د. نواف إبراهيم*

يبتعد العالم العربي عن المتغيرات الاستراتيجية ومستلزماتها وتطويرها بشكل كبير. من هنا، يجب أن نخرج وبطريقة ذكية جداً، من طريقة الخطاب والتحليل الحالي “شبه الخشبي”، عند الكثير ممن يتعاطون الأحداث وطريقة فرزها ما يصعب على المتلقي استقبالها واستثاغتها، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى عدم متابعتها والبحث عن مصادر أخرى قد تكون مضللة جداً لكن مقدمة بإتقان كبير جداً يشد الانتباه ويمنع التفكير نتيجة حصوله على نتيجة مبرمجة منطقية وواقعية.

فلابد من أن يكون هناك طبقة جديدة موازية للطبقة الوطنية الحالية في المنطقة العربية بشكل عام مع الحفاظ على نهجها، وتواجه بالقوة والمنطق الطرف الثالث المخالف للتوجه الوطني والقومي بكافة مساراتها لأهداف ربحية سواء سياسية أو مادية أو ما شابه، ولا نعني هنا الخونة العارفون بخيانتهم ويتصنعون الوطنية والقومية، لكي يتم صهر هذا الطرف بطريقة سلسلة حتى يذوبوا دون أن يشعر أحد بفراغ المواجهة في غيابهم.

المواجهة الآن هي الطريقة الوحيدة لاستمرار الصمود على الجبهة الداخلية، واتخاذ وضعية الهجوم المتقن والمدروس دون تعدي الخطوط الحمراء، التي يمكن أن تنعكس سلباً على ما تم تحقيقه حتى اللحظة. الآن وكما نرى، ينقصنا نوعية جديدة من الخبراء المزودون بالمعلومة والمقدرة على الحصول عليها في أي وقت ومهما كان حجمها، حتى يبني عليها، حيث يجب أن يخضعوا لدورات رفع مستوى التأهيل في المجال الذي يفهمون فيه بالأصل وليس في المجال الذي عملوا فيه، لأن التجربة دلت على أن البقاء في مجال معين لسنوات طويلة لا يعني أن الخبير ضليع به وقادر على التعامل معه ومع معطياته المستجدة ولا حتى اللاحقة أو ما تقدم منها وما تأخر، لأسباب كثيرة وتراكمية.

من هنا، يجب أن يحظى الخبير براحة نفسية ومادية حتى لا يشغل فكره سوى العطاء وليس الاستهلاك  الفكري والفيزيائي في سد الحفر وردمها أو إطفاء نيران تستهلك قدرته على العطاء. الحقيقة المطلقة تكمن في رغبة الخبير في العطاء الفكري وتفضيل الواجب على الأمور الأخرى، إذ يجب أن تؤمن له كل المراجع التاريخية المثبتة بشكل قاطع مهما كانت مع أو ضد، والبناء عليها يجب أن يلغي التعامل بالعاطفة والمحسوبية والتوازنات، لأنه لا مجال لهذه الأمور في بناء بنية متينة قادرة على تشكيل الرأي العام داخلياً وخارجياً في كل قطاعاته، والذي تبنى عليه بالأساس كينونة الدولة وصمودها أمام أي مواجهة أو تحديات معتمدة على نفس المعلومة التي تعطى بطريقة أخرى أمام الرأي العام بحيث تصبح الحالة عكسية والنتيجة معاكسة، لأن الجسم الداخلي هو الركيزة الأساسية في هيكل الدولة وعمق تفكيرها الاستراتيجي على المديين المتوسط والبعيد.

في ظل التحديات الراهنة، وعملياً، توجد لدى الرفقاء الروس مؤسسات ومراكز بحث مختصة بكل مجال تعمل على بناء الخبراء منذ نعومة أظفارهم وفي كافة القطاعات ليكونوا قادة الدولة في المستقبل، وبالموازاة يتم وضع هيئات تقوم بوضع لوائح لكل الشخصيات الوطنية المؤثرة والموثوق بإنتمائها، ويتم استثمار خبراتها التي تم تكوينها خلال سنوات العطاء في رفع مستوى تأهيل الفئة الشابة، لبناء هرم العطاء المقرون بجهد مضاف لتأمين متطلبات الحياة. هذا ما تقوم به الدول الغربية وبعض الدول الأخرى المتقدمة استراتيجياً وفكرياً لكن بأدوات وطرائق مختلفة لأن أهدافها مختلفة وتخدم تقاطعات وطنية أو قومية أو مصلحية تخدم أطر ضيقة الهدف منها الحفاظ على كيان الدولة دون أن تكون آبهة بمصير الآخرين سواء في الجوار أو على مستوى الساحة العالمية وهذا ما يسمى أحياناً بالبراغماتية.

لذا، تقوم مراكز الأبحاث على تنظيمهم في قطاعات مختلفة، وتؤمن لهم مصادر عيش رغيد وجميع ظروف الراحة وتعمل على رفع مستوياتهم من خلال دورات مختلفة، كما تؤمن لهم الاطلاع على أحدث الطرق والتقنيات الحديثة وكيفية الحصول على المعلومة والقدرة على تحليلها من خلال النظر إليها من كل الجوانب السلبية والإيجابية والغوص في كنهها، ومعرفة مقاطعتها مع الأحداث والمتغيرات الحالية والآنية والطارئة والمستقبلية وكيفية الاستفادة من إيحابياتها للاستثمار وتجنب سلبياتها، إما في نفي الجانب أو حتى في جوانب أخرى في حال تطابقت النتائج بغض النظر عن الظرف والزمان والمكان، وحتى يكون هناك قدرة حقيقية  للاستشعار عن بعد وحساب “خط الرجعة” في كافة الحالات  والظروف، وخاصة معرفة كيفية ترك نافذة للعودة مهما كانت صغيرة في أي مواجهة لإيجاد نقاط توافق تخدم المصالح، ولا نقول إتفاقات بل نقول توافق وهنا الإختلاف كبير حسب الأزمة والجهات المتداخلة فيها وحسب تقاطع المصالح الجغرافية والجيوسياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية وما يلحق بها.

نظن أن الدولة السورية بشكل عام حتى اللحظة حققت ما يستحق أن يُدرّس في الأكاديميات بمختلف اختصاصاتها، لكن الأزمة، أي أزمة قد تكمن في أنها مترامية وغير موحدة لا بالموقف ولا بالشخوص ولا حتى بالتراتب الزمني، وخاصة في ظل تضارب المصالح بكافة أنواعها وعلى جميع الصعد، ومعظم طرق التعاطي معها أو مع الحلول تكون إسعافية. ان الحلول الإسعافية لا تعالج المرض والأزمات بالرغم من أن الدولة السورية حققت معجزات في الإنجازات، لكن يجب توحيدها وتأطيرها، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا عن طريق إعطاء حيز من التحرك والحرية وعدم الالتزام بتوجيهات وقواعد تحكمها التوجيهات المتكئة أو المرتكزة بشكل مباشر أو غير مباشر على توازنات مصالح ضيقة تخدم المصلحة لوقت قصير وتحكم شخوص معينة بهذا الجانب أو ذاك وذاك، كما انه لا مستقبل استراتيجي لطريقة التعامل معها، وإنما تعتمد على علم التقدير بالوزن القياسي لكل جانب من جوانب المشكلة التي تعتمد بعض الجهات على حلها بالطريقة الكيدية نظراً لوجود كيانات همها تدمير البنية التحتية للكوادر الصاعدة بشكل خاص والتعامل معها بطريقة القصقصة سياسياً واجتماعياً وإعلامياً وحتى بأشكال أخرى دون أي سبب مقنع أو وجود أي مبرر لمثل هذه الطرائق من التعامل والتعاطي مع المتغيرات والقائمين عليها من جهة والقيميين عليها من جهة أخرى.

فالمحلل أو الخبير الاستراتيجي هو ليس شخص كغيره ولا يجب أن يكون كغيره هو كتلة من العطاء المتجدد، وليس أي عطاء بل العطاء المسؤول عن كل كلمة وكل حرف وجملة لأنه على أساس ما يقدمه قد تبني أو تهدم أو يتعثر إسنادها في حالات الاهتزاز. إن صاحب الرؤية ومهما كانت تسميته (محلل – خبير – عارف – عالم – خبير استراتيجي) يجب أن يشعر بقيمته وقيمة عمله وأنه صاحب كلمة الفصل في الرأي دون أن يكون المقرر في تطبيقه على أرض الواقع، لأن التطبيق لا يحتاج إلى رأي وتقييم فقط بل يحتاج إلى أسس وظروف وعوامل يدعمها قرار، إلا في حالات خاصة مضمونة النتيجة وقد تكون عاجلة ومصيرية، ويجب أن يشعر بأنه ليس روبوتاً أو أداة حتى يصبح عطائه نزيهاً هادفاً وليس فقط لمجرد العطاء وسد الثغرات أو حماية الذات من البطش.  يجب أن يشعر بالأمان أمام أي تقدير أو رأي مهما كان مدى قبول هذا الرأي من عدمه من وجهة نظر البعض من الشخوص والجهات. ومن هنا، لا بد من تشكل مجلس بوجهين، وجه ظاهر ووجه باطن؛ والوجه الباطن هو الذي يقيم التقدير النهائي ويقدمه للجهات العليا في حالات العمل الأكاديمي الذي تبنى على أسس القرارات المصيرية، وبالتالي يوجّه بشكل تعاوني. أما الوجه أو الجزء الظاهر، ولا نقصد هنا بالظاهر والباطن بجسد واحد وإنما جسدان بنفس القيم وطريقة التعامل ونفس الآليات التي قد تختلف بإختلاف الظروف وملحقاتها النظرية والتطبيقية أو المادية الفيزيائية، ولهما نفس الهدف ويعملان في اتجاهين مختلفين لتحقيق هدف واحد قد يكون متعدد الفروع التي يجب أن تلتقي في نقطة ما وفي لحظة ما أو تفترق لحين وإلخ، وبنفس الأدوات مع بعض الاختلاف لبعض الأدوات بما يتناسب وعمل كل وجه.

هذا ما يمكن أن نسميه الدولة الوطنية “العميقة” ليس بالمعنى المعروف دولياً والمبني على أسس غير أخلاقية وإنسانية، وإنما نقصد عمق الانتماء للدولة الوطنية ككيان جغرافي له تاريخه وقدسيته بكافة أشكاله ومقاماته. فالكتلة الوطنية التي ترعى مصالح الدولة وتاريخها وتحافظ على كل شيء فيها وتكون جاهزة في أي وقت للتحرك من أجل إنقاذ الوطن في حال وقع في مصاب جلل، لا تستطيع الدولة بظاهرها أن تعيها أو تقدر على التعامل معها على كافة الصعد والمستويات وفي كافة المجالات، وعند هذه الحالة هم الخبراء والاستراتيجيون والباحثون الذين تبقى أعمالهم المدروسة والمنسقة بشكلها العام المستند الأساس الذي يستند عليه هيكل الدولة، ما يعني أن من الوظائف الأساسية لهم هي إما فرز إيديولوجية معينة على الساحة الداخلية لأنها مطلوبة، أو مواجهة إيديولوجيات قادمة من الخارج ومدمرة.

قد يبدو ما تقدمنا به ضرب من الخيال في وقتنا الحالي وفق مفهوم البعض وقد لا يعدو كونه فلسفة سياسية لا يبنى عليها إلا النظري، لكن في واقع الأمر الفلسفة السياسية كانت دائماً احد أعمدة البناء والتطبيق العملي للتطوير الاستراتيجي على الجانبين النظري والعملي على مدى تجارب الدول تاريخياً، وأنا أثق تماماً أن هناك أساطير بيننا تمشي على أقدام وتأكل وتشرب مثلنا. لكن يا هل ترى هل نحن على قدر المسؤولية منها حتى نستفز أو نستثمر عطاءاتها الفكرية اللا محدودة أم أن المنهجيات والمصالح هي من تبنى وتعمر الإنسان على ما يهوى البعض كأفراد أو جماعات أو مجتمعات ؟!.

*إعلامي وكاتب سياسي سوري

مصدر الصورة: مركز الروابط للدراسات الاستراتيجية والسياسية.