العميد م. ناجي ملاعب*

إن النظرة الموضوعية لتوظيف جغرافية لبنان في تحقيق أمنه القومي لا بد وأن تُقرن مع مجاله الحيوي، ألا وهو بعده القومي العربي. فهذا البعد يمثل بالنسبة لدولة صغيرة المساحة ومتواضعة الموارد كلبنان، الرئة المصلحية والعمق الإستراتيجي، والذي من خلاله يمكن له أن يستثمر طاقاته البشرية وإمكانياته الثقافية-الفكرية الوقادة في الآفاق العربية الرحبة المشبعة بالإرث الحضاري والثروات الطبيعية والفرص الاستثمارية، ويستثمر جغرافيته المميزة.

لعنة الجغرافيا؟!

العناصر المكونة للدولة هي: التجمع البشري – الأمة، ثانياً الإقليم، ثالثاً: السلطة، رابعاً: النظام الإجتماعي. التجمع البشري اللبناني لا يصل الى مستوى الأمة لكنه صلب لم يتغير رغم التداخل مع المحيط نتيجة العوامل الطبيعية (الكوارث والأمراض الجرثومية و…) أو السياسة (الغزوات، النزوح…)، وما زلنا نتغنى بأرض الأجداد (فينيقيا، أو أرض الكنعانيين..) ومن المسلمات أن اللغة شكلت عاملا قوياً للثقافة وعممت وما تزال حضارة عربية ارتبط بها لبنان وكتب بها تاريخه.

والإقليم هو الثابت الوحيد في جغرافية الوطن، وفي هذا العامل يمتاز لبنان بموقعه الجغرافي. فقد شكل مرفأ صيدا اول منافذ التصدير السوري الى العالم خلال الحقبة الفينيقية، وبعدها مرفأ صور حيث ينقل لنا المؤرخون أن بحارة صور كانوا ينقلون البضائع السورية والعراقية الى مصر وبلاد الإغريق وأوروبا. وقد شكل مرفأ بيروت – الذي لا يضاهي عمق مياهه وقدرته على إستيعاب البواخر الكبرى اي مرفأ آخر على الساحل اللبناني والسوري والفلسطيني – 11% من مجمل التجارة العثمانية في مطلع القرن العشرين. وهذا يعني أن لبنان وجه سوريا الى البحر والعالم وان سوريا عمق لبنان الى الشرق والشمال.

من هنا، تأتي أهمية العاملين اللاحقين: السلطة والنظام الإجتماعي. فللجغرافيا دور إيجابي للكيان اللبناني وليست أبدا لعنة. وإذا ما أحسن اللبنانيون ممارسة السلطة وحافظوا على النظام الإجتماعي الذي رسخوا مبادئه وكانت ملاذاً في الأزمات، واذا انعتقوا من سياسة المحاور، سوف يعود لبنان الى سابق عهده صلة وصل بين الحضارة الغربية والشرق.

النظريات والخصوصية

الجغرافيا السياسية أو الجيوبولتيك هي مصطلح مركب من قطعتين يقصد به “علم سياسة الأرض” وهي ثمرة الدمج بين علمي الجغرافيا والسياسة. نشأ هذا العلم الهام في الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وارتقى الى مصاف العلوم العسكرية والسياسية الرفيعة في الحرب العالمية الثانية. ولهذا العلم العديد من المدارس والنظريات، وقد تطور تطورا هائلا بدخول القرن الحادي والعشرين. والجيوبولتيكا لا تضع الجغرافيا وحقائقها فقط في خدمة حركة ونشاط الدولة السياسي، فالجغرافيا تبقى عنصراً هاما من عناصر القوة في بناء الدولة السياسي، بالإضافة الى باقي المقومات الديمغرافية والطبيعية والعسكرية.

الانطلاقة الحقيقية لهذا العلم بمنهجياته ومحدداته الأساسية تعود إلى الألماني فردريك راتزل (1844-1904) الذي يرجع إليه الفضل في كتابة أول مؤلف في الجيوبوليتكا يحمل عنوان “الجغرافيا السياسية” في عام 1897 ومن نظرياته “الروابط القوية بين القوى القارية والقوى السياسية من خلال نظرية النشوء والارتقاء”. والمفاهيم الثلاثة الأخرى الأكثر انتشاراً حول النظرية الاستراتيجيه للدولة، هي نظرية رودولف كيلن ( 1868-1922): القوة أهم من القانون؛ نظرية كارل هوسهوفر(1869-1946): الدولة الكبيرة لان الدولة الصغيرة مصيرها الزوال؛ نظرية هالفورد ماكيندر(1861- 1947): نظرية “أوراسيا” قلب العالم – من يحكم أوراسيا يحكم العالم.

قبل أن نستنتج أي من النظريات تلائم لبنان – الدولة، ينبغي الإلمام ببعض القواعد التي تمثل “مبادئ إجرائية” تتألف من مجموعة من الفروض الجغرافية السياسية التي تنطلق منها الدولة في صياغة سياستها الخارجية وبناء علاقاتها الدولية. وهذه القواعد تتضمن: تحديد مصالح الدولة، وتحديد مصادر التهديد التي تتعرض لها تلك المصالح، من ثم مخطط الرد لمواجهة التهديدات المزعزمة، إن وقعت. وبالتالي بيان المبررات التي تقدم الاتخاذ مثل هذا الرد.

وهنا يبدو أن النظرية التي يستطيع لبنان اعتمادها، برأيي، هي نظرية كارل هوسهوفر صاحب المدرسة التي جهزت الفكر الألماني بنظرية “عضوية الدولة وضرورة زحزحة حدودها لتشمل أراضي تتناسب مع متطلباتها الجغرافية وتحقق ضم الأراضي التي يقطنها الجنس الآري”. والمقصود هنا فقط التخطيط لدور تكاملي يضمن للبنان عبر إنخراطه في منظومة تكاملية في الإقليم الذي يسميه الغرب The Levent أو الشرق الأوسط، مواجهة المخاطر التي تتهدد مصالحه الخارجية، حيث يستطيع الإقليم، من خلال هذا الدور، تحقيق مدى حيوي للموارد وللعنصر البشري المتجانس منذ ما قبل التاريخ ليكون بديلاً قويماً للتصارع العقيم بين القوميات أو الإثنيات أو الأديان أو المذاهب.

في تأثير مجتمع “التكنوشبكي” والتفاعلات الدولية على لبنان، في مجتمع العولمة الإقتصادية، والتي لم تتأخر لتصبح عولمة تكنولوجية، امام التطور الهائل في وسائل اتصال وشبك المعلومات خاض الشباب العربي ظاهرة “ثورات الربيع” (العربي)، التي وصف الأميركي فرانسيس فوكوياما، صاحب نظرية نهاية التاريخ، إحداها (مصر) بأنها “انتفاضة شبان يافعين وغاضبين من الطبقة الوسطى، استخدموا فايس بوك وتويتر لتنظيم احتجاجاتهم، ولكشف فظائع النظام، وحشد الدعم لمصر ديمقراطية”.

التجسيد الرئيس لهذه الحقيقة تمثل في بروز مايسميه جورغان هابرماس – Jurgen Habermas المجال أو الحقل العام، الذي هو كناية عن شبكة اتصالات يستطيع الأفراد من خلالها بلورة وطرح حاجاتهم الاجتماعية، فيقود ذلك في نهاية المطاف إلى تشكُّل رأي عام واسع ينتقد بشكل عام السلطات القائمة سواء أكانت دينية أو مدنية أو عسكرية.

فثورة الشباب، الذين هم الأغلبية العددية الساحقة في المجتمعات العربية، بفضل المجتمع التكنوشبكي، كشفت عن نبض جديد يعكس التحولات الضمنية الكبرى التي جرت في المنطقة، قوامها الرئيس ولادة ما أسماه عن حق زبغنيو بريجنسكي، مستشار سابق للأمن القومي الأميركي، “ثورة الشارع السياسي” العربي.

لم يكن لبنان بمنأى عما يحصل في جواره، ولو جاء حراكه متأخراً. وما رأيناه من تداعيات على واقع ثورات الربيع لا يوحي بثقة الوصول الى خواتيم يشتهيها دعاة الحرية والكرامة، ولكن لا عودة الى الوراء امام اصرار شباب لبنان على خوض معركة الإصلاح سيما وأن كل الوعود من زعماء طوائف واقطاع سياسي مالي ناهب للمال العام سقطت ولم تعد تجدِ نفعاً.

الفرص والتحديات

إن التحديات التي تتحكم بلبنان قوية وما زالت تصاعدية في ظل عوامل ثلاث: الأول داخلي متمثل بسلطة هجينة من تعاون راس المال مع الإقطاع السياسي والسلطة الدينية أسموها “ديمقراطية توافقية” ولم تكن سوى توافق على النهب المنظم وتعميم الفساد أوصل البلاد الى الإفلاس. والعامل الثاني إقليمي، ويتلخص بوقوعه في منطقة جغرافية يتنازع عليها دول إقليمية ثلاث ذوي أطماع لم نعرف حدودها حتى اليوم، وهي تركيا وإيران واسرائيل. والعامل الثالث دولي مرتبط بتداعيات حل المسألة الفلسطينية على طريقة صفقة القرن والتي تنصبّ الجهود الأميركية منفردة على تنفيذها على حساب كافة دول الإقليم ومنها لبنان.

كل ذلك فيما ينخرط فريق أساسي في البلد في محور خارجي من دون اجماع اللبنانيين، ويرسل عناصره للقتال في ساحات عربية ويستحضر الأسلحة عبر معابر غير شرعية يسيطر عليها، وبطريقة ما يبني دويلة داخل الدولة، ويتصدى لرفع شعار الثورة أو التعبير عن الرأي عنوة من دون اي اعتبار لسلطة الدولة.

الفرص موجودة ويلزمها النية بالتغيير. لقد نجحت السلطة، وهي التمغير الثالث في بناء الدولة – الأمة، حتى الأمس القريب، في العبور بلبنان الى بر الأمان عندما حاقت به المخاطر في مراحل نشوئه كدولة، ونحن اليوم في ذكرى مئوية لبنان الكبير. ولكن في بعض الأزمات، عندما “غدرت” السلطة بالنظام الإجتماعي للدولة وانحازت، رغماً عن بعض معظم مكونات المجتمع، الى الخارج – أياً كان هذا الخارج – فإنها تغامر بالسيادة، وتعود سياستها الخارجية الى الداخل وبالاً وصراعاً يرهن الوطن الى من “يدعي” انقاذه. وليس الحل ولن يكون بسياسة “النأي بالنفس” في ظل عدو يتربص بحدودنا الجنوبية، وفي انتشار مرعب للعولمة الإقتصادية، والهيمنة القطبية من دولة واحدة.

إن النظرة الموضوعية لتوظيف جغرافية لبنان في تحقيق أمنه القومي لا بد وأن تُقرن مع مجاله الحيوي، ألا وهو بعده القومي العربي. فهذا البعد يمثّل بالنسبة لدولة صغيرة المساحة ومتواضعة الموارد كلبنان، الرئة المصلحية والعمق الإستراتيجي، والذي من خلاله يمكن له أن يستثمر طاقاته البشرية وإمكانياته الثقافية-الفكرية الوقادة في الآفاق العربية الرحبة المشبعة بالإرث الحضاري والثروات الطبيعية والفرص الإستثمارية، ويستثمر جغرافيته المميزة.

لبنان والجغرافيا السياسية

امتلاك الجغرافيا تطورت وسائله من نظرية ماكيندر التي تعتبر السيطرة البرية على قلب العالم “الأوراسيا”، اصطلاح “قلب العالم” الذي يمتد من نهر الفلغا غرباً إلى شرق سيبيريا، ومن المحيط المتجمد الشمالي إلى هضاب إيران وأفغانستان وبولوجستان في الجنوب، هو السيطرة على العالم من نظريات السيطرة البحرية من ثم السيطرة الجوية وصولاً الى العولمة المعلوماتية والتكنوشبكية، وأصبح عالم الفضاء مجالاً جديداً للغزو بعد تبني الكونغرس الأميركي انشاء قوة الفضاء غير المرتبطة بسلاح الجو بل بقيادة الأركان مباشرة.

أما عن لبنان فلم تكن يوما الجغرافيا لعنة ما لم تتعرض أرضه ودولته الى التوظيف في أحلام وطموحات القوى العظمى لتمتد هيمنتها عملاً بمبدأ هوسهوفر. ولا يمكن للبنان أن ينجو من تلك الطموحات سوى بالشبك التكاملي مع مكونات الإقليم، الشرق الأوسط.

أ – التحديات المباشرة

– العقوبات الأميركية الشديدة على إيران وأذرعها بما فيها التطورات العسكرية المتخذة من واشنطن على إيران وميليشياتها.
– تصنيف حزب الله بصفة إرهابية من قبل أميركا وبعض دول الخليج والإجراءات الصارمة بحق قياداته في لبنان والخارج.
– اطماع العدو الإسرائيلي في المياه وفي الثروة النفطية على الساحل في جنوب لبنان، مع قابلية تطور الوضع الى نسف قواعد الإشتباك التي ينعم بظلها لبنان من خلال دور ايجابي لقوات اليونيفيل.
– الأزمة السورية وتدخل حزب الله فيها واكتسابه المهارات والتقنيات الحديثة كتسيير الدرون المسلحة إلى جانب سيطرته على مدن وساحات في الداخل السوري وعلى الحدود اللبنانية مكنته من التدرب المستمر ما يجعله في موازاة الجيوش النظامية.

ب – التحديات غير المباشرة

عودة الحضور الروسي إلى المتوسط عبر البوابة السورية، وفيه نوعان من المخاطر:

– الإلتزام الروسي بأمن إسرائيل ما يسمح للطيران والمدفعية باستباحة الجو واستهداف الأراضي السورية كافة ما قد يتطور الى ضوء أخضر مماثل في لبنان، سيما وأن التصاريح الإسرائيلية التصاعدية بحق حزب الله تشي بهكذا احتمالية.
– العلاقات الروسية التركية المتطورة ومباشرة مد خط الغاز الروسي عبر البوسفور الى أوروبا عبر الأراضي التركية وما يمكن أن يمتد الطموح الروسي التركي بالتحكم بمسار خطوط غاز الساحل السوري واللبناني في ظل تصميم أميركي على اشراك لبنان في الكونسوتيوم المصري.

سوابق تاريخية

شكلت آخر ضربات معاول العمال المصريين في أعماق قناة السويس عام 1869 مفارقة تاريخية على مستوى الأمن الوطني المصري والأمن القومي العربي والأمن الدولي. ففي حين مثّل شقّ القناة هبة اقتصادية جيوسياسية استراتيجية لمصر والوطن العربي والعالم بتوفير طريق بحري للملاحة البحرية العالمية بين الشرق والغرب، فقد كان المشروع بمثابة إستثمار كارثي بسبب شروطه التعاقدية المجحفة في ذلك الوقت، بما في ذلك غياب أي حرصٍ من الطبقة السياسية المصرية الحاكمة آنذاك على حماية السيادة المصرية على القناة، وصيانة المكتسبات الإقتصادية والتنموية المصرية، وحفظ حقوق الشعب المصري الذي شق القناة بسواعده، وتأكيد اكتساب التكنولوجيا أو التعاقد من الباطن مع أطراف محلية. وقد استُخدم المشروع كأداة رئيسية في تفويض القوى الإستعمارية للأمن الوطني المصري والقومي العربي لعقود طويلة.

نعمة الموقع الجغرافي حوّلت الثروة الوطنية في بلدٍ متخلف سياسياً وتنموياً واقتصادياً إلى نقمة، فكانت أداة لارتهان أمنه الوطني الى أخطبوط استعماري رهيب. وعندما تسنى لمصر ضباطاً وطنيين أحرار لإصلاح الوضع جاء القرار الجريء بتأميم قناة السويس، ما أرعب الإستعمار وأفشل خططه، فكان أن تعرضت مصر، خلال عام من التأميم، للعدوان الثلاثي عام 1956 (بريطاني وفرنسا واسرائيل) والذي فشل في تحقيق أهدافه، وأعاد الثروة الوطنية الى نصابها. ‏

هذا أنموذج لتجربة مصر في تحويل لعنة الجغرافيا إلى نعمة، في ظل سلطة مرتهنة للخارج وسلطة ذات سيادة.

*خبير أمني واستراتيجي – باحث أول في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري “إينغما”.

**المصدر: موقع الأمن والدفاع العربي (مقابلة بتاريخ 7/6/2020) – مرسل من الكاتب.

مصدر الصور: اليونيفل – إندبندنت عربية – ميدل إيست أونلاين.

موضوع ذا صلة: لبنان دولة بترولية على مشارف المئوية الثانية: الإمكانيات والإنجازات والمعوقات (1/2)