إعداد: يارا انبيعة

في الصين يوجد الكثير من كل شيء، ينسحب ذلك على الأعراق والأديان فلطالما كانت مثالاً يحتذى للدول الاشتراكية الناجحة في تحييد الدين عن أي مصالح للحكم أو المجتمع.

على الرغم من ذلك، يبدو أن هناك بعض المحاولات، إن لم نقل الكثير منها، للعمل على وقف الصعود الصيني، خصوصاً التجاري، في العالم من خلال التركيز على موضوع حقوق بعض الأقليات، كالإيغور، من أجل بث القلاقل و”إلهاء” الصين بمشاكل داخلية عوضاً عن تنفيذ مشروعها الإقتصادي التنموي المعروف بـ “طريق الحرير”. فهل هناك من يريد العبث؟ ربما.

لمحة عامة

يشكل الإيغور واحدة من 56 عرقية يشكلون جمهورية الصين الشعبية، وهم يتمركزون بشكل عام في منطقة تركستان الشرقية ذاتية الحكم (والتي تعرف بإسم شينجيانغ أيضاً) على مساحة تعادل 1/6 مساحة الصين، ويتواجدون في بعض مناطق جنوب وسط الصين ويدينون بالإسلام إذ تعود أصولهم إلى الشعوب التركية (التركستان)، ويعدون أنفسهم أقرب عرقياً وثقافياً لأمم آسيا الوسطى، ويشكلون نحو 45% من سكان إقليم شينجيانغ، في حين تبلغ نسبة الصينيين من عرقية الهان نحو 40%.

لقرون طوال، ظل اقتصاد المنطقة قائم على الزراعة والتجارة إذ كانت بعض المدن، مثل كاشغار، مراكز رئيسية على “طريق الحرير” الشهير، وفي أوائل القرن العشرين أعلن الإيغور لفترة وجيزة الاستقلال، ولكن المنطقة خضعت بالكامل لسيطرة الصين الشيوعية العام 1949، وأعطي الإقليم نوعاً من الاستقلال الذاتي على غرار التيبيت.

الإنفتاح جنوباً وغرباً

في العام 2013 وضمن مؤتمر دولي ضم عدداً من رؤساء الدول وكبار المسؤولين من أكثر من 60 بلداً، كشف الرئيس الصيني، شي جين بينغ، عن التصور النهائي لخطة بلاده الاقتصادية الكبرى المعروفة باسم “مبادرة الحزام والطريق”. هذه المبادرة ستغير قواعد النظام الاقتصادي العالمي بشكل جذري، برأي بكين، إذ سيبلغ إجمالي الاستثمارات الخارجية ما بين 120 و130 مليار دولار سنوياً على مدى الأعوام الخمسة المقبلة.

وتقوم المبادرة على فكرة الممرات الإقتصادية المفتوحة، وعددها وفقاً للخطة 6 ممرات تربط العالم بالإمبراطورية الصينية من خلال تشيِيد شبكات من الطرق وسكك الحديد وأنابيب النفط والغاز والموانئ وخطوط الطاقة الكهربائية والإنترنت. وبحسب مجلة فورين بوليسي، فإن هدف الصين من المشروع الضخم هو تسهيل التجارة مع 65 بلداً تمثل 60% من سكان العالم.

فالصين، تعاني اليوم من فائض الإنتاج في الكثير من القطاعات الرئيسية وهي تبحث عن أسواق جديدة للحفاظ على نمو اقتصادها، ولن يكون ذلك إلا بالمزيد من مشاريع الإنشاءات الكبرى، كما تبحث عن ممرات واضحة وثابتة للموارد الطبيعية التي تحتاجها.

وقد بدأت فعلياً في خطوات تنفيذ المبادرة، إذ أعلن جهاز التخطيط الحكومي عن أن الاستثمارات المرتبطة بمبادرة “الحزام والطريق” قد بلغت 60 مليار دولار منذ 2013، في حين بلغ حجم التجارة بين الصين والدول الواقعة على طول “الحزام والطريق” حوالي 913 مليار دولار في العام 2016 أي أكثر من ربع إجمالي قيمة التجارة الصينية.

كما استثمرت الشركات الصينية أكثر من 50 مليار دولار في الدول الواقعة على طول “الحزام والطريق” وساعدت في بناء 56 منطقة تعاون اقتصادي وتجاري في 20 من تلك الدول، ما أدى إلى تحقيق عائدات ضريبية بلغت 1.1 مليار دولار واستحداث 180 ألف وظيفة محلية. وقد أعلنت الحكومة عن انضمام أكثر من 100 دولة ومنظمة دولية فعلياً للمبادرة.

من هنا، بدأت الحكومة الصينية منذ فترة غير قصيرة برصد استثمارات ضخمة في إقليم شينجيانغ ضمن مشاريع صناعية وطاقوية وغيرها من أجل إنعاش هذا الجزء الذي هُمِّش لفترة من الزمن لحساب المناطق الساحلية الشرقية. غير أن هذا التهميش كان مقصوداً لا لشيء بل لأن الصين كانت بحاجة إلى منفذ للعالم، بعد بداية النهضة الصناعية فيها، من أجل تصريف منتجاتها، فكانت المناطق الساحلية هي الأقل كلفة والأكثر تواصلاً.

أما وأن الصين اليوم بدأت بالإنتعاش اقتصادياً وأصبح لديها فائض مالي ضخم، فقد بدأت التفكير عملياً في تنمية القسم الغربي من البلاد ككل، وليس فقط إقليم شينجيانغ، وذلك لأسباب سياسية واقتصادية وأمنية.

أبرز هذا المشاريع هو الممر البري من منطقة شينجيانغ الذي يمر في منطقة آسيا الوسطى قبل الوصول إلى الخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط وشبه الجزيرة العربية، إضافة إلى ممر بري يربط بين الصين وباكستان وينتهي في ميناء غوادار على المحيط الهندي.

وتبرز مشكلة أساسية هنا تتمثل في تنفيذ الجزء المتعلق بالمنطقة العربية من مبادرة “الحزام والطريق” الذي لن يكون سهلاً، فالحروب والإضطرابات السياسية وعدم الإستقرار الأمني تشكل أكبر التحديات أمام المشروع. وعلى الرغم من أن المبادرة لا تشمل مباشرة دولاً تشقها الصراعات، إلا أن الجو العام في المنطقة يسوده الإحتقان السياسي والطائفي ومهدد من طرف الجماعات المتطرفة دينياً ما يرفع من مخاطر الإستثمار. كذلك يمكن أن تشكل الأجهزة الإدارية البيروقراطية في الدول العربية عقبة أمام المشروع، فالسياسات العامة للحكومات في المجال الاقتصادي والحوكمة والإدارة، تعتبر أكثر العوامل تعطيلاً لكل خطط التنمية والنهضة الاقتصادية في المنطقة.

 

شينجيانغ… ثكنة عسكرية

ينشط الكثير من الإيغوريين ضد الحكومة المركزية في بكين خصوصاً لجهة المطالبة بالإستقلال وإعادة بناء دولة تركستان الشرقية، حيث نجح الإيغور في إعلان استقلالهم عن بكين مرتين في العامين 1933 وفي 1944. وترى بكين في حركة استقلال تركستان الشرقية التحدي الأبرز على مستوى الأمن والإقتصاد والإستقرار الجماعي.

ويتنامى القلق الصيني من تزايد احتمالات وقوع أعمال إرهابية في شينجيانغ، أو غيره، على يد إيغوريين متطرفين، حيث رصدت السلطات المحلية في الإقليم مكافآت مالية ضخمة لمن يقدم أية معلومات عن الأنشطة الإرهابية المحتملة، فارضة على أصحاب السيارات تركيب أنظمة تعقّب بالأقمار الصناعية، قبل نهاية شهر يونيو/حزيران 2018.

في أمر لافت، تدوي صفارات الإنذار ثلاث مرات يومياً في شوارع مدينة كاشغر، فيهرع أصحاب المحال من متاجرهم ملوحين بهراوات خشبية منحتها لهم الحكومة، ففي تدريبات إجبارية لمكافحة “الإرهاب” تجري تحت إشراف الشرطة يقاومون مهاجمين مفترضين يحملون أسلحة بيضاء، وتطوّق عربات تابعة للشرطة وقوات الأمن المنطقة بينما يدوي صوت الإنذار. كما فرضت الحكومة على أصحاب المتاجر تركيب كاميرات مراقبة ليس لتصوير ما يجري في الشارع فحسب لكن أيضاً ما يجري داخل متاجرهم وترسل بثاً مباشراً إلى الشرطة وكل ذلك على نفقتهم الخاصة.

وتقول وسائل إعلام حكومية أن التدريبات وإجراءات أخرى مثل إنشاء شبكة من آلاف مواقع الشرطة الجديدة في زوايا الشوارع تهدف إلى إشاعة الشعور بمزيد من الأمن لدى الجميع، لكن كثيراً من السكان يقولون إن تلك التدريبات ما هي إلا جزء من عملية أمنية “قمعية” تصاعدت وتيرتها في كاشغر ومدن اخرى، حيث ترى بكين أنها تواجه تهديداً ممن تصفهم بـ “الإسلاميين المتطرفين”، وتتهم انفصاليين منهم بتأجيج التوترات مع الهان، والتآمر لشن هجمات في مناطق أخرى من البلاد.

فبالنسبة للإيغور، الأمر لا يتعلق بالأمن بل بالمراقبة الجماعية حيث يقول بعضهم “ليس لدينا خصوصية… يريدون أن يروا كل ما نفعل”. في المقابل، يقول مصدر رفيع إن الإجراءات الأمنية الجديدة ليس لها دوافع سياسية لكنها تستند إلى “تطورات ومعلومات مخابراتية جديدة”.

 

أيادي تركية

تُعتبر تركيا الداعم السياسي الأبرز، إن لم يكن الوحيد للإيغور، مع معلومات متداولة عن أن عددهم في تركيا يصل إلى 300 ألف نسمة، حيث منحتهم أنقرة جوازات سفر تركية لحوالي 100 ألف منهم سبق وأن لجأوا إليها، ليس هذا فحسب بل تشير الكثير من التقارير إلى أنها تعمدت “توطينهم” في المناطق السورية الحدودية معها، بعد استقدام عائلاتهم إلى قرى جبل السماق بالتحديد بعدما تم طرد ساكنيها ومصادرة أملاكهم، في تغيير حقيقي للديموغرافيا السورية الشمالية.

من هنا، لم يكن تحول سوريا والعراق إلى قبلةٍ لـ “الجهاديين” من قبيل الصدفة، بل كان عملاً حثيثاً منظماً أخذته على عاتقها أجهزة استخبارات عالمية وإقليمية بهدف تعبئة المنطقة بالمقاتلين الأجانب، وفيما كانت أجهزة الإستخبارات الأوروبية تسهل مرور “جهادييها” بغية التخلّص منهم، في حين يتعدى دور الإستخبارات التركية، تحديداً، هذا الدور إلى محاولة النظام فيها للعب دور سياسي ــ أمني في آسيا الوسطى.

بيد أن هذا الدور أخذ طابعه الأبرز من خلال اللعب على وتر الأقليات التركمانية في محيط تركيا المباشر والبعيد، وإنشاء أذرع إرهابية تعمل لحساب الإستخبارات التركية بالوساطة عن الأميركيين، وابتزاز حكومات العديد من البلدان الشرقية الصغيرة والكبيرة؛ بينها روسيا عبر دعم الحركات الإرهابية الشيشانية، والصين عبر دعم حركة استقلال تركستان الشرقية التي تطالب بإستقلال الأقلية الإيغورية عن الحكومة المركزية الصينية.

العام الماضي (2017)، كشفت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية معلومات عن تقرير أعدّه مركز الأبحاث السياسية، في وزارة الخارجية الإسرائيلية، حول وجود 3 آلاف إرهابي صيني من الإيغور يقاتلون في سوريا إلى جانب التنظيمات الإرهابية، ولا سيما “جبهة النصرة” و”داعش” و”الحزب الإسلامي التركستاني”، لكن التقرير لم يأت بجديد سوى تركيزه على التعاون العسكري والأمني المطرد بين المنظومة الأمنية الصينية والأجهزة الأمنية السورية، ونية الصين رفع دعمها العسكري للجيش السوري بغية قتال الجماعات التكفيرية، وتحديداً المقاتلين ذوي الأصول الصينية، الذين تعتبرهم بكين خطراً مستقبلياً عليها.

إن الحصول على أرقام دقيقة حول أعداد المقاتلين الإيغور في سوريا ليس سهلاً، على الرغم من أن التقديرات تجمع على تجاوزهم عتبة الخمسة آلاف مسلح، والسبب ربما يعود إلى عدم اختلاط هؤلاء بشكل واسع مع المقاتلين من جنسيات أخرى، حتى ضمن تنظيمي “جبهة النصرة” و”داعش”، وانزوائهم ضمن “الحزب الإسلامي التركستاني” في تجمعات ومعسكرات خاصة بهم، إذ تشير معلومات إلى أن محافظة إدلب تضمّ العدد الأكبر منهم نظراً إلى قربها للحدود التركية.

وبحسب مصادر فإن للإيغور معسكرين رئيسيين في محافظة إدلب في منطقة جبل الزاوية؛ المعسكر الأول يقع في قرية “إحسم” في منطقة جبل الزاوية، ويقدر عدد الموجودين فيه حوالي 2500 مقاتل، أما المعسكر الثاني الأبرز في بلدة مرعيان ويضم حوالي 3000 مقاتل.

إلى ذلك، يذكر الكاتب الأميركي، سيمور هيرش في مقالة نشرها بداية 2016، أن حوالي 5000 إيغوري انتقلوا إلى تركيا ما بين العام 2013 وخريف العام 2015، كما يُنقل عن السفير السوري في بكين، عماد مصطفى، أن دمشق تمتلك معلومات عن 860 إيغورياً موجودين في سوريا. يأتي ذلك بالتزامن مع نشر تنظيم “داعش” إصداراً دعائياً بعنوان “أولئك هم الصادقون” خصصه لتوجيه تهديد غير مسبوق للصين بأنها باتت هدفاً له وذلك في تصعيد كبير، علماً بأن التنظيم كان قد أصدر، في صيف العام 2015، مقطعاً دعائياً آخر تضمن مقابلات مع بعض الإيغور ممن انتقلوا إلى مناطق سيطرته.

إن القلق الصيني من تنامي قوة المقاتلين الإيغوريين في سوريا واحتمالات عودتهم إلى الداخل وقيامهم بعمليات تزعزع الأمن، دفع بالصين إلى رفع مستوى تعاونها العسكري مع الجيش السوري بغية دعمه في قتال هؤلاء، فضلاً عن الرغبة في توسيع دورها العسكري في العالم، وخصوصاً في الشرق الأوسط وأفريقيا.

عقوبات “عرقية”

تدرس الإدارة الأميركية فرض عقوبات اقتصادية ستكون الأولى من نوعها على الصين بسبب الإنتهاكات التي تمارسها بكين ضد أقلية الإيغور المسلمة، بحسب واشنطن التي تسعى أيضاً إلى الحد من المبيعات الأميركية لتكنولوجيا المراقبة التي تستخدمها وكالات وشركات الأمن الصينية لمراقبة الإيغور.

وتأتي هذه الإجراءات المرتقبة بناء على طلب من أعضاء في الكونغرس، حيث تجرى مناقشات بين مسؤولين في البيت الأبيض ووزارة الخزانة والدوائر الحكومية لـ “توبيخ” الصين بسبب سوء معاملتها لأقليات مسلمة. ووفقاً لمسؤولين أميركيين سابقين وحاليين، فإن إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، تدرس فرض عقوبات ضد كبار المسؤولين والشركات الصينية على خلفية احتجاز مئات الآلاف من الإيغور وغيرهم من الأقليات المسلمة في معسكرات اعتقال كبيرة، حيث طلب أعضاء في الكونغرس من وزير الخارجية، مايك بومبيو، ووزير الخزانة، ستيفن منوشين، فرض عقوبات على سبعة مسؤولين صينيين بينهم رئيس الحزب الشيوعي الحاكم في إقليم شينجيانغ.

تسديد فاتورة الديون؟!

لقد كانت أعظم الحروب في القرن السادس عشر تتمحور حول حروب البحار والمضائق، كهرمز وباب المندب، بل أن أعظم شهرة تلك التي حققها البرتغاليون آنذاك مع اكتشافهم لـ “رأس الرجاء الصالح”. هذه النوعية من الحروب، لا يمكن أن تصدأ.

إن “طريق الحرير” البري والبحري التي تريد الصين إنشاءه يعتبر الخطوة الأخيرة في “تسيدها” على العالم اقتصادياً، في حين تخشى العديد من المدن، العربية كدبي والكويت تحديداً، مواجهة خطر “التصحر” الإقتصادي في حال تفعيل الطريق البحري ودولاً أخرى، كتركيا، تواجه مخاطر الكساد في حال افتتاح طريق الإيغور البري، إذ لا يمكن إيقاف هذا المشروع الصيني الطموح (على الرغم من التطمينات والإستثمارت الصينية) إلا ببث الأفكار الإرهابية التي تكون عادة مطواعة ومرغوبة.

فهل تكون دماء عشرات الآلاف من الإيغوريين دية السندات الصينية في الخزانة الأمريكية خصوصاً بعد وجود إشارات غربية واضحة لتحريك الأطراف ضد المركز؟

مصدر الأخبار: وكالات.

مصدر الصور: سبوتنيك – نون بوست – بوابة العين.