حيدر مصطفى*
أزمات سياسية عدة حصلت بين دول مختلفة وحُلت تدريجياً من بوابة الاقتصاد، الاشتباك السياسي التركي الروسي على سبيل المثال بدأ يتقلص مع جنوح أنقرة وموسكو نحو تطبيع العلاقات بينهما عبر تمتين الروابط التجارية وتوسيع نطاق التعاون الاقتصادي بين البلدين منذ عام 2015، كذلك العلاقة التركية الإيرانية تحافظ على سوية متينة من التعاون في الإقليم من بوابة الاقتصاد، وغيرها العديد من الأمثلة، فهل ستكون تلك البوابة وسيلةً لفتح المعابر الحدودية مجدداً بين الأردن وسوريا لتبدأ معها تدريجياً عودة قنوات التواصل الرسمي؟
موضع الأردن من الحرب السورية:
لعبت عمان دوراً كغيرها من دول الجوار السوري في الأزمة السورية، ويختلف كثيرون حول تقييم هذا الدور، ما بين وصفه بالإيجابية تارة والسلبية تارةً أخرى، لكن بقناعة شريحة واسعةٍ من السوريين فإن الأردن كان شريكاً في تسهيل دخول الجماعات المسلحة وانتشارها في الجنوب السوري وإيصال الدعم العسكري واللوجستي إليها، وهذا ما تترجمه الحكومة السورية عبر وسائل إعلامها ومسؤوليها، فتصريحات الكثيرين منهم لم تخلو من توجيه أصابع الاتهام إلى الأردن بدعم الإرهاب في سوريا، وعلى الرغم من النفي الأردن الدائم لتلك الاتهامات وعلى أعلى المستويات، إلا أن جملة المعلومات المتوفرة والمتاحة لجميع المتابعين لتفاصيل الأزمة السورية تؤكد أن غرفة الموك التي كانت تعمل من الأردن لإدارة جبهة الجنوب السوري لصالح الفصائل المسلحة التي تقاتل ضد الدولة السورية، ستبقى “نقطة سوداء” في تاريخ الأردن وعلاقته مع سوريا، بالنسبة للجانب السوري، رغم اعتبار البعض أن الأردن كان مجبراً على استضافتها وأن ثمناً باهظا كانت ستدفعه عمان فيما لو خرجت عن الإرادة العربية الغربية تحديداً ما بين 2012 و 2015 .
الدور الأردني “السلبي” بدأ بالتراجع تدريجياً في سوريا منذ حزيران عام 2017، وبعد أسابيع قليلة من انتشار صور تظهر معسكرات قالت وسائل إعلام عربية وغربية إنها لقوات عربية وأجنبية تستعد للتدخل العسكري في سوريا، انتشرت تحديداً في التاسع من مايو العام الماضي، لكن لم يحصل أي تحرك من الأراضي الأردنية، وتقول مصادر صحفية رسمية في عمان إن القرار الأردني كان “عدم التورط في حرب مباشرة والتسبب بالمزيد من الخسائر”، فالحسابات الأردنية بسوريا تتخطى الأطماع الخليجية والإرادة الإسرائيلية والأمريكية وربما حتى البريطانية، نظراً للعلاقة بين الشعبين وحساسية الموقف في الداخل الأردني أمنياً وسياسياً، وعبئ أزمة اللاجئين، وغيرها من الحسابات الدقيقة والتي أهمها، معرفة عمان بأنه لا مصلحة لديها باستمرار سيطرة الجماعات المسلحة من جبهة النصرة وداعش وغيرها على حدودها مع سوريا وما يتبع ذلك من خسائر اقتصادية وتهديدات أمنية وخشية الحكومة الأردنية من أن تتحول تلك الفصائل إلى ورقة ضاغطة في المستقبل عليها.
تأثير الحرب السورية على الأردن:
مع قناعة الأردن وإدراكه بأن الحكومة السورية استطاعت أن تستعيد السيطرة على المساحة الأكبر من البلاد، بدأت تبرز تصريحات تتخذ من أزمة اللاجئين وعبئهم على الأردن كذريعة لتبرير مواقف الأردن التي لا تتسق مع الموقف الخليجي، ويحكى في الأوساط الأردنية عن خلاف مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بسبب محاولة الأخير لفرض املاءات على الأردن تطالبه بلعب دور سلبي أكبر في سوريا، أحاديث تتكتم عليها الأوساط الرسمية الأردنية وتتجنب الخوض في غمارها، وبغض الطرف عن صحتها من عدمها، يمكن القول إن ملامح رغبة أردنية في الابتعاد عن دوامة الصراع في سوريا بدأت تتضح شيئاً فشيئاً مع تراجع حدة المواجهات في الجنوب السوري منذ منتصف العام 2017 تقريبا.ً
وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي وفي مؤتمر صحفي عقده عقب مشاركته في اجتماع المجلس التنفيذي المشترك لبرلمانيي أحزاب التحالف الحكومي الألماني، أشار إلى ما وصفها بالأعباء التي تتحملها المملكة جراء استضافة مليون وثلاثمئة ألف سوري، وشدد على أن الأردن تجاوز طاقته الاستيعابية وعلى أهمية تحمل المجتمع الدولي كامل مسؤوليته وتوفير الدعم اللازم لمساعدة المملكة في تحمل أعباء اللجوء.
تصريح يعتبر بمثابة طلب الرحمة، تبعه تصريح آخر عقب لقائه مؤخراً مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في موسكو، حاول فيه تبرئة ذمة الأردن تجاه سوريا، أكد فيه أن المساعدات الإنسانية تمر فقط عبر الأراضي الأردنية إلى سوريا، مضيفا أن الأردن حريص على التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، يحفظ وحدتها واستقلالها، وأن المعابر مع سوريا لم تستخدم يوماً إلا في ذلك الغرض.
ويمكن التماس حجم التأثير السلبي للحرب في سوريا على الأردن من خلال عدة أرقام، كتقرير سابق للبنك الدولي أشار فيه إلى أن نسبة النمو التي كانت متوقعة للأردن عام 2014 هي 4,5 % بيد أن ما تحقق هو 3 % فقط، ما يعني أن نسبة النمو نقصف بنسبة 1,5 %، فيما تشير مصادر أخرى إلى أن حصة الفرد الأردني من الدخل قد انخفضت خلال أربع سنوات بنسبة 8% تقريباً عما كان يمكن أن تصل إليه لولا الأحداث.
وفي تصريح أيضاً لنقيب أصحاب الشاحنات الأردنية محمد خير الداوود نشرته وسائل إعلام أردنية وعربية عام 2015، أكد فيه أن خسائر قطاع شاحنات نقل البضائع في الأردن، بلغت 755.65 مليون دولار، منذ بداية الأزمات السياسية في المنطقة خاصة الأزمة السورية، بسبب إغلاق المعابر الحدودية مع سوريا والعراق.
معطيات تؤكد أن الأردن وقع في حالة شبه عزلة اقتصادية عن محيطه وعمقه الجغرافي والاجتماعي، وهو ما سيفرض عليه في وقت من الأوقات التراجع بشكل كبير عن أي دور سلبي كان مفروضا على عمان، أو حتى الذهاب نحو تطبيع العلاقات تدريجياً وإنكار ذلك الدور.
فتح المعابر:
رغم الأجواء والمؤشرات التي تؤكد انقطاع العلاقات الرسمية الأردنية السورية خلال السنوات السبعة الماضية، إلا أن العديد من المصادر الأردنية تؤكد استمرارية التنسيق المشترك بين دمشق وعمان، خصوصا على المستوى الأمني، وما قد يؤكد ذلك حضور الأردن كطرف مشارك غير أساسي في صياغة اتفاقية أستانا بخصوص مناطق تخفيض التصعيد في سوريا.
يضاف إلى ذلك استقبال دمشق لوفود برلمانية وشعبية خلال السنوات الماضية قدمت من الأردن لتؤكد على متانة العلاقة الشعبية وضرورة إيجاد مخارج للمأزق السياسي بين البلدين الجارين، وآخرها وفد صناعي وتجاري أردني وصل إلى دمشق مطلع أيار مايو الجاري، باحثاً سبل إعادة إحياء العلاقة الاقتصادية بين البلدين.
واللافت أن الوفد حمّل بطلب سوري رسمي، من وزير النقل في حكومة دمشق علي حمود، للمساعدة في إعادة فتح المعابر الحدودية الرابطة بين الأردن وسوريا، بحسب ما تداولت عدة مواقع إخبارية، نقلت أيضاً عن طلب ممثلي غرف الصناعة والتجارة في سوريا، واتحاد المصدرين السوريين، بإعادة تفعيل نقل البضائع، عبر القطار بين البلدين.
ويمكن القول فعلياً إن طلباً مماثلاً يمكن اعتباره كأول موقف سوري علني إيجابي تجاه الأردن، ورغم غياب المؤشرات فيما إذا كانت الحكومة الأردنية ستتلقف طلب جارتها السورية، إلا أن تصريحات أردنية أخيرة لملك الأردن عبد الله الثاني أوحت برغبة حقيقة بضرورة الحفاظ على منطقة خفض التصعيد في جنوبي غربي سوريا التي تم التوصل إليها العام الماضي بعد الاتفاق الثلاثي بين الأردن والولايات المتحدة وروسيا، وأضاف أيضاً تأكيده على دعم الأردن لجميع الجهود المستهدفة لإيجاد حل سياسي لهذه الأزمة ضمن مسار جنيف وبما يحافظ على وحدة سوريا وتماسك شعبها.
وهنا يمكن الإشارة إلى أن لا يمكن إغفال أهمية سوريا بالنسبة للأردن، حيث تشكل بالنسبة لها عمقاً جغرافياً واجتماعياً واقتصادياً هاماً، وتعتبر كظهير للأمن القومي الأردني بحسب الجيولويتك التاريخي للمنطقة، نظراً لخشية المملكة الهاشمية من التمدد العثماني، وما قد يتبعه فيما لو حققت تركيا ما كانت ترنو إليه في سوريا، من تداعيات سلبية على الداخل الأردني، ومن أوراق خطيرة يمكن اللعب من خلالها ضد النظام الملكي الهاشمي، كورقة الإخوان المسلمين.
مواقف ملك الأردن ورأس الدبلوماسية الأردنية أيمن الصفدي تؤخذ في عين الاعتبار بميزان العلاقات المتأزمة ومساعي التطبيع، تبقى مسألة فتح المعابر بما تشكله من أهمية لكل البلدين رهن تطورات الموقف في الجنوب السوري، فيما إذا كانت الجبهة بصدد الاشتعال مجدداً بقرار سوري وغطاء وتطويق أردني، لإنهاء الوجود الإرهابي في جنوبي درعا و القنيطرة، أو أن المنطقة ستخضع لاتفاقيات تسوية جديدة كتلك التي تنتقل من منطقة إلى أخرى على امتداد الجغرافيا السورية، ويتوقف أيضاً على إدراك قادة فصائل الجنوب بأن خيار المواجهة المقبل لن يصب في مصلحتهم إذا طغت رغبة الأردن وسوريا في تجاوز الخلافات السياسية تدريجياً والبدء في العمل على إعادة فتح قنوات التواصل من بوابة المعابر.
ويضاف إلى ذلك، إثبات الأردن لقدرته على التمسك بقراره السيادي، بعيداً عن الإملاءات السعودية أو حتى الغربية.
كاتب وإعلامي سوري*
مصدر الصور: موقع فيكتوي.