قصة النبي موسى عامرة بالعبر، وتحتاج قراءتها في 8 من سور القرآن الكريم ثقافة سياسية واسعة، ذلك أن هذه القصة يقتبس منها المطففون والكاذبون.

ونلخص هذه التأملات فى الملاحظات الآتية:

أولاً: لم يكن فرعون إلهاً، إنما كان يدّعي الإلوهية السياسية بدليل قوله تعالى في أول تكليف لموسى “إذهب لفرعون إنه طغى وقل له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى”. لكن المصريين عبدوا فرعون عبادة حقيقة لأنه كان يتمتع بمواصفات الإله في ذلك الزمن؛ ولو تمتع بها حاكم الآن، لعبده الناس أو لتقربوا منه وبه إلى الله.

ثانياً: أن فرعون الذي كان يدعي الإلوهية السياسية كان بأوصاف الزمن العالي ديكتاتوراً والديكتاتور عادة لا يجب أن ينصرف الناس عنه بل أن يتعلقوا به، ولو بصورة مزيفة. تعلق العابد بالمعبود. ولما لو تحكم في أرزاقهم ومصائرهم، فهو الذي يهب الحياة وينزل الموت وهو الذي يمنح ويمنع قطن نفسه أنه إله حقيقة واستمرأ هذه اللعبة. وهذه الحقيقة هي التي تفسر سلوك فرعون مع الشعب المصري، ومع موسى ومع السحرة.

ثالثاً: أن فرعون كان على يقين من أن الشعب المصري لا يعبد أصناماً إنما يعبده هو؛ ولذلك، قال القرآن على لسانه: “وهل لكم من إله غيري”، وأردف قائلاً إنه حكيم وأنه رزّاقه، وأن طريقته في الحكم والحياة هي المثلى؛ ولذلك، خوف الشعب المصري من موسى لأمرين كان يحرص عليها المصري القديم، الأمر الأول، هو نمط الحياة الذي أمنه فرعون وجعل مصر فوق الجميع. وكان يقسم بأكثر من 10 أشياء يحافظ عليها وأولها مياه النيل والعطف على الضعفاء من الأرامل والأيتام والفقراء، ولم يكن فرعون يسلط إعلامه كي يضعه في أبدع صورة ويسوق صورته الزائفة إلى الشعب البريء البسيط.
الأمر الثاني، هو الحرص على الأرض بدليل أن القرآن الكريم أخبرنا أن فرعون خوف الشعب المصري من موسى بالأمرين، وحذرهم من الانسياق وراء دعوته قائلاً إن موسى سيخرجهم عن طريقتهم المثلى في الحياة، ثم أن موسى – في نظر فرعون – جاء لكي يخرج الشعب المصري من أرضه، وهي المرة الأولى فيما نظن أن يرد هذا التحذير في غير هذا الموضوع.

لكن المستبدين في عصرنا يتهمون المعارضين بأنهم جواسيس وأنهم عملاء وأعداء الوطن. ونجد أن التهم الموجهة إلى موسى هي نفس التهم الموجهة للمعارضين في الأنظمة العربية. ولكن السؤال: لما كان فرعون هو السلطة العليا ويدرك أن موسى جاء ليخبر المصريين عن حياتهم المثلى. وإذا كان هذا الإدراك حقيقياً، فلماذا لم يقبض عليه أو يقتله.

وفى آية أخرى، يقول فرعون “دعوني أقتل موسى” فمن يمنعه عن ذلك إلا أن يكون واثقاً أن موسى نبي الله وأنه – أي فرعون – لم يكن إلهاً حقاً وإنما يدعي الإلوهية السياسية ليبرر جبروته واستبعاده للشعب حتى كوّر جيناته في فجر التاريخ، بحيث أصبح الحاكم صالحاً ولكن متطلبات الكرسي تجعله أشبه بالفرعون؛ ولذلك، فإن إدخال الديمقراطية في مصر هو عملية ثقافية وليست سياسية تحتاج إلى إصلاح المحكوم قبل إصلاح الحاكم، ويعبر عن هذه الحالة مثل شعبي بليغ يقول “يا فرعون من فرعنك” – أي جعلك دكتاتوراً – رد الحاكم فقال “حد يردني ويسائلني”.

رابعاً، لماذا ساوم السحرة فرعون؟ ولماذا كانوا أول من أسلم لرب العالمين وخرجوا علناً على سلطة الفرعون وخذلوه؟

بالنسبة للسؤال الأول، من الواضح أن السحرة كانوا طبقة وضيعة في المجتمع المصري القديم، ولكنهم كانوا طوق النجاة لفرعون بعد أن اختار أن يحسم الجدل بنيه وبين موسى عن طريق الصراع بالسحر، فكان السحرة كالجيش ما دام الذي يهزم صاحبه بالسحر هو المنتصر؛ ولذلك، كان السحرة من الشجاعة بحيث طلبوا من الفرعون المقابل إذا نصروه، ولم يقل فرعون أنهم لا يحتاجون إلى المقابل ما دام الفرعون هو الوطن وأن نصرته نصرة للوطن. وحتى الفرعون نفسه لم يدعِ أنه الوطن هو الحال في الحكام العرب، فقال إن لهم مكافأة مقابل نصرته، والأكثر من ذلك أنهم سيكونون من المقربين أي سيقفزون بطبقتهم الوضعية إلى حاشية الفرعون.

خامساً، بعث موسى إلى فرعون وليس إلى الشعب المصرب لسببين بشريين ظاهريين والله أعلم بالأسباب الأخرى؛ السبب الأول، أنه كان عليه أن يسمح لبنى إسرائيل بالزوج مع موسى، كما جاءوا إلى مصر في عصر يوسف. والسبب الثاني، أنه جاء إلى مصر لكي يقصى القرآن قصة الفرعون ومهلكة غرقاً. وكاد يؤمن لؤما، لكن كان حكم الله قد نفذ الآن. اليوم نجينك ببدنك لتكون لمن خلفك آية. ثم أنه توفر لديه كل القرائن التي تدل على أن موسى نبى الله، ولو أحصينا هذه القرآن لخرجنا عن سياقنا.

سادساً، شاء الله أن تكون آسيا – زوجة فرعون – والملاحظ أن القرآن استخدم امرأة وزوج “يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة”. أما امرأة، فقد حقت على لوط وسارة امرأة إبراهيم التي وصفت بأنها تارة امرأة وتارة أخرى زوج. ويقول بعض المفسرين أن عدم الاتحاد في المحلة أو عدم الانجاب يبقي الزوجة امرأة، وهذا غير دقيق بنص القرآن. أيضاً، امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين، فخانتاهما أي لم تدخلا في دعوتهما، فكانتا من الهالكين. أما مريم وآسيا، فعلى النقيض. والغريب أن امرأة فرعون لم تؤثر عليه إيمانياً، فلجأت إلى مناجاة ربها وطلبت منه أن يبني لها عنده بيتاً في الجنة، وأن ينجيها من فرعون وعمله.

سابعاً، من الواضح أن السيدة آسيا لم يؤثر إيمانها عليه؛ في المقابل، عندما أشار القرآن الكريم إلى امرأة إبراهيم – سارة – أوضح أنها تأثرت بمذهبه، بدليل أن الملائكة ضيف إبراهيم وجدوها تصلي فبشروها بإسحق، ومن بعد إسحق ليعقوب. ولهول المفاجأة، حكّت وجهها وقالت “ألد وأنا عجوز، وهذا بعلي شيخاً فردت الملائكة أتعجبين من أمر الله”، ولكن إبراهيم وحده هو الذي علم أنهم ملائكة؛ فلما قدم لهم العجل، رأى أيديهم لا تصل إليه، فنكرهم وأوجس منهم خيفة، فأمرأه إبراهيم سميت امرأة لأنها لا تنجب، فلما أنجبت تحوّلت إلى زوجة. فاختلاف الديانة وعدم الانجاب يبقيان المرأة امرأة فلان.

مصدر الصورة: عربي بوست.

إقرأ أيضاً: التيارات الإسلامية بين الانتماء الإسلامي والانتماء الوطني

السفير د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية الأسبق / أستاذ محاضر في القانون الدولي والعلاقات الدولية – مصر.