د. عبدالله الأشعل*

أعلى القرآن الكريم من قيمة العقل، كما ميز الإسلام بين العقل والمخ؛ فالعقل جزء من الروح، أما المخ فهو جزء من الجسد بدليل أن المتوفي به مخ ولكن عقله رحل مع الروح. وقد عظَّم القرآن الكريم في محكم آياته قيمة العقل، ووردت وظائفه وخصائصه في الكثير من الآيات مثل التعقل والتدبر والتفكر والتذكر وغيرها. وقد إحتفلت الفرق الإسلامية بالعقل ووصل الأمر بالمعتزلة إلى أن إعتبروا الله هو العقل لأن غير العاقل لا تثريب عليه. ولذلك، إنعقدت المسؤولية على الأفعال البشرية بتوفر العقل والحرية، فلا مسؤولية على غير العاقل أو غير الحر وهذا قمة العدل و تفسير لقوله تعالى “لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”.

وإذا كان العقل ضرورياً في العبادات، فإنه لازم فى المعاملات أيضاً؛ لذلك، ربط الرسول الكريم (ص) بين الفطنة والذكاء وبين الإيمان فقال: “المؤمن كيس فطن”، وقال أيضاً: إن “البطنة تذهب الفطنة” أي الإقبال على الدنيا مما يؤثر على العقل والإيمان، فربط بين الذكاء والفطنة والوعي وبين الإيمان إذ يبقى الأخير متلازماً مع الفطنة حتى إذا تخلت الفطنة عن المؤمن صار نهباً للضيم والظلم. إذاً، العقل هو حارس للإيمان، ولا يكفي الإيمان وحده وإنما لا بد من وجود العقل وتنشيطه بدوام التفكير وإستنهاض همته ووظائفه.

والعقل في القرآن الكريم والسنَّة، أي في الإسلام مضافاً إلى القرآن والسنة، الفقه الإسلامي وإجتهادات السلف الصالح، هو الذي يضبط السلوك؛ لذلك، إختص الله سبحانه وتعالى الإنسان بالعقل ليختار إختياراً إستراتيجياً بين الكفر والإيمان ما دام هذا الإختيار الإستراتيجي حكراً على الإنسان وحده دون سائر المخلوقات. فقد أشرنا إلى أن الشريعة الإسلامية تعفي من التكليف لغير العاقل، وذهبت بعض المذاهب إلى التمييز بين حجب العقل كلية ودوماً وحجب العقل المتقطع ويقصدون بذلك عطب العقل. لذلك، فإن هناك عطباً إصطناعياً للعقل وهو في الموقف الذي تحجب عنه المعلومات المفيدة والحرية لأنه مع الحرية ينتج إبداعاً.

لهذا السبب، فإن المطالبين بإصلاح الإعلام العربي “يختانون” أنفسهم لأن الحرية هي أساس كل إبداع وفي غيره، ولكن إبداع العقل وهو فيض من فيوضات الله وعطاءاته يجب أن يوجه في خدمة الرسالة الإلهية وسبب وجود الإنسان في هذا الكون وهو الإعمار بمعنى أن يتجه العقل لكل ما يفيد الأرض والبيئة والناس والمخلوقات جميعاً. وقد تبين أن سبب المآسي الأخلاقية والمادية هو توجيه نتاج العقل لخدمة الإنسان وأطماعه، فقد كان العالم السويدي، ألفرد نوبل، سعيداً بإختراعه ولكنه إستُخدم لإلحاق الضرر بالإنسان في بعض المواقف، ليعود ويرى بأن إختراعه أُسيئ إستخدامه، فقرر إنشاء الجائزة المسماة على إسمه بمجال إبداعات العقل في العلوم المختلفة تكفيراً منه عما أحدثه إختراعه من آلام للبشرية.

في نفس الإتجاه، تنبهت منظمة اليونسكو إلى ضبط إبداعات العقل، فحرصت على أن توجه هذه الإبداعات لصالح البشرية وليس لنصرة فريق على فريق آخر في أي صراع بشري محموم، فقامت بوضع مدونه لأخلاقيات العلم حتى لا يستخدم كوسيلة لشقاء الإنسان. والملاحظ أن الله سبحانه يعين من يهتم بعقله سواء إستخدمه في الخير أو في الشر ما دام الإنسان قد إستوفى مقومات الإستخدام العقلي، ولا يميز الله في هذا المجال بين مؤمن وكافر وإنما يهدي من يشاء أولاً إذا كان مستعداً للهداية، فيستخدم الإنسان نتاج العقل في خدمة بني جلدته. وأما الشقي الذي حاز مقدرات العقل، فأن الله يفتح عليه بقدر تمكنه من هذه المقدرات حتى لا يلتبس على الناس، خاصة وأن الله سبحانه له قواعد توجيهية صارمة فيما يتعلق بواجبات الإنسان في كل الأحوال.

العقل منحة من الله، وأما توجيهه إلى الخير فهو مرتبط برضى الله أو سخطه على الإنسان الحامل لهذا العقل، والأصل هو علاقة الإنسان بالله وبعد ذلك يأتي إستخدام الإنسان لعقله على تفصيل ليس هنا مجاله.

لكن النقطة الجوهرية في هذا المقال هي أنه إذا كان العقل لازماً لمعرفة الله وإستخلاص آياته من الكون، فإن هذا العقل له حدود لا تستطيع أن تستوعب قدرة الله المطلقة على كل شئ. فقد حذرنا القرآن الكريم من أن نمد عقولنا إلى ما وراء طاقتنا والحكمة من وجودنا، حيث أدرك العقل أن الله موجود ولكنه ليس مطالباً بمعرفة وجود الله ونطاق هذا الوجود، كما أن العقل يدرك أن الله قوي وقادر وجبار وأنه حليم رحيم رزاق، ولكنه ليس مطالباً بأن يعرف كيف.

معنى ذلك أنه بعد إدراك العقل لله لا بد أن يترتب على ذلك التصديق بما قاله الله. على سبيل المثال، قال الله أنه خلق الإنسان من تراب الذي أثبته العلم الحديث وهو نتاج العقل، كما أثبت أن توزيع اليابسة والماء بجسم الإنسان بنسب تتفق تماماً مع توزيعهما في الكون، كما أن المعادن في التربة هي ذاتها الموجودة في جسم الإنسان، وأن الجاذبية تجعل جسم الإنسان أكثر راحة على الأرض وليس في الفضاء وينجذب إلى الأرض وهو معنى مادي يصلح لتصوير معنوي وهو أن الإنسان لديه إستعداد متساوي للإنجذاب إلى الخير أو إلى الشر وهو نفسه الذي يجاهد لكي يتفادى السقوط ويسعى إلى السمو والرفعة ضد قانون الجاذبية. لذلك، نعتقد أن وضع الإنسان واقفاً أو جالساً أو متكئاً ونائماً يحدد درجة غضبه، فقد أوصانا الرسول الكريم (ص) بأن القوي هو الذي يملك نفسه وقت الغضب، وأوصانا بأننا إذا غضبنا فأن سورة الغضب تتراجع من الواقف إلى الجالس إلى المستلقي لأن الغضب طاقة، والطاقة الكبرى لا تتوفر عند الإنسان إلا إذا كان واقفاً وهو إجتهاد مني قد يخطئ أو يصيب.

ويروي لنا التاريخ حالات عديدة بدأ فيها أصحابها بإدراك الله عن طريق العقل، ثم دخلوا في متاهات عقدية عندما حاولوا إستخدامه في غير ما خلق لهم، ولم يدركوا الإشارات العبقرية التي وردت في القرآن الكريم وهي أن الله “ليس كمثله شئ”، فلا يجوز أن نتعرف تفاصيل قدرة الله بما ألفته عقولنا. وإذا قال الله سبحانه وتعالى أن الروح عندما تفارق الجسد فأنها تصعد إلى بارئها، والجسد لا بد أن يسارع بعودته إلى الأرض.

تنتهي مرحلة العقل لتبدأ مرحلة تصديق ما قاله الله في مصير الإنسان ومصير الروح، فقد أخبرنا الله بدلالات قاطعة أننا لم نشهد خلق أنفسنا ولم نشهد خلق السماوات والأرض ولم نشهد الأمم السابقة علينا منذ ملايين السنين؛ لذلك، فإن الإيمان بما قاله الله سبحانه المبني على العقل يختلف عن إيمان الدراويش.

والتسليم لله نوعان؛ النوع الأول “تسليم عاجز” والنوع الثاني “تسليم مستنير”. هنا، يجب أن نتنبه إلى اللفتة الكريمة في الحديث النبوي الشريف “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير”، ولقد فصَّل الفقهاء تطبيقات هذا الحديث الشريف. فالتسليم العاجز والتسليم المستنير صنوان كالمؤمن القوي والمؤمن الضعيف، وهناك حالات كثيرة كان فيها التسليم العاجز سبيلاً إلى التطرف والإنغلاق والعمل ضد الدين ومتطلباته، كما كانت هناك حالات أدى فيها التسليم المستنير إلى الضياع بين الشك والإيمان على النحو الذى بينه لنا المرحوم د. مصطفى محمود في كتابه “رحلتي من الشك إلى الإيمان”.

خلاصة القول، إن العقل مطلوب لإدراك وجود الله ولكنه عندما يدخل مرحلة الإيمان فهو مطلوب لوظيفة أخرى وهي الانبهار بمدى قدرة الله وطلاقتها. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن العقل يحمي الإيمان، وهو الطريق إليه، وأنه لا تناقض بين العلم والإيمان لأن الذي بدأ مؤمناً زوده الله بالعلم فصار مؤمناً عالماً علماً لدنيا، وأما الذي بدأ بالعلم فقد وصل إلى الإيمان فصار عالماً مؤمناً وهما طائقتان يرضاهما الله ورسوله.

وما دام العقل هو الذي يميز بين الحق والباطل، فإن النظم الدكتاتورية تعطل العقل إما بإعطابه وتغييبه أو بإشعار العاقل بأن عقله عبء عليه؛ لذلك، إن المعارض للحكم الإستبدادي أما عاقل وأما مضرور، وهذه النظم تخشى العاقل أساساً لأنه وصل بعقله إلى وحدانية الله، وإلى أن هذا المستبد هو أحد خلقه الذين تجبروا على عباده فإستخدم نِعم الله ضد خلقه، وهذه أكبر طعنه للحكم المستبد في كل العصور.

*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.

مصدر الصور: Northeastern University – نيويورك تايمز.

موضوع ذا صلة: إقتصاديات التخلُّف.. والطريق إلى التقدم