مقدمة الدكتور علوان أمين الدين
مساء الخير وأهلاً وسهلاً بالحضور الكريم. نتحدث اليوم عن الأزمة الفرنسية ومستقبل الإتحاد الأوروبي حيث نستضيف معنا الباحث والكاتب الفرنسي – اللبناني الأستاذ أنطوان شاربنتييه، المتخصص في العلاقات الدولية والشأن الأوروبي، ماجستير في التاريخ وعلوم الأديان ويقوم بتحضير رسالة الدكتوراه عن الأزمة السورية ومنطقة الشرق الأوسط. له العديد من الكتابات باللغتين الفرنسية والعربية.
سنختصر بشكل محدد وسريع عدد من النقاط المهمة في الموضوع، وأبرزها الأزمة الفرنسية وسياسة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الإقتصادية، “السترات الصفراء” إلى أين، مدى تأثير الخلاف الفرنسي- الإيطالي على المستقبل الأوروبي بشكل عام، صعود اليمين في أوروبا ومداه، فرنسا وألمانيا أهم دول الإتحاد الأوروبي، فإلى أين تتجه فرنسا ومعها الإتحاد الأوروبي.
كل هذه النقاط وغيرها ستكون محور حلقة النقاش هذه، ونرحب بالأستاذ أنطوان ونشكره على حضوره ونشكر حضوركم.
الأستاذ أنطوان شاربنتيه
شكراً لكم جميعاً على حضوركم. في الحديث عن الأزمة الفرنسية ومستقبل الإتحاد الأوروبي، سنناقش أربعة محاور:
الأول: الأزمة الفرنسية، أزمة فرنسية اجتماعية وسياسية.
الثاني: الإنفجار وحركات “السترات الصفراء”.
الثالث: ما هي نتيجة هذه الإحتجاجات؟
الرابع: مستقبل الإتحاد الأوروبي.
المحور الأول: الأزمة الفرنسية
الأزمة الفرنسية هي أزمة اجتماعية وسياسية، وجذور الأزمة التي تعيشها فرنسا في هذه الأثناء، بدأت في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي، الذي فرض سياسة تقشف على فرنسا، واتبعها بعده الرئيس فرانسوا هولاند، ومن ثم الرئيس ماكرون، بإيعاز من بروكسل والإتحاد الأوروبي. وازدادت سياسة التقشف هذه مع قضم بعض الحقوق الإجتماعية التي هي من البنية الأساسية للنظام الفرنسي، إذ أن الشعب الفرنسي كافح طويلاً للحصول عليها وبناءها.
ما أدى إلى تفاقم الأزمة التي نراها الآن في فرنسا يكمن في سياسة التقشف التي أفقدت أرياف وضواحي المدن، خصوصاً المدن الكبيرة، أدنى الخدمات الإجتماعية، وجعلت هذه المناطق تابعة إجتماعية وخدماتية للمدن الكبرى، كباريس وليون ولييل ومارسيليا. بعد ذلك، أتى الرئيس هولاند بمسار إصلاح وتنظيم المحافظات جغرافياً، ليزيد ويعمق إفقار الأرياف والضواحي اذ وضع فرنسا على نهج جغرافي فيدرالي شبيه بالنهج الألماني. والدليل على ذلك فهو ما شهدناه من تحركات لـ “السترات الصفراء” التي بدأت بزخم كبير منطلقة من الأرياف، متوجهين إلى باريس للتظاهر. من هذا المنطلق، فإن سوء التعامل والتقدير والإدارة كلها عوامل أدت إلى تفاقم المشاكل وزيادة حدة القلق لدى الشعب الفرنسي من سياسات حكوماته المتعاقبة، وهذا من الجانب الإجتماعي.
أما من الجانب السياسي، فمنذ عهد الرئيس ساركوزي فقدت فرنسا رجال الدولة وأصبح هناك إنحطاط سياسي مقلق جدا فيها. فعلى سبيل المثال، الرئيس ماكرون كالرئيس هولاند، والرئيس ساركوزي كالرئيس ماكرون، وجميعهم لم يكترث إلى مطالب الشعب وقلقه، إذ كان يجب عليهم تدارك الأمور قبل الوصول إلى ما نحن عليه الآن، لا بل تراهم قد اتبعوا تصرفات مستفزة للشعب الفرنسي. فعلى سبيل المثال، رفع الرؤساء الثلاثة برواتبهم عندما قدموا للحكم، وفرضوا سياسة تقشف وهذا الأمر غير منطقي وقد أقلق الفرنسيين واستفزهم بعض الشيء.
إضافة إلى ذلك، أكملت الحكومات المتعاقبة مسيرة سوء الإدارة والتبذير وفرض المزيد من الضرائب بهدف التعويض عن خياراتها الإقتصادية والحياتية والضريبية الخطرة. ومن ثم أتى الرئيس ماكرون، رئيس لا يحظى بإجماع فرنسي لا على شخصه ولا على مشروعه إذا كان هناك من مشروع بالأساس، كبديل عن وصول اليمين المتطرف إلى الحكم، فحصل على 66% من إجمالي أصوات الناحبين، وفي الوقت نفسه مهدت له الطريق لأنه الشخص المناسب لتحقيق بعض الأهداف. وما زاد من سلبيات سياسة التقشف، التي فرضها الرئيس ماكرون، أنها فاقمت الوضع الإقتصادي وزادت من إفقار الضواحي أكثر وأكثر إلى جانب العديد من الأرياف الفرنسية الأخرى.
أيضاً، يمكننا ملاحظة مسألة مهمة وهي عدم وجود إجماع على شخص الرئيس ماكرون وفكره ومنطقه السياسي، فشخصيته وخطابه مستفزان للشعب الفرنسي. ففي عدة خطابات له اعتبر الشعب الفرنسي أن رئيس جمهوريته يهنه، وطريقته في التعامل كانت مستفزة أيضاً. مثلاً، مع اشتداد الإحتجاجات، كان الرئيس ماكرون يتنزه، كل سبت، في منطقة معينة ويستجم بينما المتظاهرون في الشارع ويريدون دخول الإليزيه فيما هو غير مكترث. لكن اللافت في الأمر تعمده استخدام هذه السياسة لأن عمليات الشغب تخدمه.
إن شعور ماكرون بأنه “ملك على فرنسا”، فالفرنسيون يلقبونه بـ”جوبيتر”، وسياسته التقشفية، كانت السبب الرئيس في انتفاضة الفرنسيين خصوصاً وأنه تقرب من طبقة الأغنياء وأعطى لمصالحهم الأولوية على حساب الطبقات المتوسطة والفقيرة، وخصوصاً المتوسطة التي تدفع الضرائب. أضف إلى ذلك، أن موالاته للمشروع اليوم، أي للسيادة الأوروبية على حساب وسيادة فرنسا، يقلق الفرنسيين أكثر وأكثر، وهنا تبرز مشكلة التمثيل، التي لم تكن مطروحة في عهد أسلافه أي ساركوزي وهولاند. فالرئيسين السابقين، لم يكن لديهما مشكلة “عدم تمثيل” الشعب بالرغم من المشاكل التي حدثت في عهدهما وتدني شعبية كل منهما، لكنها لم تصل إلى حد اعتبار الشعب لهما بأنهما لا يمثلانه، كما يحصل مع الرئيس ماكرون اليوم. وبالعودة إلى الأصوات التي حصل عليها الرئيس ماكرون، تقول الدراسات إن إجمالي الأصوات التي انتخبته تشكل 66%، لكن الحقيقة هناك هي فقط 12% من الناخبين بشكل مباشر، أي أن وجهة نظر الشعب برئيسه باتت واضحة إجمالاً من خلال ما سبق من إحصاءات.
إن سياسة التقشف الحادة للرئيس ماكرون ومحاولته تثبيت مكانته على الساحة الدولية، وترك الشأن الداخلي، وانصياعه لأوروبا أو بالأحرى لألمانيا، وزيادة الضرائب بطريقة غير مبررة، كل تلك العوامل أدت إلى انفجار الأوضاع في فرنسا تحت راية “السترات الصفراء”. لكن ما يجب ذكره هنا، أن هناك أحاديثاً تم تناقلها في كواليس اليمين المتطرف، العام 2018، تقول وتبشر بأن الفترة ما بين آواخر العام 2018 وبداية العام 2019، سيتم فيها “قلب الطاولة” على ماكرون، لتأتي بعدها حركة “السترات الصفراء”، التي أخذها البعض ذريعة سواء كانت الجهة اليمين أو اليسار المتطرفين اللذين يعتبران وجهان لعملة واحدة.
المحور الثاني: حركة “السترات الصفراء”… إيجابيتها وسلبيتها
في الشق الإيجابي، قام هذا التجمع كحركة شعبية من مختلف الطبقات الاجتماعية والأعمار، حيث عبر الشعب الفرنسي، بكل حرية وديمقراطية وحضارة، عن غضبه من سوء الأوضاع. هذه الإحتجاجات التي بدأت في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، بدات عملياً في 5 نوفمبر/تشرين الثاني، لكن في 17 منه انفجرت بالشكل الذي رأيناه، لكن سرعان ما حدثت تطورات عدة أدت إلى انكفاء أعداد كبيرة من المتظاهرين عن المشاركة فيها، وبالتالي العودة من الشارع في ردة فعل عكسية بمن فيهم من هم ضد سياسة الرئيس نفسه.
فعلى سبيل المثال، أقامت “السترات الصفراء” حواجز ضمن عدد من المناطق الفرنسية تحت أعين رجال الأمن الذين تعاطفوا معهم في البداية. من على تلك الحواجز، كان بعض المحتجين يقومون بشتم الناس لعدم مشاركتهم، إلى جانب إغلاق الطرقات ومنع الناس من الذهاب إلى منازلهم وأعمالهم بحجة شل الإقتصاد، فلقد كان بالأحرى أن يعملوا على جلب الناس والقوى الأمنية إلى صفهم حيث كان هناك أكثر من 80% من الفرنسيين في الشارع. والسؤال المطروح هنا: من كان يقف فعلياً على تلك الحواجز؟
هذه التصرفات، خدمت الرئيس ماكرون الذي كان يراهن على وقوع أعمال الشغب والتخريب، حيث شكل ذلك فرصة مهمة للإعلام الرسمي لـ “شيطنة” الحركة وأفرادها، وإلصاق تهم التخريب بهم من اليمين واليسار المتطرف وغيرهم. فلقد خرج الكثير من أفراد الشعب الفرنسي من الشارع لهذه الأسباب ولأسباب أمنية أيضاً، فالذاهب إلى التظاهر في باريس لا يعلم إن كان سيعود أم لا سواء من عناصر الشرطة الفرنسية أو من الحركة. من خلال ذلك، أخذت بعض الأحزاب المتطرفة أغلبية الشعب الفرنسي كرهينة، وساعدوا الرئيس ماكرون بطريقة غير مباشرة على حصول تصادم ما بينهم وما بين القوى الأمنية، الذين هم أيضاً متضررون كطبقة من أفراد الشعب من السياسات الليبرالية والنيو – ليبرالية التي ينتهجها الرئيس ماكرون وأسلافه.
قد أظهر الرئيس ماكرون أكثر فأكثر عدم إصغائه أو اكتراثه، فإنتقل الصراع من مطالبات اجتماعية وحياتية إلى صراع حول السلطة، ورأينا كيف حذر من بدء الصراع حول السلطة متبعاً مقولة “فرق تسد”، رامياً بعض “الفتات” والوعود للشعب مع علمه اليقيني بأنه لا إمكانية لتنفيذها وخصوصاً أن ميزانية فرنسا المالية توقع في بروكسل لا في باريس. على سبيل المثال، وعد الرئيس ماكرون، في خطابه الشهير بعد شهر ونصف من الإحتجاجات، بيرفع الحد الأدنى للأجور لكن في الحقيقة هو رفع ما نسميه المكافأة على عمل للعائلات المحدودة الدخل، وهم بحسب الإحصاءات حوالي 5 ملايين عائلة. فالحقيقة أنه لم يرفع الحد الأدنى للأجور بل فرضت شورط معينة على تلك العائلات للحصول على تلك المكافأة وتقديم طلب وما إلى ذلك. كما وعد بتخفيض الضرائب على المتقاعدين الذي لا يصل دخلهم إلى 2000 يورو شهرياً، لكنه في المقابل لم يخفض أسعار المحروقات ولم يخفض الضريبة على القيمة المضافة التي تطال السلع اليومية، كما أنه لم يأخذ بعين الإعتبار المطالبات الحياتية واليومية للشعب الفرنسي.
كل تلك الأمور أدت إلى عزوف العديد من الفرنسيين عن النزول إلى الشوارع لأنهم كانوا مرتابين من “السترات الصفراء”. بالتزامن مع ذلك، نفذ الرئيس ماكرون وعوده “الفاشلة” وغير المجدية، ما انعكس سلباً على المطالب المحقة سواء من الناحية الحياتية أو حتى الأمنية.
المحور الثالث: نتائج الإحتجاجات وسياسة ماكرون الحالية
في الحقيقة، ليس هناك من نتيجة واضحة حتى الآن من حركة “السترات الصفراء” وهذا مرده إلى انعدام الثقافة السياسية لديهم بعض؛ فالثقافة السياسية بشكل عام، معدومة في فرنسا والإنحطاط الثقافي والإجتماعي والسياسي لا مثيل له. فبعض الطبقات الإجتماعية الفرنسية ثقافتها معدومة كلياً، ولسوء الحظ بعض المحتجين من “السترات الصفراء” ليس لديهم من المستوى المطلوب من الثقافة السياسية.
أما بالنسبة إلى سياسة ماكرون، فهي لم تعطِ النتيجة المرجوة منها، فهو الآن يلهي الفرنسيين بالحوار الوطني، بينما المطالب لم تتحقق، داعياً إلى “حوار وطني”، ولكن لماذا ومع من، ومن يتحاور مع من؟ لقد أقام الرئيس ماكرون حواراً مع رؤساء البلديات، وبدورهم يقومون بالحوار مع الشعب، وهذا ما لم يحدث. كل ذلك يصب في خانة المناورات الإعلامية، فلحد الآن ليس هناك من أجوبة على الأسئلة المطروحة.
بالنسبة إلى حلول الأزمة، يمكن القول بأن الحل الأول، هو الإصغاء إلى المطالبات، كرئيس وحكومة، وأخذ ما يقوله الشعب الفرنسي بعين الإعتبار. أما الحل الثاني المطروح فهو إستقالة الرئيس ماكرون، التي قد تشكل مدخلاً لحل الأزمة القائمة بحسب الكثيرين. غير أن المشكلة ليست بالإستقالة من عدمها كونها لا تغير شيء بالمعادلة، فالمشكلة الحقيقية بالإنحطاط الثقافي والسياسي إذ ليس هناك من رجل أو امرأة، يعملون بالحقل السياسي، لديهم أي مشروع واضح نزيه ومتين يستطيعون من خلاله إخراج فرنسا من الأزمة، فأي بديل عن الرئيس ماكرون لا يستطيع تغيير الواقع لأن قرار فرنسا السياسي والإقتصادي ليس بيد الرئيس، بل بيد بروكسل وبيد أمريكا بشكل أكبر.
من هذا المنطلق، قد تشكل إستقالة ماكرون حلاً، لكن المشكلة هي عدم توافر البديل الذي يستطيع قلب الأوضاع في فرنسا؛ فمن سيأتي إلى الحكم، سيتبع المسار نفسه مع بعض التعديلات أو التفاصيل الصغيرة التي لن يكون لها الكثير من الأهمية.
في نفس سياق التدهور الإقتصادي، نرى أن حركة “السترات الصفراء” تخطت الحدود الفرنسية. ففي بلجيكا وإسبانيا وإيطاليا سترات صفراء أيضاً، أي أن هناك انتشار لهذه الحركة على الصعيد الأوروبي. فعلى الرغم من أن المنظومة الاقتصادية ما زالت سليمة بعض الشيء في أوروبا، إلا أن خروج المحتجين يأتي في المقام الأول لإحقاق الكرامة، ولو اعترضتهم صعوبات. أضف إلى ذلك، هناك أيضا سباق ما بين اليمين المتطرف الفرنسي واليمين المتطرف الأوروبي، وبين اليسار المتطرف الفرنسي واليسار المتطرف الأوروبي، من يسبق من، ومن يفرض آرائه على حكوماته، فهناك سباق حقيقي وأبرزه ما يحدث بين إيطاليا وفرنسا مثلاً. اليوم هناك تماهي ما بين اليمين الإيطالي المتطرف الحاكم وبين اليمين المتطرف الفرنسي، وكلاهما يساندان بعضهما الآخر.
المحور الرابع: مستقبل الإتحاد الأوروبي
اليوم، يعيش الإتحاد الأوروبي أزمة كبيرة قد تهدد مستقبله بشكل جدي. بالحديث عن فرنسا، هناك تدخل ألماني أخطر من التدخل الإيطالي. نحن نعرف ماذا يريده اليمين المتطرف، لكن لا نعرف الألمان ماذا يريدون من أوروبا. ما نعرفه أنهم يريدون قيادة أوروبا، لكن تحديداً لا نعرف ما هو مشروعهم.
كلنا يعلم بأن الإتحاد الأوروبي يقوم على منظومة إقتصادية؛ أما سياسياً، فهناك خلافات كبيرة ناتجة عن عدم وجود رؤية سياسية، ومن عدم توحيد المصالح. من هنا، نرى صراعاً فرنسياً – ألمانياً على قيادة الإتحاد الأوروبي، وهذا الصراع خفي وغير معلن، إذ أن هناك من بعتبر بأن مستقبل الإتحاد الأوروبي يكون ألمانياً أو لا يكون. أيضاً، يوجد صعود للحركات الشعبوية ووصول اليمين المتطرف الفرنسي، خصوصاً، لعدة مفاصل في الحكم إذ لديهم موظفين درجة أولى ورؤساء بلديات ونواب بالبرلمان الأوروبي، الذي يعارضونه. النتيجة، هناك احصاءات تقول إن استيلام اليمين المتطرف الحكم سيكون أفضل مما قدمه ماكرون.
لقد حررت الأزمة الفرنسية إرادة قسم كبير من الشعب، في البلدان المجاورة كذلك، أكثر بمناهضتهم للإتحاد الأوروبي كمنظومة إقتصادية وسياسية وثقافية، فمشكلة الإتحاد متعددة الأبعاد، ومنها وجود هيمنة أمريكية على قراره وسياسته الخارجية، وهنا يمكن الحديث عن فرنسا بالتحديد التي تعتبر فاقدة للسيادة في هذا المجال، إضافة إلى وجود نهوض شعبوي وتطرف ديني، إسلامياً أو مسيحياً، تتمثل في اتباع مظاهر غير مألوفة لم نعتد عليها في فرنسا من قبل، وهناك مشكلة إقتصادية، وأيضاً مشكلة بين الأوروبيين أنفسهم، فبعضهم يشاركون في المنظومة السياسية الأوروبية والبعض الآخر يعمل جاهداً لتفتيت الإتحاد الأوروبي.
من ناحية أخرى، رأينا مؤخرا كيف أبرم الرئيس ماكرون المعاهدات ووقع الإتفاقات مع ألمانيا ولأي سبب ودونما حاجة لذلك. فبعد إصلاح المحافظات في عهد الرئيس هولاند، أصبح هناك تداخل جغرافي ما بين ألمانيا وفرنسا من ناحية الألزاس وستراسبورغ، فشعوب هذه المنطقة لا يتكلمون لا الألمانية ولا الفرنسية، غير أن برلين تعتبرهم من عداد مواطنيها. هنا، يجب التنويه أن هذا الموضوع يعود إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية وحتى الآن ما زالوا يعملون على نفس المشروع. هذا التداخل الجغرافي أدى إلى تفاقم الأزمة لأن الفرنسيين بدأوا ينتبهون أن بلادهم قد تصبح فيدرالية كألمانيا، وألمانيا تهيمن عليها وتتداخل جغرافيا معها، إضافة إلى أنها متداخلة الآن معها سياسياً وإقتصادياً.
أما بخصوص المعاهدات التي يوقعها الرئيس ماكرون، نرى وجود تمني ألماني لمشاركة فرنسا مقعدها في مجلس الأمن لأن برلين لا تمتلك مقعداً دائما فيه. هنا، قد “يتكارم” الرئيس ماكرون عليهم به إذا لم يستطيعوا الحصول على مقعد في مجلس الأمن (بحسب العديد من المشاريع المقدمة لإصلاح الأمم المتحدة) أو على الأقل قد يصبح المقعد أوروبياً. لكن الأخطر أن فرنسا هي القوة النووية الوحيدة في أوروبا، وهناك فكرة متداولة في باريس تقول بوجود سعي لدى الرئيس ماكرون لوضعها تحت السيادة الأوروبية، أي تحت السيادة الألمانية فعلياً، فبرلين تسعى، منذ سنوات، للحصول عليها والإستحواذ على ما تبقى من هوية وسيادة فرنسا.
د. علوان
نشكر الأستاذ أنطوان على هذه المعلومات القيمة، ونترك الباب مفتوحاً الآن لأسئلة ومداخلات الحضور الكريم.
العميد إلياس فرحات
هل سيتخلى ماكرون عن المقعد الدائم بمجلس الأمن لألمانيا، هل هذا الأمر صحيح أم أنها مجرد استنتاجات؟ وهل هناك تقارير إعلامية حول الموضوع؟
الأستاذ أنطوان
تم التوقيع على المعاهدة الأخيرة منذ وقت قريب، في أكس لاشابيل، بين الرئيس ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وهي ما قد تعد تمهيداً لهذا الموضوع وذلك من خلال قراءة بعض السطور فيها. أما بالنسبة إلى وجود تقارير، فهذا الأمر ليس متداولاً في الإعلام.
الصحافي الأستاذ كمال ذبيان
من هو قائد جماعة “السترات الصفراء”؟ وهل هناك من “ربيع أوروبي”؟
الأستاذ أنطوان
حتى الآن ليس هناك أي قيادات، بل بعض الأحزاب التي تحشد عبر وسائل التواصل الأجتماعي، كـ “فايسبوك”. ما يمكن قوله هنا إن مستوى الإنحطاط السياسي بات على أشده، فهناك العديد من الأحزاب الفرنسية تبرأت من هذا التحرك، وبعضهم يقومون بالتحشيد من المنازل، كمارين لوبان وجان لوك ميلنشون. وبالتالي، لا جدوى أو نتيجة من هذا التحرك، خصوصاً مع فقدان القدرة على تنظيم أنفسهم.
الدكتور حيان حيدر
لقد طرحت المحاضرة جولة واسعة من تأسيس أوروبا ومركزية أوروبا إلى “السترات الصفراء”. لكننا سنحصر الأسئلة فيما ورد، وأبرزها مركزية أوروبا في بروكسل. هناك نقاش سمعته من الإنكليز، خلال “البريكست”، وهم محقون فيه، جزء منه يتعلق يالسياسة الخارجية وسياسة الدفاع. من وجهة نظر البريطانيين، فهم يعتبرون بأنهم هم من علموا الناس الديمقراطية ووضع القوانين والأنظمة المالية والدفاعية والإقتصادية والسياسة الخارجية أيضاً. ومنذ الحرب العالمية الثانية، صادرت الولايات المتحدة، عل الأقل، السياستين الخارجية والعسكرية، وننتظر اليوم من سيتعين رئيساً للبنك الدولي. سؤالي الآن، كم هو عدد الدول الأوروبية التي لديها نفس التساؤل: كيف نعطي أناساً لم ننتخبهم ولم نخترهم، كمنسقة السياسة الخارجبة في الإتحاد فيدريكا موغريني ورئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، الحق بوضع سياساتنا والتحكم بنا؟
السؤال الثاني وبالرغم من أن موقف الرئيس ماكرون والمستشارة ميركل الذي تم الحديث فيه مع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، فيما يخص موضوع إنشاء الجيش الأوروبي، حيث كان الرد “الإنخراط في الناتو”. وفي نفس السياق العسكري، هناك أصوات كثيرة، أبرزها ألمانيا، تعتبر أن واشنطن، ومنذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، تقوم بتضخيم “التهديد” الروسي وهي تريد الخلاص من هذا الأمر، خصوصاً وأن روسيا جارة لدول الإتحاد وتعتبر جزءاً من أوروبا، وأن يكون التعاطي مع موسكو على هذا الأساس وليس على أساس عدائي لأن واشنطن قررت ذلك.
بالنسبة إلى الشق السياسي في أوروبا نفسها، نرى بأن هناك يمين يمين ويسار يسار. وبالنظر إلى الداخل الفرنسي على سبيل المثال، بأنه لا يوجد أية تغييرات. فعلى سبيل المثال، ارتفعت أصوات لوبان بنسبة معينة فجأة، الرئيس ماكرون أتى من خلفية غير حزبية. هذا الأمر لم نكن نشهده في السابق. اليوم، يمكن القول بأن اليمين أصبح “يمينين”، اليمين المالي أو الليبرالية المالية، واليمين التعصبي وهو ما أود بأن تطلعنا عليه.
وأخيرا فيما يخص “السترات الصفراء”، هل يمكن القول بأن أوروبا، المعول عليها إقتصادياً وسياسياً، أصبحت في الطريق إلى نهاياتها؟
الأستاذ أنطوان
فيما يخص ما تفضلت به، هل ممن الممكن القول بأن الشعوب الأوروبية واعية على أنها لم تنتخب موغريني أو غيرها من يتحكم بنا؟ اليوم، إن الشعب الأوروبي، والفرنسي، واعي لهذه المشكلة الكبيرة، خصوصاً مع العمل المضني الذي قامت به كل من الولايات المتحدة وإسرائيل لوضع رجالاتهم في السلطة ومواقع القرار الحساسة بما فيها لمنظومة الأوروبية، مستبقين ذلك بنزع كل الإمكانيات التي تمتلكها الشعوب، مفرغين الديمقراطية من مضامينها قبل إحداث المشكلة.
عند هذه النقطة بالذات، وصلت الشعوب إلى نتيجة مفادها عدم القدرة على معالجة المشكلات، أو مقاومتها، أو حتى السبيل إلى ذلك. لم يتبقَّ شيء. فالشعوب منتفضة لأنها تعلم بأن المشكلة تمس وجودهم، لكن لا إمكانيات متوفرة لديهم، وبات الأمر مفروضاً عليهم كأمر واقع. إذاً المنظومة الأوروبية خاضعة كلياً اليوم للولايات المتحدة ومحورها؛ فعندما تخسر واشنطن كل معاركها، ستكون أوروبا “مكسر العصا”. إضافة إلى ذلك، إن الساسة الأوروبيين يسيرون على نفس النهج في الجوهر، وإن كانوا يتباينون في المواقف. على سبيل المثال، أوروبا كأمريكا تريد الهيمنة على الشرق الأوسط والسيطرة عليه وعلى الموارد الطبيعية، لكن الأوروبي لا يزال لديه القليل من الخجل للتطبيق، على عكس “وقاحة” الأمريكي.
بالنسبة للنقطة الثانية حول الجيش الأوروبي الموحد، تكلمنا كثيرا، وفي كتاب “صراعات على حافة الهاوية” للدكتور علوان ناقش موضوع الجيش الأوروبي، وهي فكرة مطروحة منذ العام 2016، وهي ليست فكرة فرنسية بل فكرة ألمانية. فلكي تستطيع برلين الهيمنة على قيادة أوروبا، فإنها تحتاج إلى جيش على شكل “الناتو” للحرب أو الدفاع وهذا مبحث آخر. فعندما زار الرئيس ترامب فرنسا مؤخراً، أخذ بترتيب الأمور بين ماكرون وبين ميركل، أي تبادل أدوار وترتيب مصالح. وعندما تحدث الرئيس ماكرون عن الجيش الأوروبي، أتاه غضب “تويتري” لا مثيل له من الرئيس ترامب. مذ ذاك الوقت، لم نعد نسمع بالموضوع.
وهنا توجد نقطة مهمة يجب الحديث عنها. في حال نجحت ألمانيا بتشكيل الجيش الموحد، فهذا يعني أن انهيار الحلف الأطلسي. حتى الآن، لا تتداول ألمانيا بهذه المسألة عقب تصريحات الرئيس ترامب. من وجهة نظري، لا أعتقد، وقد أكون مخطئاً، أن ما يحصل في فرنسا هو بسبب حديث ماكرون عن الجيش الأوروبي الموحد، فالحدثين منفصلين.
النقطة الثالثة بالنسبة لليمينين، فاليمين المالي لا يكترث له كثيراً من هذه الناحية لكونه يمتلك هوية ليبرالية ولديه المال. أما اليمين المتطرف الديني، الموجود في الواجهة، فهو الأكثر خطر على أوروبا؛ فمع تعاظم وتقدم اليمين المتطرف الديني “المسيحي الكاثوليكي” في فرنسا، لا فرق، برأيي، بين فكرهم وفكر “داعش”، لكن الأخير يمتلك السلاح وهو ما ينقص اليمين المسيحي، وهو ما لا اتمنى ان يحدث مستقبلاً.
كل هذه العوامل، ستؤدي إلى انهيار الإتحاد الأوروبي إن لم يتم تدارك الأمور، فالمستقبل قد يكون أسوأ خصوصاً مع المخاص الذي يشهده مسار العلاقات الدولية والنظام العالمي الذي أصبح في طور الولادة؛ فمن بعده، يمكن أن يولد نظام إقتصادي عالمي جديد سيؤثر على أوروبا، لا سيما وأن ولادة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب سيعني سقوط الهيمنة الأمريكية ومحورها. وبالتالي، فإن الأزمة الأوروبية ستتفاقم أكثر وترتد تداعياتها على كل دول القارة ككل، ومن الممكن أن نشهد انتهاء للإتحاد الأوروبي بشكله الحالي، أما الصيغة القادمة فهي غير معروفة وليس هناك رؤية واضحة. فخلال 30 عاماً، لم تقم اوروبا بأي شيء في هذا الخصوص، والشاهد على ذلك ما يحدث اليوم من خلال تحرك “السترات الصفراء” التي تؤكد ما قلناه لجهة إنعدام الرؤية السياسية التي تشكل الخطر الأساس على مستقبل الإتحاد الأوروبي.
الدكتور هادي دلول
أنا أريد العودة إلى موضوع البتروكيمائيات الموجود في شرق المتوسط، لا سيما مع الوجود الفرنسي في المنطقة، من خلال شركاتها العملاقة توتال ورينو وبيجو (التي لا تمتلك فقط السيارات بل أجهزة هيدروليكية تستعمل في قطاع الطاقة النووية لأنظمة الطرد المركزي). اليوم، وإذا لم يقم الرئيس ماكرون بإتخاذ قرار جدي استثماري لمصلحة فرنسا فستكون المرحلة القادمة خطرة بالنسبة لتلك الشركات. المنطقة اليوم، وفي العام 2019 تحديداً، تشهد الكثير من التغيرات والمفاجآت بكل المقاييس على صعيد دول العالم، في الخليج وشرق المتوسط وأوروبا وتركيا تحديداً وما يتعلق بسوريا، والتوترات الإقتصادية أبرزها خروج توتال من القطاع النفطي الإيراني. هل يتخذ الرئيس هذا القرار؟
الأستاذ أنطوان
السؤال اليوم: هل لدى الرئيس ماكرون الإمكانية لأخذ القرار، وهل له الإرادة لذلك؟ ما قلته مهم جداً على الصعيد الشرق أوسطي، لكن ليس هناك من معرفة على الصعيد الفرنسي الشعبي الداخلي. إضافة إلى ذلك، لو أن الحكومة الفرنسية قد سمحت بالإستثمارات ووصل المال إلى الشعب كحد أدنى، ما كانت لتحدث حركة “السترات الصفراء”؛ لا بل استغل الرئيس ماكرون الإستثمارات وما تبقى منها، هو والطبقات والإليغارشية والليبرالية والأغنياء، وقابلوها بفرض المزيد من الضرائب على الطبقات المتوسطة للتعويض عن خيارتهم.
أما فيما يخص عودة الشركات الفرنسية للعمل في إيران، من خلال وجهة نظري لا أعتقد أن ذلك ممكناً في الوقت الحالي لا مع الرئيس ماكرون ولا غيره إلا إذا سقط الرئيس ترامب وسقطت معه المنظومة الصهيونية.
الدكتورة صفية سعاده
“السترات الصفراء” هي مظهر من أزمة الإتحاد الأوروبي وليس هولاند أو ماكرون أو غيره، لأن القرار بالسيادة لم يعد للدولة القومية، فمع وجود الإتحاد الأوروبي باتت السياسات خارج السيادة المحلية للدول وبالتالي خارج الأطر الديمقراطية. بالتالي، فالقرار اليوم ليس بيد ماكرون ولا الشعب كما كان معتاداً عليه أيام الدولة القومية الفرنسية.
بالنسبة إلى الإتحاد الأوروبي، يمكن تسجيل دور إيجابي له في عهد العولمة التي انتهت مع الرئيس ترامب. بالتالي، أصبح الإتحاد الأوروبي مأزوماً، وليس فقط الفرنسيين بل اليونان، على سبيل المثال، يعاني من التقشف، وغيرهما من الدول كإسبانيا وإيطاليا، وهذا يعني أن الإتحاد الأوروبي لا يستطيع الإقلاع من جديد لأن العولمة انتهت. فهل قد نعود إلى الدولة الأوروبية القومية الإعتيادية إذا دخلت حركة “السترات الصفراء” وغيرها في انتخابات الإتحاد الأوروبي فخرجت بريطانيا عبر “البريكست” بسبب أن شعبها يريد أن يكون سيد قراره؟ فمن يأخذ القرار إذا كان الإتحاد الأوروبي، أي رأس المال، ليس قادراً في وقت لا يمتلك الشعب هذه القدرة؟
الأستاذ أنطوان
نوعاً ما. لأكون صريحاً معك. أنا لا أتمنى أن يكون هناك ديمقراطية مباشرة في فرنسا وذلك بسبب وجود الإنحطاط السياسي والثقافي والإجتماعي الحاصل اليوم نتيجة السياسات العوجاء كما ذكرنا فيما سبق. إن الديمقراطية المباشرة قد تكون السبب المباشر في حدوث حرب أهلية.
د. صفية
(إعتراض) من لديه ديمقراطية لا يتعلم إلا بالممارسة، فالشعب لا يعرف المبادئ السياسية لأنه لا يمارسها وهذا سبب وجود العديد الدكتاتوريات. أنت لا تستطيع أن تتقدم سياسياً ما لم تمارس الديمقراطية التي تعتبر وسيلة للتعبير.
الأستاذ أنطوان
لقد كان الأجدر أن تدرك السياسات الأوروبية وأنظمتها من البداية الأمر ولا تصل إلى النقطة التي وصلت إليها الآن.
د. صفية
صحيح لأنهم اعتبروا أن الاقتصاد هو الأهم وهم لم يدركوا بأن العولمة قد تسقط. ومع سقوطها وفقدان الولايات المتحدة قدرة السيطرة على الموارد التي بدأتها الصين اليوم، انتقل الفقر إلى أوروبا. فبدأ الإنهيار لأن الإقتصاد لم يعد موحداً.
د. علوان
الصراع الجديد اليوم، وبعد الإنتهاء من السيطرة على الموراد وطرق المواصلات وغيرها، سيكون على القارة الإفريقية.
الصحافي الأستاذ نبيل المقدم
هل من دور لبعض اللوبيات في الأحداث الفرنسية؟ بخصوص الحرب الأهلية، برأيي أنها ليست بهذه البساطة خصوصاً وأن فرنسا لن تنجر لهكذا أمر، فالإحتمال بعيد.
الأستاذ أنطوان
فيما يخص دور اللوبيات، لدينا أمثلة عديدة كما في أوكرانيا وبباريس، الأمر ذاته في بروكسل وإسبانيا. مع عدم وجود حدود حقيقة ضمن دول الإتحاد، تتنقل هذه المجموعات من بلد إلى آخر. لكن الأكيد أن هناك تدخل للوبيات وهذا أمر مفروغ منه، وهذا ما تسبب في انحراف وزيادة في التطرف. على سبيل المثال، إذا قام أحد الأشخاص من ذوي البشرة السوداء بالتظاهر من أجل تحقيق مطالب، يتم الإعتداء عليه ويهان بتعابير عنصرية وهذا أمر لا يبشر بالخير. وهذا تحديداً هو عمل اللوبيات.
أما بالنسبة للحرب الأهلية، أنا قلت إنها أحد الإحتمالات. أنا لا أبشر بها، لكن هناك سيناريو قد يقود إليها. بالنسبة لي وبعد 17 تشرين الثاني/ نوفمبر بثلاثة أسابيع، كان هناك سيناريو على شاكلة “الربيع العربي”، حيث تحضر المتظاهرون للدخول إلى قصر الإليزيه. فإذا دخلوا الإليزيه، ماذا سيفعلون؟ لا شيء. لكن إن قلت لي سأدخل الإليزيه مع مشروع سياسي، هنا سأسير معك. لكن الدخول بهدف التكسير، كما فعلوا في القصر الجمهوري التونسي، فهذا امر غير مقبول.
الأستاذ نبيل
بعد وفاة ميتران قيل إن آخر عظماء فرنسا رحل.
الأستاذ أنطوان
برأيي، ليس هناك رجال دولة في فرنسا وحركة “السترات الصفراء” و”السترات الصفراء المناهضة” وحركة “الفولار الأحمر” وتصرفات رجال الأمن المبالغ بها تشبه سيناريو الحرب الأهلية. لكن هناك أمل بتدارك الأوضاع وتحسينها، لكن إن بقيت الأحوال على ما هي عليه فهناك خطورة كبيرة.
أحد الحضور
هل تعتقد بأن الرئيس ماكرون أتى للقيام بهذا الدور في فرنسا علماً أنه، وكما قلت، لم يكن يشكل حضوراً قبل الترشح على سدة الرئاسة. فهل تمر فرنسا اليوم في مرحلة شبيهة بتلك التي حدثت في لبنان أوائل التسعينات والتي تمثلت بصعود أشخاص لم يكن لهم دور سياسي ومن ثم لعبوا دوراً هاماً في الإقتصاد والسياسة وساروا ببلادهم نحو الهاوية. فهل هناك ما يمكن أن نقول بأنه “لببنة” لفرنسا؟
الأستاذ أنطوان
في المنظومة السياسية الفرنسية، هناك فساد لكن لديهم نوع من الشعور بالخجل ليس لديهم الوقاحة الموجودة في لبنان أو الدول العربية. على سبيل المثال، فرانسوا فيون ليس الفاسد الوحيد في هذه المنظومة. فلماذا هذه الحملة الشعواء عليه؟ بحسب بعض وجهات نظر، يبدو أن هناك حملة على فرانسوا فيون لصالح ماكرون. فكما شاهد الفرنسيون، خلال الحوار الرئاسي الأخير ما بين ماكرون ولوبان، ومن يعرف لوبان وعجرفتها وتكبرها، جلست الأخيرة كطالبة مدرسية تستمع لما يقوله ماكرون في المناظرة، حتى أن الصدمة وصلت إلى مناصريها، وهذا ما جعلنا نشك بأن الطريق كانت معبدة لوصول هذا الشخص بالذات.
الأستاذة منى زعرور
كما ذكرتم، أن الأزمة الموجودة ضمن أوروبا هي جزء لا يتجزأ من أزمة الإقتصاد العالمي وتداعياته التي قد تؤدي إلى قيام نظام تعددية قطبية. فمن هي هذه القوى التي ستحكم العالم مع أمريكا، خصوصاً وأن الأخيرة بارعة في اقتناص الفرص واستغلال الأزمات منذ الحرب العالمية الأولى؟
الأستاذ أنطوان
أمريكا متأزمة اليوم لكنها ليست منهارة. فهي ما تزال تمتلك القدرة على “الإزعاج”. لكن إن رأينا الأشياء على مستوى أبعد، نرى إن بقيت أمريكا على هذا النهج، لن تستطيع الإستمرار بسياستها الحالية وستضعف بوقت معين، أو قد تنهار حتى.
الأستاذة منى
ماذا عن التدخلات الأمريكية في الصين؟
الأستاذ أنطوان
بداية، الصين تمول الدين العام الأمريكي. فالصين تتمدد وترامب ينسحب من المؤسسات، ومن الأمم المتحدة كيلا يدفع لأنه يريد أن يحارب المد الصيني. لقد كانت أمريكا في السابق تفرض العقوبات على الدول من دون رادع، أما اليوم فباتت تواجه عقوبات مضادة، على غرار ما قامت به روسيا. وهذا يعني أن أمريكا في أزمة جدية، وأن النظام الدولي الجديد الذي سيخلق لن يقوم على هيمنة القطب الواحد. باعتقادي، لن تكون الولايات المتحدة في المعادلة الدولية الجديدة.
الإعلامي حيدر مخلوف
في نظرية بعد الإستفتاء البريطاني للخروج من الإتحاد الأوروبي قالت إن مركز الثقل السياسي سينتقل من بريطانيا إلى باريس. والآن وبعد حوالي العام من الإستفتاء، كان هناك دراسات إقتصادية تحديداً تقول إن الرئيس ماكرون يحاول “برلنة” باريس أي أن يقلب النظام ليكون على غرار ذاك في ألمانيا. فهل تحارب ألمانيا ماكرون؟ أم أن ماكرون هو فأر تجارب ألمانيا؟
الأستاذ أنطوان
اعتقد أن الأمر تبادل هو بمثابة للأدوار ما بين ماكرون وميركل. وبنفس الوقت، هناك صراع. فبعد الإستفتاء البريطاني، تريد ألمانيا جذب البنوك والشركات الإقتصادية والإستثمارات نحوها، وفرنسا تريد الأمر نفسه. إذاً، هذه إزدواجية هي لعبة خطرة على القرار الأوروبي.
أحد الحضور
التخلي عن المقعد الدائم في مجلس الأمن لألمانيا بعدما كان يعتبر مكسباً لفرنسا. فهل من المعقول وبهذه السهولة أن تكون الفكرة مطروحة؟ وما الذي سيفعله الفرنسيون مقابل تخليهم عن حق الفيتو الذي يضعهم في مصاف الدول الكبرى؟ وما هو الثمن الذي ستتقاضاه باريس من برلين عن هذا التنازل؟
د. علوان
برأيي، لا تستطيع فرنسا طرح هذا الموضوع لأنها ستفتح على نفسها وعلى حلفائها الباب أمام ما يسمى بدول “G4″، أي البرازيل والهند وألمانيا واليابان للمطالبة بمقعد دائم في مجلس الأمن، بدون حق النقض. في المقابل، كل شيء وارد في السياسة وما علينا فعله هو مراقبة التطورات المقبلة.
الإعلامي سركيس ابو زيد
إن تطور الأمور إلى العنف هو أمر خطير. فالدخول إلى جادة الشانزليزيه وتكسيرها يعني أن هناك أزمة اجتماعية حقيقية لا علاقة لها لا باللوبيات أو المخابرات. برأيي، علينا الإنتظر لمعرفة الدرجة التي وصلت اليها الأزمة. الأمر الآخر، فرنسا، ومعها أوروبا والغرب بشكل عام، كانت تحل مشاكلها الإقتصادية على حساب الآخرين، فهي تمتلك العديد من الإستثمارات قوية في مناطق عديدة، كأفريقيا. الآن، أتت الصين، ودول أخرى، وأخذوا الكثير من أسواقها وهنا “ضاق الخناق” على باريس. إن ما يحدث اليوم، في فرنسا وغيرها من الدول، هو جزء من أزمة النظام الرأسمالي العالمي. صحيح أن الإشتراكية سقطت، لكن برأيي أن الرأسمالية العالمية لم تربح، وهذا ما يفسر تضييق الخناق على الطبقات الشعبية التي ستنتفض.
أما الولايات المتحدة، فإنها تحل الأمور على طريقة “الكاوبوي”. تأخذ من هنا، وتفرض على ذاك سواء كانوا من دول الخليج أو حتى الدول الأوروبية. فهي تقوم بالتضييق عليهم، ما يزيد الخناق على تلك الدول خصوصاً وأن الولايات المتحدة نفسها في أزمة. لذلك، أرى أن الأمور ذاهبة إلى أزمة كبيرة في النظام الرأسمالي، فهل يصل الأمر إلى حرب عالمية ثالثة أو رابعة؟ في المقابل، قد يبدو في الواقع أنه يتم إيجاد حلول عميقة وجذرية لهذا النظام القائم على التوحش وعلى نهب خيرات الآخرين وعلى التفاوت الطبقي الموجود بشكل فظيع وهو أمر لا علاقة له برغباتنا بالقدر بل هناك ما يحدث على الأرض يحتاج إلى تفكير.
الأستاذ أنطوان
هذه وجهة نظر صحيحة. لكن اليوم، هناك رغبات يإيجاد نوع من التوازن في الأفكار، وأنا اقول هذا من منطلق كوني مواطن فرنسي، ولكن الواقع يشير إلى وجود أزمة، أزمة رأسمال، والنيو – ليبرالية وعرشها يهتز اليوم، ومن أبرز تداعياتها الإنكماش بفضل المعادلة الإقتصادية التي هي بفعل اللوبي الصهيو – أمريكي التي يفرضها على الأوروبيين وهذا أمر مفروغ منه. لكنه هذا ليس السبب الوحيد بالنسبة لي، لكنه أحد الأسباب الذي يؤدي إلى أزمة خطيرة. وهنا نعود إلى السؤال ذو الشقين: هل لهم الإرادة وهل لهم الإمكانية؟
د. علوان
شكراً للجميع على حضوره وعلى أمل اللقاء في ندوات وحلقات أخرى.
عقدت حلقة النقاش بتاريخ 12/2/2019.