لتنوّع الحضارات وإسهاماتها، وذلك لفرض ثقافة الطامعين في السيطرة على كوكب الأرض… وبدلاً من اعتبار المنطق الإقتصادي الحالي، منطق ’ماستريخت’ والنقد الموحد واقتصاد السوق، وكأنه القدر، يغدو المطلوب هو القطيعة مع هذا المنطق، أي الإنتقال من منطق المضاربة إلى منطق الإنتاج والإبداع الإنسانيين على مستوى العالم الكلي، لا على مستوى أوروبا التي كانت استعمارية بالأمس فأصبحت اليوم تابعة، لكنها مرابية أبداً باستغلالها لديون عالم جعلته متخلفاً لمصلحة تطورها ذاته وهو تطور فقد انسانيته.”
4. الفضاء.. حلبة الصراع المقبل بين أمريكا والصين
يرتبط سباق الفضاء في الأذهان بالحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي؛ إذ لا تستثمر الدول المليارات عادةً في مثل هذه المساعي إلا بهدف فرض السيطرة وتوسعة النفوذ، ومع تقدم الصين في ذلك المسعى بخطوات ثابتة بإطلاقها أول محطة فضاء دائمة منتصف العام 2021، وبرنامجها الطموح لإرسال مركبات فضاء إلى الكواكب المجاورة، بالإضافة إلى برنامجها لاستكشاف القمر، كل ذلك علاوة على التوتر السياسي الحادث بينها وبين الولايات المتحدة مع إعلان الأولى رغبتها في “استرجاع” تايوان، يصبح الأمر معقداً للغاية بين القوتين العظميين في الفضاء كما هو على الأرض، ويجعلنا نتساءل: هل يقود ذلك سباق الفضاء هذا إلى خيرٍ للبشرية في النهاية؟
حسب الفيزيائي الأمريكي الكبير ميتشيو كاكو، وخلال مناظرةٍ له تحت عنوان: “سباق الفضاء بين الولايات المتحدة والصين خير للبشرية”، فإن الإجابة هي “لا” قطعية؛ إذ يرى أن الفيزياء وعلوم الفضاء كما يمكن استخدامها في الخير، فإنه من الممكن أيضاً استخدامها في الحروب المدمرة بين القوى العظمى، وأن سباق الفضاء يمكنه أن يتحول بسرعة مذهلة، ودون أن ينتبه أحد، إلى سباق تسلح.
ويجادل د. كاكو بأن سباق فضاء بين الولايات المتحدة والصين مثل الذي كان بين الأولى والاتحاد السوفيتي أواخر القرن الماضي لا مفر من أن يتحول إلى سباق تسلح، ما سيقود في النهاية إلى مواجهة نووية، ويكمل د. كاكو حديثه – خلال المناظرة – بأن الولايات المتحدة والصين وروسيا يعملون على تطوير نظام جديد من الصواريخ تفوق سرعته سرعة الصوت بـ 20 مرة، وذلك تحت مظلة استكشاف الفضاء الخارجي ودفع الحضارة إلى مستويات غير مسبوقة.
لكن هذه الصواريخ أيضاً يمكنها أن تحمل رؤوساً نووية قادرة على تدمير العالم في دقائق، وهذه مخاطرة لا يستطيع العالم خوضها دون إقرار معاهدات ملزمة تحد من أي تهور يمكنه أن يقود إلى ما لا تحمد عقباه، وفي ظل التوترات السياسية بين القوى العظمى الرئيسة، تصبح الحاجة إلى تلك المعاهدات ملحة أكثر من أي وقتٍ مضى. فهل يدخل الفضاء كحلبة صراع في تكوين النظام العالمي الجديد؟
في الخلاصة
وكما أشاد سعد محيو بكتاب توفيق البعيني ونيقولا فور، الذي حمل عنوان “شركات متعددة الجنسيات أم منظمات مافيا – عالم الموز”، بالقول “ببساطة أنه جاء في مرحلة هي العالم تحت السلطة المطلقة لمملكة ’الرأسمالة النقية’، المتمثلة بالشركات العملاقة متعددة الجنسيات، والتي باتت تسيطر على كل مناحي الحياة البشرية: من الإقتصاد إلى السياسة، ومن الجامعات إلى مراكز البحوث (وبالتالي من الفكر إلى الثقافة) ومن الإعلام إلى وسائط التواصل الإجماعي، والأهم من تقنيلت الثورة التكنولوجية الثالثة إلى الثورة التكنولوجية الرابعة التي يتربع على عرشها الذكاء الإصطناعي. هي سلطة مطلقة تعج بجيوش جرارة من كل الأصناف، لم يشهد لها التاريخ بشطريه القديم والحديث مثيلاً.”
ويضيف محيو “لا يصل الكاتبان إلى درجة الدعوة إلى احلال عولمة انسانية أو عولمة بديلة عن العولمة التكنو – رأسمالية، كما يطرح يساريو فرنسا والعالم، لكنهما يقتربان من ذلك حين يعلنان بكلمات مجلجلة: ما لم تدخل تغييرات عميقة على الأوضاع الراهنة، ستفرض على الإنسان لوحة مرعبة للعالم، عالم حيث الحياة كما نعرفها ستكون قصراً على حفنة قليلة تختارها الشركات متعددة الجنسيات، ويكون في تصرفها خدم بلا أمل ولا ذاكرة.”
ولكن…
1. إن ما جعل الولايات المتحدة قطباً عالمياً ليس السلاح الأمريكي ولا “وول ستريت” فحسب، بل منتجات أخرى تعولمت مثل “هوليوود”، ومنابر الإعلام والفن، واللغة الإنجليزية، والانفتاح الأمريكي على المهاجرين من أصحاب الكفاءات العلمية، ومنحهم الجنسية الأمريكية، والجامعات العريقة ذات الإمكانات الهائلة، بالإضافة إلى الديمقراطية والحرية الإعلامية، كلها عوامل لا تزال الصين مفتقرة لها.
2. هل ثمة بعد، في عصر التكنولوجية الرابعة والعولمة التكنو – رأسملية، مجال لنهوض الإمبراطوريات الجيو – سياسية المتلبسة الرداء الروحي – الحضاري؟ صحيح أن النزاعات الجيو – سياسية لا تزال تجري على قدم وساق في العالم، من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط مروراً بمناطق آسيا/الباسيفيك، لكن يبدو على نحو متزايد أن هذه الصراعات أشبه بحالة النزاع الأخير التي انتابت على مدار التاريخ البشري كل النظم العالمية السابقة. أجل، قد تكون أوكرانيا مهمة للغاية، تايوان مهمة للغاية، شرق المتوسط بغازه ونفطه وإرثه الحضاري مهم للغاية، لكن ما سيحسم طبيعة النظام العالمي الجديد، خاصة بين الصين وأميركا، ليس كل هذه “العجقة” الجيو – سياسية العارمة (والتقليدية) بل السباق على الذكاء العام الإصطناعي – GAI، والكومبيوتر الكمي، وآلات التعلم الذاتي، والبيولوجيا التركيبية، وباقي تركيبات الثورة الرابعة الإثني عشر.
3. العالم الجديد الذي يتشكل الآن لا تحركه لا الجيو – سياسة وليس الإيديولوجيات والفلسفات، ولا حتى الإقتصاد، بل التكنولوجيا وبشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ. درة تاج هذه التكنولوجيا سيكون الذكاء الإصطناعي الذي سيغير كل مناحي الحياة البشرية والتاريخ البشري والهوية البشرية برمتها. لا بل قد يحيل إلى رفوف التقاعد والنسيان كل الفلسفات التي صنعها عقل الإنسان من 7 آلاف عام، ويطرح مكانها رؤية جديدة للحقيقة والواقع، كان كانط قد حسم امرها حين قرر أن العقل الشري غير قادر على الإمساك بكنهها ولا بمعرفة “الشيء في ذاته”. الذكاء الإصطناعي، ولأنه يمتلك منطقاً مغايراً للمنطق البشري، سيكون على الأرجح قادراً على ذلك.
يجب أن لا ننسى، أخيراً، أن هناك الآن بالفعل امبراطورية عالمية هي التي تحكم سعيداً كل العالم سواء مباشرة أو يشكل غير مباشر، بما في ذلك أميركا وكل الغرب ومعه الصين واليابان والهند؛ إنها امبراطورية العولمة التي أبدع تيغري ووهارت في تحديد طبيعتها وتركيبتها قائلاً “من أراد تحدي هذه السلطة العارمة، التي تحوم كالشبح فوق العالم المادي وكالأخطبوط فوق العالم الإفتراضي الناشئ، سيجد نفسه أشبه بفارس وحيد يحاصر قلعة محصنة، وبالطبع يجب عليه أن يدفع الثمن باهظاً تهميشاً واقصاءً وربما ما هو أكثر من ذلك.”
نصدر الصور: دايلي صباح – روسيا اليوم – مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.
العميد م. ناجي ملاعب
باحث في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري / عضو الهيئة العلمية لمجلة الدراسات الأمنية – لبنان.