حوار: سمر رضوان
تُلقي الأحداث في منطقة البلطيق بظلالها على الصراع المستمر على “الجرف الأوراسي” الذي يعتبر “خط الدفاع الأول” لروسيا في وجه حلف شمال الأطلسي. في المقابل، ترى دول أوروبا الشرقية، لا سيما تلك التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق، بأن روسيا تحضر لـ “عدوان” جديد الأمر الذي يستتبع القيام بالكثير من الاجراءات لمقاومة أي عدوان محتمل.
لشرح تلك الأحداث والإضاءة عليها يقول ديمتري بابيتش المحلل السياسي الروسي في وكالة الأنباء والإذاعة الدولية سبوتنيك، ضمن حديث خاص لمركز سيتا:
الرد الروسي في البلطيق
إن دول البلطيق، والقيمون في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، عمدت الى إرباك الاتحاد السوفياتي والأمر نفسه بالنسبة لـ “روسيا الحديثة”. لقد احتل الاتحاد السوفياتي دول البلطيق في عام 1940، وهو أمر “قاسٍ” جداً، إلا أن روسيا الجديدة، وفي العام 1991 تحت قيادة الرئيس الروسي بوريس يلتسين، كانت أول دولة في العالم تعترف تماماً بالاستقلال الكامل لدول البلطيق. لقد وافقت روسيا على انضمام دول البلطيق إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي في عام 2004 بالرغم من العلاقات السيئة القائمة بين روسيا وحلف الناتو. وهذا الموقف تتغاضى عنه الآن ليتوانيا ولاتفيا واستونيا، فهم يتذكرون فقط أسوأ أوقات ستالين ويواصلون الحديث عن التهديد الروسي غير الموجود اصلاً.
ويتابع بابيتش أنه وفي الوقت نفسه، إن “الجزء السوفياتي” من تاريخ دول البلطيق ليس “أسوداً وأبيضاً” كما يتم تصويره في الصحافة الغربية. وأهم أسباب هذا الغزو كان يمكن في الضرورة العسكرية حيث كانت موسكو تستعد للحرب مع ألمانيا، والتي هاجمت الاتحاد السوفييتي في يونيو/حزيران من العام 1941 بالفعل. لقد استطاعت موسكو تفريق قوات الصدمة الألمانية، التي كانت مهيأة للاستيلاء على لينينغراد (التي سميت الآن سان بطرسبورغ) في العام 1941، وتم تدميرها جزئياً على أراضي استونيا، المتاخمة للينينغراد. بهذه الطريقة، تم تجنب قتل الملايين، وتدمير المدينة الأوروبية الجميلة الكبرى (سان بطرسبرغ). هذه الانتصارات أزالت عن العديد من الجمهوريات الاشتراكية، وحتى الولايات المتحدة نفسها، شبح الغزو.
ويشير إلى أنه ومنذ عام 1991، بذلت روسيا الجديدة كل ما في وسعها لتحسين العلاقات مع دول البلطيق كما عملت على استعادة التعاون الاقتصادي المشترك. لسنوات عدة، كانت عائدات العبور الرئيسية، في لاتفيا تحديداً، تشكل العامود الفقري منها في الميزانية والتي كانت تأتي من خلال عبور الصادرات الروسية إلى الاتحاد الأوروبي. وبعد التصريحات والأعمال العدائية من قبل هذه الدول، تم تخفيض عمليات العبور من خلال ايجاد العديد من البدائل لموانئ البلطيق (أي: فينتسبيلس – ريغا – تالين). وبعد أن تم الانتهاء من بناء بريموسك (خاص بتجارة وعبور النفط) على الأراضي الروسية في عام 2000، تم تخفيض الاعتماد الاقتصادي الروسي على ميناء فينتسبيلس. من هنا، بدا لنا وأننا نستطيع العيش وحدنا، وبسلام.
ويتابع المحلل السياسي بابيتش أنه ولسوء الحظ، بعد توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً، خاصة بعد الانقلاب الذي حدث في أوكرانيا وأتى بنظام مناهض لروسيا في العام 2014، بدأ التصلب في خطب دول البلطيق تجاه موسكو. لقد بدؤا يتحدثون عن “غزو روسي وشيك”، على الرغم من أن شيئاً لم يحدث على الحدود المشتركة بيننا منذ العام 1991. وبناءً على قرارات الناتو، تمركز عدة مئات من الجنود البريطانيين في استونيا، بجوار سان بطرسبرج، وجنود كنديون في لاتفيا، وجنود ألمان في ليتوانيا، إضافة إلى تمركز لواء كامل من الدبابات الأمريكية في بولندا. من هنا، لا تزال روسيا تتحلى بالصبر ولن تتأثر بهذه الحوادث الاستفزازية، غير أنها ستمارس حقها فى حماية حدودها، حيث من الممكن أن ترسل أسلحة إضافية الى “كالينينجراد” الروسية (التي تقع على ساحل بحر البلطيق وتحيط بها قوات الناتو وقواعدها من جميع الأطراف) لكننا لن نكون البادئين في أي عمل عسكري. وهنا، يشير إلى تقرير صدر عن معهد بحوث السلام في ستوكهولم حول أن الإنفاق الدفاعي الروسي يشكل 27٪ فقط من إنفاق حلفاء الناتو للأوروبيين.
اجراءات سويدية ضد روسيا
ينفي بابيتش المزاعم السويدية بأنهم على شفير الحرب. معلّقاً أنّ الروس يحبون السويد ولن يهاجموها أبدا. وما نراه اليوم هو تخلي السويد عن حالة “الحياد”، والتي اعتقد بأنها لم تكن موجودة اصلاً، وستتجه نحو الناتو وهذا أمر محزن. إذ منذ عدة أعوام، صدرت العديد من الإشاعات والانذارات الكاذبة تمثلت في رصد عدد من الغواصات وكل مرة كانت وزارة الدفاع السويدية تعترف بأن هذه الأنباء عارية عن الصحة وأن تلك الغواصات لم تكن موجودة، لكن وزارة الدفاع لم تقدم أي اعتذار لروسيا عن التصريحات “الرهيبة” التي تم الإدلاء بها في تلك المرحلة.
مصير الغاز الروسي إلى أوروبا
يعتبر بابيتش أنّ ألمانيا تقف في مواجهة مفوضية الاتحاد الأوروبي لجهة الإصرار على مد خطوط أنابيب “بحر الشمال 2” الذي يمر في بحر البلطيق. هل ترى أن إثارة الخلافات في المنطقة هدفه ضرب عمود الطاقة الروسي القائم على الطاقة خاصة وأن الولايات المتحدة بدأت بيع الغاز إلى أوروبا، وتحديدا بولندا، التي كان من المتوقع أن تلقي أول شحنة من الغاز الأمريكي في يونيو/حزيران من العام 2017؟
مضيفاً أن القضية في غاية السهولة. إذ تحاول الولايات المتحدة منع بناء خطوط الأنابيب الروسية إلى أوروبا الغربية منذ أيام حكم الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغن لأن لم يعنِ عائدات إضافية ستصب في خزائن روسيا. اليوم، تم إضافة عنصر “اناني” جديد على هذا الموضوع يتمثل في رغبة ببيع واشنطن غازها الطبيعي المسال. إن مستقبل “السيل الشمالي” سيتم تحديده في ألمانيا. وإذا نظرنا إلى الموضوع من الجانب الاقتصادي البحت، يمكن أن نرى بوضوح أن الغاز الروسي هو أرخص سعراً وأكثر أداءً وموثوقية، حيث يعود ذلك إلى أسباب جغرافية، غير أن قمة البيروقراطية، في الاتحاد الأوروبي، تقف ضده بسبب معاداتها “الإيديولوجية” لروسيا. لذلك، سيتم تحديد مصير خط الأنابيب من خلال المعركة بين المصالح الاقتصادية الألمانية وهجمات الضغط فيها من جهة، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى.
مواقف متضاربة لدول الاتحاد الأوروبي
ويقول بابيتش إن الاتحاد الأوروبي هو كيان معادٍ لروسيا، ولكن الاتحاد الأوروبي ليس كل أوروبا. على سبيل المثال، اليونان وتشيكيا وسلوفاكيا تقف ضد العداء لروسيا، كما أن ملايين المواطنين في إيطاليا وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة ودول أوروبية أخرى (بما في ذلك بولندا التي أتحدث لغتها) لها نفس الموقف. لقد تعوّد الاتحاد الأوروبي على التصرف بشكل مستقل عن إرادة مواطنيه، حيث تجاهل موقف مواطنيه من الدستور الأوروبي، وتجاهل التصويت الهولندي ضد اتفاق الاتحاد الأوروبي مع أوكرانيا، وعملية الخروج البريطاني من الاتحاد (البريكسيت) لا تزال تنتظر التطبيق. برأيي، سيواصل الاتحاد الأوروبي حربه الاقتصادية على روسيا (كالعقوبات الاقتصادية على موسكو والدعم القوي للنظام القومي المروع في أوكرانيا)، بالرغم من مواقف بعض الدول والكثير من مواطني الاتحاد.
ما بين البلطيق وأوكرانيا
وعن الرابط ما بين البلطيق وأوكرانيا يرى بابيتش أن دول البلطيق تدعم النظام “المروع” بقيادة الرئيس الاوكراني بيترو بوروشينكو. ففي العام 2013، ألقى رئيس البرلمان الليتواني كلمة أمام المتظاهرين المتمردين في ساحة ميدان، التي وصفتهم الصحافة البلطيقية بـ “المتظاهرين السلميين” (العملية التي ادت الى أطاحة الرئيس الأوكراني المنتخب شرعياً فيكتور يانوكوفيتش) على الرغم من استخدمهم لزجاجات المولوتوف، وغيرها من الأسلحة، التي قتلت عشرات من رجال الشرطة. لقد تحدثوا الكثير عن الطبيعة “السلمية” للثورة الأوكرانية في مقابل توجيه الاتهامات ضد روسيا بـ “التدخل” في أوكرانيا.
مضيفا أن الآن، تشحن ليتوانيا رسمياً الأسلحة إلى النظام في أوكرانيا التي سيتم استخدامها ضد المناطق الناطقة بالروسية أي دونيتسك ولوغانسك، التي لا ترغب في اتباع سياسة نظام كييف الجديد، كما رفضت قطع علاقاتها مع روسيا، بما في ذلك شركات الطيران، وتجارة الكتب، وزيارات الفنانين والموسيقيين.
ويتابع بابيتش أنه وبعد هزيمته الأولية في دونيتسك ولوغانسك في عام 2014، حاول بوروشينكو استعادة سيطرته على المنطقة من خلال وساطة فرنسا وألمانيا التي أطلق عليها “محادثات النورماندي”، حيث حاولت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وهولندا، تحقيق رغبات بوروشينكو دون استخدام الأسلحة، أي عبر فرض العقوبات الاقتصادية والضغط الدبلوماسي على روسيا. ولكن بعد فشلهم بذلك، أنهوا “محادثات النورماندي” في أغسطس/أب من العام 2017. واليوم، يريد بوروشينكو المحاولة مجدداً عبر استخدام القوة مرة أخرى، بما في ذلك الصواريخ المضادة للدبابات التي حصل عليها من الولايات المتحدة.
مصدر الصور: Novini.nl – كاتيخون – الحرية نت.