طرحت الحكومة الباكستانية مبادرة جديدة لمكافحة الإرهاب تحت عنوان “عزم الاستحكام”، والتي تعني “العزيمة من أجل الاستقرار”، وذلك لمعالجة التحديات المتزايدة التي تواجهها البلاد والمتمثلة في التشدد والتطرف.

وتأتي هذه العملية الجديدة في وقت شهدت فيه البلاد تصاعداً في أعمال العنف الإرهابية في العامين الماضيين. ومع ذلك، استمرت الحرب ضد الإرهاب، وبدأت بالفعل جهود مكافحة الإرهاب القائمة على الاستخبارات، وخاصة في إقليم خيبر بختونخوا، والمناطق الحدودية الأفغانية، وإقليم بلوشستان، والتي بالمجمل تستهدف حركة طالبان باكستان والجماعات الإرهابية البلوشية وغيرها من الجماعات المتحالفة معها.

إعلان رئيس الوزراء الباكستاني، شهباز شريف، أثار تساؤلات حول أهداف العملية وتوقيتها، أحزاب المعارضة، مثل حزب حركة الإنصاف الباكستاني الذي يحكم مقاطعة خيبر باختونخوا، وحزب عوامي الوطني، الذي يستمد دعمه من مقاطعة خيبر باختونخوا، وجماعة علماء الإسلام التي تتمتع بقوة في اقليم خيبر بختون خوا، قد عارضت العملية في إقليميّ خيبر باختونخوا وبلوشستان علناً، بالمقابل دعوا إلى تقديم إحاطات تفصيلية ومزيد من المشاركة البرلمانية لفهم نطاق العملية وتأثيرها المحتمل.

بسبب المعارضة السياسية، اضطرت الحكومة لتوضيح أن عملية “عزم الاستحكام” ليست عملية عسكرية واسعة النطاق مثل الحملات السابقة كـ “ضرب العضب” أو “طريق الحق”، والتي أدت إلى نزوح كبير للناس في المناطق القبلية وأجزاء أخرى من خيبر بختونخوا.

وبدلاً من ذلك، وصفت الحكومة عملية “عزم الاستحكام” بأنها رؤية وطنية متعددة الأوجه تشمل مجالات ووكالات مختلفة لضمان الاستقرار على المدى الطويل في باكستان، وتسعى هذه المبادرة إلى تجديد وتعزيز تنفيذ خطة العمل الوطنية المنقحة لمكافحة الإرهاب، والتي تم إطلاقها لأول مرة العام 2014 للقضاء على التشدد والتطرف من خلال التوافق الوطني. وشددت الحكومة على أن هذه العملية الجديدة تعتمد نهجاً شاملاً لتعزيز الجهود الجارية ضد التشدد.

وستستهدف الخطة الجديدة في المقام الأول التهديدات الأمنية الداخلية والمقاتلين المسلحين، خاصة حركة طالبان الباكستانية، التي تعتقد باكستان أن لها ملاذات آمنة في أفغانستان. وجاء في بيان الحكومة أن “الحملة ستشمل أيضاً إجراءات اجتماعية واقتصادية لمعالجة المخاوف الحقيقية للناس وخلق بيئة متصدية للنزعات المتطرفة”.

الأساس المنطقي للعملية العسكرية: تزايد التشدد

واجهت باكستان ارتفاعاً كبيراً في أعمال العنف العام 2023، مع رقم قياسي بلغ 1524 حالة وفاة، وفقاً لمركز البحوث والدراسات الأمنية (CRSS)، ويمثل هذا زيادة مذهلة بنسبة 56% مقارنة بالعام 2022، وأعمال العنف ليست معزولة، إذ تنتشر في جميع أنحاء البلاد، وكانت المناطق الأكثر تضرراً هي مقاطعتي خيبر بختونخوا وبلوشستان.

في هذه الهجمات، كانت قوات الأمن هي الأهداف الرئيسية، وهو تغيير عن التكتيكات السابقة التي كان يتم فيها استهداف المدنيين في الغالب، وتقول حركة طالبان باكستان دائماً، في مقاطع الفيديو الدعائية الخاصة بها، إن الجماعة ليس لديها أي نية لاستهداف المدنيين، وكثيراً ما ينكرون الهجمات التي تستهدف المدنيين.

مراكز التطرف الرئيسية هي المناطق القبلية الخاضعة للإدارة الفيدرالية – وهي الآن جزء من مقاطعة خيبر بختونخوا، حيث شهدت مناطق ديرا إسماعيل خان وبانو ولاكي مروات وبيشاور معظم أعمال العنف، وتستهدف حركة طالبان الباكستانية الوكالات الحكومية وجهات إنفاذ القانون يومياً تقريباً، مما يتسبب في خسائر فادحة.

ويتزامن تصاعد العنف أيضاً مع سقوط كابول واستيلاء حركة طالبان على أفغانستان العام 2021، وتتحالف حركة طالبان الباكستانية أيديولوجياً مع حركة طالبان الأفغانية وقد قدمت لها الدعم في قتالها ضد الحكومة الأفغانية والقوات الأمريكية، وعليه تتهم باكستان حركة طالبان أفغاستان بعدم القيام بما يكفي ضد حركة طالبان الباكستانية التي تعتقد أنها تحظى بدعم وملاذات في أفغانستان.

قد يكون السبب الآخر لتوقيت العملية هو الاستقرار السياسي النسبي في البلاد، حيث كانت الحكومة تعاني من عدم الاستقرار السياسي وانتقال السلطة في العام الماضي. وكانت الانتخابات مثيرة للجدل أيضاً حيث اتهمت المعارضة الحكومة الحالية بالتزوير على نطاق واسع. وكانت باكستان تعاني أيضاً من أزمة اقتصادية ضخمة. ولكن هناك الآن بعض علامات الاستقرار ويبدو أن الوقت مناسب للحكومة لبدء عمليات للتعامل مع الوضع الأمني.

المعارضة الداخلية

أثار عملية “عزم الاستحكام” جدلاً بعد وقت قصير من إعلانه، وفي حين أن هدف معالجة التشدد يجد بعض الدعم، فإن ذكريات الضحايا المدنيين من العمليات الماضية والقلق بشأن المستقبل يغذي المعارضة الداخلية خاصة في إقليمي خيبر باختونخوا وبلوشستان.

وأبرز المخاوف تنبع من التكلفة البشرية، وتحملت مناطق المناطق القبلية الخاضعة للإدارة الاتحادية وخيبر بختونخوا المتاخمة لأفغانستان وطأة الهجمات السابقة. ويخشى الناس تكرار ذلك، مع فقدان أرواح بريئة في تبادل إطلاق النار. واندلعت احتجاجات في هذه المناطق معارضة للعمليات العسكرية.

ويقول الناقدون إن الحملات السابقة حققت نجاحا محدودا، ويشيرون إلى النزوح وتعطل سبل العيش والفشل في معالجة الأسباب الجذرية للتطرف التي تغذي التشدد. وهذا يعزز عدم الثقة تجاه الحلول العسكرية، حيث يشكك البعض في جدوى عزم الاستحكام على المدى الطويل.

هناك مجال آخر للخلاف وهو احتمال التصعيد مع أفغانستان. ويثير احتمال امتداد العملية عبر الحدود القلق. ويخشى المنتقدون أن تؤدي التوغلات عبر الحدود إلى صراع أوسع نطاقا.

وتشعر المجموعة العرقية البشتونية، التي تعيش على جانبي حدود خط دوراند، بأنها محاصرة بشكل خاص في المنتصف. ويشعر بعض زعماء ونشطاء البشتون بالقلق من أن العملية قد تستهدف مجتمعاتهم بشكل غير متناسب.

المخاوف الصينية

يؤكد الخبراء أن العملية يتم إطلاقها بناءً على طلب الصين حيث أن لبكين مصلحة كبيرة في استقرار باكستان، وخاصة بفضل مشروع الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان، وتهدف مبادرة البنية التحتية هذه التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات إلى ربط مقاطعة شينجيانغ غربي الصين بميناء جوادار في باكستان، مما يوفر طريقاً تجارياً مهماً للصين. ومع ذلك، فإن تصاعد أعمال العنف استهدف أيضاً الموظفين الصينيين والمشاريع الصينية، الأمر الذي أصبح مصدر قلق كبير للصين.

وفي مارس/آذار 2024، أدى هجوم على قافلة تقل مهندسين صينيين في إقليم خيبر بختونخوا إلى مقتل ما لا يقل عن 5 مهندسين صينيين، مما سلط الضوء على ضعف حماية الموظفين الصينيين الذين يعملون في مشاريع الممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني في كل من شمال وجنوب البلاد. وكانت القافلة في طريقها من إسلام أباد إلى موقع مشروع داسو للطاقة الكهرومائية، وهو مشروع للطاقة بقدرة 4320 ميغا/وات على نهر السند.

منذ العام 2018، يقود الانفصاليون البلوش الأنشطة المسلحة المناهضة للصين في باكستان. ونفذ لواء مجيد التابع لجيش تحرير البلوش عدة هجمات استهدفت المصالح الصينية. تشمل هذه الهجمات الهجوم على القنصلية الصينية في كراتشي، العام 2018، والهجوم على فندق بيرل كونتيننتال في جوادار، الذي غالباً ما يزوره المواطنون الصينيون ومعهد كونفوشيوس في جامعة كراتشي، العام 2022، من بين حوادث أخرى. وشاركت مجموعات أخرى مثل فرع تنظيم الدولة الإسلامية في أفغانستان في اختطاف وقتل زوجين صينيين في كويتا، العام 2017.

يؤثر الوضع الأمني المتدهور بشكل مباشر على استثمارات الصين الضخمة في الممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني. تخلق الهجمات والتهديدات مناخاً من الخوف، مما يمنع المزيد من الاستثمار ويحتمل أن يؤخر أو حتى يعرض استكمال المشاريع للخطر.

وقد أثار المسؤولون الصينيون هذه القضية باستمرار مع السلطات الباكستانية وطلبوا منها تحسين الوضع الأمني لمواطنيها العاملين في مشاريع مختلفة في باكستان. كما قامت باكستان برفع قوة على مستوى اللواء لحماية المشاريع الصينية.

التأثير على العلاقات الباكستانية – الأفغانية

على مدى العامين الماضيين، شهدت باكستان ارتفاعاً كبيراً في حوادث العنف التي أعلنت حركة طالبان الباكستانية مسؤوليتها عنها بشكل رئيسي. وتتحالف حركة طالبان باكستان أيديولوجياً مع حركة طالبان الأفغانية، وقد زادت هجماتها منذ سيطرة طالبان على أفغانستان، أغسطس/آب 2021.

وتتهم باكستان حكومة طالبان في أفغانستان بإيواء ملاذات آمنة لحركة طالبان الباكستانية، وهو ما تنفيه طالبان باستمرار. وقد أدى هذا الاتهام إلى تأجيج التوترات بين الجارتين، والتي تفاقمت بسبب الغارات الجوية عبر الحدود التي شنتها باكستان ضد مخابئ حركة طالبان الباكستانية المشتبه بها في أفغانستان، مارس/آذار 2024. وتسلط هذه الضربات، التي اعترفت بها وزارة الخارجية الباكستانية علناً، الضوء على احتمال نشوب صراع أوسع نطاقاً.

ويتوقع المحللون أن تمتد عملية عزم الاستحكام إلى الأراضي الأفغانية، مما يزيد من توتر العلاقات. فالتوغل في أفغانستان يمكن أن يؤدي إلى انتقام من حركة طالبان أو غيرها من الجماعات المسلحة، مما يؤدي إلى تصعيد الصراع.

وكثيراً ما تؤدي العمليات العسكرية إلى نزوح المدنيين وتعطيل الخدمات الأساسية، مما يؤدي إلى تفاقم الوضع الإنساني الهش أصلاً في أفغانستان.

العمليات السابقة

منذ هجمات 11 سبتمبر/أيلول والغزو الأمريكي لأفغانستان، شهد الوضع الأمني في باكستان تغيرات جذرية. في البداية، كانت باكستان مترددة في الانضمام إلى الحرب التي تقودها الولايات المتحدة على الإرهاب، ولكن الضغوط والحوافز المالية أقنعتها بالمشاركة. وقد ثبت أن إدارة علاقاتها مع حركة طالبان الأفغانية، التي كانت تدعمها في السابق، تشكل تحدياً كبيراً. ركزت الجهود المبكرة على استهداف عناصر القاعدة الذين كانوا يفرون من أفغانستان، وكانت معركة وانا، العام 2004، بمثابة انتصار ملحوظ.

وفي الفترة ما بين العامين 2004 و2014، واجهت باكستان ارتفاعاً كبيراً في التمرد الداخلي كرد فعل على سياسة باكستان المتمثلة في الانضمام إلى “الحرب على الإرهاب” الأمريكية. ظهرت حركة طالبان باكستان كقوة بارزة، حيث شنت العديد من الهجمات ضد قوات الأمن الباكستانية والمدنيين. خلال هذه الفترة، أصبحت التفجيرات والهجمات الانتحارية وعمليات القتل المستهدف أمراً شائعاً، بما في ذلك الحوادث الكبرى مثل الهجوم على المقر العام للجيش، العام 2007، وتفجير فندق ماريوت في إسلام آباد، العام 2008.

ولمواجهة التهديد المتزايد، شنت باكستان عدة هجمات واسعة النطاق بين عامي 2008 و2017. وكانت عمليات مثل “راه النجاة” (2008) و”ضرب العزب” (2014)، وهدفت إلى تفكيك معاقل حركة طالبان باكستان في المناطق القبلية الخاضعة للإدارة الاتحادية إلى جانب عمليات أخرى في منطقة سوات. وأدت هذه الجهود، إلى جانب الضغط العسكري على الحدود الأفغانية، إلى تراجع نشاط حركة طالبان الباكستانية داخل باكستان. وتدريجياً، تحول التركيز نحو تفكيك الجماعات الطائفية المسلحة ومكافحة الجماعات التابعة لتنظيم داعش التي تكتسب موطئ قدم في المنطقة.

منذ العام 2017، واصلت باكستان جهودها لمكافحة الإرهاب من خلال عملية رد الفساد، وهي عملية وطنية تهدف إلى القضاء على التهديدات المسلحة المتبقية ومنع عودة العنف. ومع ذلك، فإن الارتفاع الأخير في هجمات حركة طالبان الباكستانية والمستقبل الغامض لأفغانستان في ظل حكم طالبان يشكل تحديات جديدة.

وطوال هذه العمليات، واجهت باكستان تحديات واعتبارات كبيرة. وأدت العمليات العسكرية إلى سقوط ضحايا من المدنيين، مما أثار المخاوف بشأن حقوق الإنسان وأذكى المشاعر المناهضة للحكومة. وقد أدى نزوح السكان بسبب هذه العمليات إلى استنزاف الموارد وإعاقة التنمية في المناطق المتضررة. وتركز جهود الحكومة بشكل رئيسي على الجانب الحركي لمكافحة الإرهاب، لكنها تتجاهل القضايا الأساسية المتمثلة في الفقر، ونقص التعليم، والتهميش السياسي.

هل ستكون عملية “عزم الاستحكام” ناجحة؟

إن فعالية العملية الباكستانية الجديدة لمكافحة الإرهاب أصبحت على المحك بسبب مجموعة من العوامل. وفي حين تعطي الجماعات المسلحة مثل حركة طالبان الباكستانية الأولوية لاستهداف قوات الأمن لتقويض سلطة الحكومة، فإن الافتقار إلى الدعم الشعبي في المقاطعات الأكثر تضررا يمكن أن يعيق نجاح العملية بشكل كبير.

حركة طالبان الباكستانية لها طبيعة عابرة عندما يتعلق الأمر بقواعدها الشعبية، ومن الواضح أنهم لا يحتلون أي منطقة لأنه من الممكن إزاحتهم. إنهم يعتمدون على أنشطة الضرب والتشغيل. وهذا من شأنه أن يجعل من الصعب على قوات الأمن شن هجمات متواصلة.

ومع ذلك، فإن العامل الأكثر أهمية لنجاح عزم الاستحكام قد لا يكمن في ساحة المعركة، بل داخل باكستان نفسها. ولا يمكن تجاهل المد المتصاعد للمعارضة الداخلية، كما يتضح من الاحتجاجات والتصريحات الصادرة عن الأحزاب السياسية. إن الذاكرة العامة للضحايا المدنيين في العمليات السابقة والقلق بشأن الخسائر المستقبلية المحتملة يغذي هذه المعارضة.

ومن دون دعم سياسي واسع وثقة عامة، فإن العملية قد تتحول إلى صراع شاق. لا يمكن لقوات الأمن تحقيق نصر دائم دون التعاون والاستخبارات المستمدة من المجتمعات التي تهدف إلى حمايتها. إن معالجة المخاوف بشأن انتهاكات حقوق الإنسان، وضمان الشفافية، والتركيز على التنمية الطويلة الأجل إلى جانب العمل العسكري، سوف تشكل أهمية بالغة لحشد الدعم الشعبي.

علاوة على ذلك، فإن التعامل مع الديناميكيات الإقليمية المعقدة يضيف طبقة أخرى من الصعوبة. وتتعقد الضغوط التي تمارسها الصين للقضاء على التشدد بسبب علاقاتها الاستراتيجية مع طالبان. ويمكن للعمليات عبر الحدود في أفغانستان أن تزيد من تصعيد التوترات بين البلدين وربما تؤدي إلى توتر العلاقات مع الصين.

وفي نهاية المطاف، يتوقف نجاح “عزم الاستحكام” على التغلب على هذه التحديات الكبيرة، واتباع نهج دقيق يعالج الأسباب الجذرية للتطرف، ليعزز الثقة مع عامة الناس، ويتعامل مع التوازن الإقليمي الدقيق، الأمر الذي سيكون ضرورياً لتحقيق السلام والاستقرار الدائمين في باكستان.

مصدر الصور: الشرق الأوسط.

إقرأ أيضاً: مستقبل الدور الباكستاني في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي: الحسابات والاحتمالات

د. شهريار خان

أستاذ جامعي مختص بشؤون الأمن والعلاقات الدولية – باكستان