في ظل الأزمات الحالية التي يعاني منها بلدنا – وليس القضاء ببعيد عنها، وفي ظل التلهي السياسي لرجالات السلطة بمماحكات عطلت تنفيذ القوانين وأوصلت الإدارات الرسمية إلى حالة مأساوية لم تنفع معها الإضرابات الجزئية أو التعطيل الكامل، وفي ظل سلطة مستقيلة من دورها تبحث عن كيفية قبول صندوق النقد الدولي إلتماساتها للحصول على مديونية جديدة، بدلاً من تحرير القضاء كسلطة محاسبة، والإعتراف له باستقالية ناجزة، وفق الممارسة الديمقراطية، حتى “ينظف” البلد من الفاسدين؛ هل يكون التفتيش عن “خيمة عرب” يمارس فيها مشايخ بدو تبيان الحقوق بطريقة “حكم البشعة” بديلاً؟
البشعة أو “بِشْعَة النار” هي محكمة عرفية قائمة منذ زمن بعيد، لجأ إليها المصريون والعرب للفصل في قضاياهم الخلافية بعيداً عن الجهات الأمنية، واستمدت اسمها من “بشاعة” المحاكمة، حيث يتم تقريب قطعة حديد متوهّجة، بعد وضعها في النار لساعة ونصف كاملة، من وجه المتهم ليلعقها بلسانه، فإذا كان بريئاً لن يشعر بألم، وإذا كان مذنباً ستحرق النار لسانه.
في فيلم “البيضة والحجر” للفنان المصري الراحل أحمد زكي، في ثمانينات القرن الماضي، ظهر مشهد ملفت عن زوج يريد معرفة من المذنبة من زوجاته الأربعة وقامت بسرقته، ولكن في هذا المشهد الذي قام الفنان أحمد زكي بتمثيله عن طريق تسخين سكين وتمريرها على لسانه، طالباً من الزوجات الأربعة أن تقوم كل زوجة بتمرير السكين على لسانها وإذا كانت بريئة ستنجو، أم إذا كانت مذنبة ستقوم السكين بقطع لسانها، وبالفعل قامت إحدى الزوجات بتلك العملية لأنها صادقة بينما انفعلت المتهمة وأعترفت بأنها هي السارقة، وذلك من الرعب الذي تسببت فيه البشعة لها.
ولم يكن هذا “الشرع” لبيقى في السينما، فبالرغم من التقدم التكنولوجي الذي شهدته المجتمعات العربية، وارتفاع معدلات الكشف عن الجريمة بالطرق الحديثة، إلا أن البعض لا يزال يلجأ إلى طرق قديمة تعد من ضروب السحر والشعوذة. وما يدعونا الكتابة عن هذا الإحتكام، أن هناك مترددين على البِشْعَة ليسوا فقط من رجالات القبائل أو البدو، بل فيهم من الطبقات الغنية، منهم مثقفون ومشاهير طبقا للمحاضر المسجلة لدى الشيوخ في مصر.
وقائع حية عن اكتشاف السارق من بين الأخوة
المثال الأقرب الذي دونته كاتبة في صحيفة العرب، أن شابان مصريان تجاوز عمرهما الـ 30 عاماً لم يجدا مفراً من مواجهة النار بلسانهما والاحتكام للبِشْعَة لإثبات براءتهما من تهمة سرقة 15 ألف جنيه من منزل الأخ الأكبر لهما، بينما رفض الثالث المجيء. وفي الصباح الباكر، ذهبا بصحبة أخيهما الذي سُرق منه المبلغ المالي قاصدين قرية سرابيوم بمحافظة الإسماعيلية – شرق القاهرة، المكان الأشهر وسط الكثير من القبائل في مصر وغيرها من الدول العربية، ومعروفة بوجود مشايخ بدوية يمارسون البِشْعَة.
إقرأ أيضاً: الفساد نظام ممنهج في لبنان.. بين الطوائف والهوية؟
تروي الكاتبة التي حضرت جلسة البِشْعَة منذ قدوم الأشخاص وحتى صدور الحكم، أن هذه المشاهدة جاءت بعد موافقة صعبة من المُبَشَعْ (القاضي العرفي المسؤول عن البِشْعَة) الشيخ محمد سليمان العيّاد البالغ من العمر 44 عاماً، والذي يعمل في هذه المهنة منذ أن ورث طلاسمها (كلمات وأدعية مجهولة) عن أبيه قبل 12 عاماً.
وتقول أن المحاكمة بدأت بـ “التمتمة” بكلمات غير مفهومة، ثم قام المبشع بضرب الطاسة بيده ليؤكد أن النار لا تضر بريئاً، ليبدأ بعملية كي اللسان، فمن كان بريئاً لا يصاب بمكروه، ومن كان مذنباً يكتوي بنار “الطاسة”. يحتوي المكان على دَور واحد أبيض الدهانات مكتوب عليه من الخارج بخط اليد وبلون أحمر “هنا البِشْعَة العرفية”، ومن الداخل كانت حجرة كبيرة جدا تتسع لـ 60 فرداً ملحقة بالبيت الرئيسي للمُبَشَعْ.
وقبل بدء الجلسة، حاول المُبَشَعْ الوصول إلى اتفاق بين الإخوة بالتراجع والاعتراف، لكنهم أصروا على إجراء الاختبار ليثبتوا لأخيهما عدم سرقته. وكان هناك شخص مهمته تنظيم دخول الأشخاص والتوجيه إلى الأماكن المخصصة وتقديم واجب الضيافة.
جلس الجميع على الأرض وقام “كاتب الجلسة” بتدوين أسماء أصحاب القضية، الأخوين المُدَّعَى عليهما، والأخ الثالث المُدَّعِي، ونوع التهمة – السرقة في سجل خاص بالمُبَشَعْ. ثم جمع توقيعات بالموافقة على الحكم، وأن المُبشَع غير مسؤول عن الضرر الذي يصيب الكاذب، وأخذ بصمات أيديهم وجلس ينتظر الحكم النهائي ليسجله. ووضع الشيخ سليمان وسط ألسنة لهب قطعة حديدية طويلة في نهاية طرفها جزء حديدي آخر على شكل دائرة يعرف بـ “الطاسة” أسود اللون يبلغ قطره حوالي 25 سم.
نادى المُبشَعْ على الأخ الأول بعد احمرار الطاسة وقرأ التهمة المنسوبة إليه، ثم سادت حالة من الترقب والصمت لم تقطعها سوى دقات قلوب متسارعة من الموقف عندما رفع الشيخ سليمان البِشْعَة المشتعلة، وعيناه على الأخوين مراقبا تغيّرات وجهيهما، محذراً من خطورة تعرض لسانهما للحرق إذا كانا كاذبين.
مرت الدقائق كالساعات بعد طلب المُبشَع من المتهم الأول إخراج لسانه خارج فمه ليتأكد من خلوه من أي إصابات، وأن يغسله ثلاث مرات بالماء حتى يكون نظيفاً. وتمتم الشيخ سليمان بكلمات لم يفهمها أحد، وقام بضرب الطاسة بيده، ليؤكد أن النار لا تضر بريئاً، وبعدها طلب من المتهم الأول مد لسانه وقام بوضع البِشْعَة عليه بسرعة وإتقان وتمرّس، ثلاث مرات ثم صرخ في وجهه بأن يقفل فمه وألا يحرك لسانه، وكرر ذلك مع الأخ الآخر.
لاحظت الكاتبة أنه بالرغم من شدة سخونة النار وارتفاع درجة حرارة “الطاسة”، إلا أن الأخوين لم يظهر عليهما ألم. وجاءت لحظة الفصل التي ينتظرها الجميع ومضت نحو 6 دقائق ثقيلة على المتواجدين، بعدها طلب المُبشَع من المتهمين أن يخرج كل منهما لسانه بشكل واضح، لكي يتأكد إذا ما كانت النار قد تركت أثراً أم لا، وعندما لم يجد شيئاً أعلن بصوت عال براءة كليهما.
مهنة طلاسم يتوارثها الأبناء عن الآباء
هذه الظاهرة تبدو غريبة، وقد أرجع أستاذ في الطب النفسي الموضوع، إلى عوامل نفسية تتحكم في الشخص الذي يتعرض لتجربة البِشعَة، وفسر للكاتبة أن خوف المذنب وارتباكه سيؤديان إلى جففان لعابه، وبما أن اللعاب يساعد على امتصاص الحرارة ويخففها، فإن البِشْعَة لا تضر بريئاً، فلعابه يحول دون ذلك، لكن إذا لامست الطاسة الساخنة لسان المذنب الجاف التصقت به وأحدثت بثوراً.
يرى أستاذ الطب النفسي أنه لا يجب التعويل على تلك النظرية، لأن الخوف وجفاف اللعاب قد يكونان من طبائع بعض البشر، فكيمياء الجسم تتغير بمجرد توجيه الاتهام للشخص دون أن يكون مذنباً.
أكد المُبشَع الشيخ سليمان – في المقابلة – أن النار تصيب لسان المتهم إذا كان يكذب بعد قراءته لطلاسم معيّنة، زعم أن والده قالها له وهو على فراش الموت، حتى لا يخرج سرّها عن عائلتهم، وهي – في ظره – أمانة في رقبته لإظهار الحق وتحمل ثقة المظلومين به، وأغلبية المدانين تعترف عندما تشاهد ألسنة اللهب.
“البشعة” محكمة قائمة بذاتها
للقضاء العرفي قوانين خاصة تختلف عن قوانين الدولة، فهو يعتمد في أحكامه على العرف والعادات والتقاليد، ويلجأ إليه بعض المصريين – مثل البدو والجماعات التي لا تصل إليها قوانين الدولة – لسرعته في إصدار الأحكام، بعكس القضاء الرسمي، و”رغم رجعيته وأخطائه التي لا يختلف عليها عاقلان”.
كل القضايا مسجلة لدى المبشع في دفاتر وهي تتنوع بين السرقة والتحرش، وزنا المحارم والسحر، وأن محكمة البِشْعَة يأتيها الناس من أماكن مختلفة، فيما تتنوع أوساطهم ومستوياتهم الاجتماعية، والجميع متساوون، أغنياء كانوا أم فقراء، مثقفون أم بسطاء.
وهناك جانب إنساني لا يستطيع الشيخ سليمان تجاهله، وهو أنه لا يفضح امرأة زانية، إذا اعترفت له قبل بدء الجلسة، لعدم هدم الأسرة طالباً منها التوبة والرجوع إلى الله، ويحول دون لمس البِشْعَة للسانها. ومن يعترف له بالسرقة، وأنه أخطأ ويريد التوبة، يعطيه مهلة لإرجاع المسروق ويأخذ عليه إقرارًا لا يعرف سره أحد غيره، وإن لم يصدق السارق قام بفضحه وأفشى سره.
تبدأ تكلفة الجلسة من 400 جنيه للشخص الواحد (حوالي 40 دولاراً)، بالإضافة إلى 300 جنيه (نحو 30 دولاراً) للطقوس والاستضافة، وأحيانا تصل التكلفة إلى 10 آلاف جنيه (ألف دولار) في قضايا السرقة.
إقرأ أيضاً: الأزمة اللبنانية بين أزمتين: الاقتصاد والتنافس الإقليمي
منذ شهرين، سرق عامل في شركة كبيرة للسبائك النحاسية، كمية تجاوز سعرها 300 ألف جنيه (30 ألف دولار) واختارت الشركة أن تحتكم إلى بِشْعَة الشيخ سليمان لمعرفة السارق.
لفت المُبشَع إلى أن هناك أشخاصاً يتناولون مواد مخدرة معتقدين أنهم لن يشعروا بالنار، وهناك من يلجأ إلى السحر أو الشعوذة ليحول بينه وبينها، لكنهم مخطئون، فالنار تبطل كل أعمال السحر والمخدرات وتظهر المدان.
مهنة طلاسم لها فاعليتها لدى قبائل معينة
احتضنت قرية سرابيوم، التي تبعد عن محافظة الإسماعيلية بنحو 32 كلم جنوباً، تلك المهنة منذ أكثر من 120 عاماً، حيث توارثها أبناء العائلات التي تنتمي إلى أصول عربية في القرية عن آبائهم وأجدادهم، ولا يتعدى عدد القائمين على البشعة 35 شخصاً.
وأكد محمد سعيد، مدرس تاريخ ومقيم بالقرية، أن البِشْعَة محكمة عرفية يرجع أصلها إلى شبة الجزيرة العربية، وكانت هناك ثلاث بشْعَ رئيسية، “بِشْعَة العيادي”، وهي محصورة في قبيلة العيايدة بسيناء، ومقرها اليوم أصبح سرابيوم بمحافظة الإسماعيلية، و”بِشْعَة الدِّبِر” في العقبة بالأردن، اندثرت بعد بموت آخر مُبشَع في العام 1976، و”بِشْعَة العلى” في شمال غرب السعودية، وقد اختفت تماماً. وأضاف، أن قبيلة العيايدة هي الوحيدة المختصة فيها حتى الآن بالوراثة منذ القدم، ولا يستطيع أحد خارج أبنائها أن يكون مُبشعاً لأن لها أسراراً وطلاسم لا تفشى لأحد غيرهم.
أيضاً، يجب أن تتوفر في المُبشَع صفات متعددة أبرزها التقوى والصدق والفراسة قبل كل شيء لتساعده على اكتشاف الكاذب. وقال البعض من أهالي القرية إنه تتوافد على مُبشَع سرابيوم عائلات من دول عربية مختلفة، ومحافظات مصرية عديدة في فترة النهار، لكنهم يكثرون ليلاً حتى لا يتعرف عليهم أحد. وكشف الشيخ سليمان أنهم يعملون تحت أعين الحكومة ويخبرونها بهوية القادمين خوفاً من حدوث معارك واختلافات على حكم البِشْعَة بين طرفي القضية.
موقف السلطة والشرع
مصدر أمني قابلته الكاتبة صرح أن الشرطة المصرية لا تعترض على البشعة، طالما أن المتنازعين ارتضيا بالحكم، ونجحت بالفعل في فض نزاعات أسرية ذات طابع حساس. لكنّ مصدراً آخر داخل مديرية أمن الإسماعيلية، نفى ما يتم تداوله بشأن التنسيق الأمني مع المُبشّعين، مؤكداً أن جميع القضايا تأخذ مسارها وإجراءاتها بصورة قانونية، وحذّر من وجود محتالين يستغلون حاجة وجهل الناس، وأن قوات الأمن قامت بالقبض على عدد كبير منهم بعد تقدّم سيدة ببلاغ ضد أحد المُبشَعين اعترفت له بالزنا، فساومها على عدم فضح أمرها.
وبسؤال أحد الأشخاص الذين قاموا بتلك العملية، قال أنه تعرض للاتهام بالسرقة في منزل عمه ولم يصدقه أي من أقربائه، واقترح أكثر من فرد علي أن يقوم بعمل البشعة، “وبالفعل قمت بها وأظهر الله برائتي وبعدها لم اسكن في بيتناً مرة أخرى لأنهم قبلوا أن أضع في مثل تلك التهمة بل واتعرض لهذا العذاب النفسي قبل الجسدي فهي رعب رهيب ولكن كان الله معي لأنني كنت بريء.”
في هذا الخصوص، أكد أحد الأئمة بهيئة الأوقاف المصرية لدى استيضاحه، أن البِشْعَة تقليد بال عفى عليه الزمن ولا يمت بصلة لشرع الله الذي نهى عن إيذاء المسلم لغيره أو لنفسه، فجسده أمانة لديه لا يجوز له تعذيبه بتعريض جزء منه إلى النار، وتعد من السحر والشعوذة نظرا إلى إدعاء المُبشَع كشف الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله.
فهل يعيدنا هل السلطة في لبنان إلى حكم البشعة.
مصدر الصور: stringfixer – النهار.
العميد م. ناجي ملاعب
باحث في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري / عضو الهيئة العلمية لمجلة الدراسات الأمنية – لبنان.