حوار: سمر رضوان
بعد سنوات من السيطرة على القرار السياسي التركي والفوز الساحق لحزب العدالة والتنمية في الإنتخابات السابقة على مختلف تسمياتها، شكلت الإنتخابات البلدية الحالية ضربة قوية للحزب الحاكم في ضوء خسارات في كبرى المدن التركية على خلاف التوقعات، الأمر الذي سيعيد النظر للعدالة والتنمية متمثلة بالرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لمحاولة إعادة هذه المدن للطاعة السياسية.
عن نتائج الإنتخابات البلدية التركية ومآلاتها، على الداخل التركي والإقليمي، والمسار السياسي غير المتوقع للحزب الحاكم وما سيؤول إليه الوضع، سأل مركز “سيتا” الأستاذ أسامة شحود، الخبير في الشؤون التركية، عن هذا الموضوع.
خيبة كبرى
وجهت الإنتخابات المحلية التركية رسائل قوية جداً ليس فقط للرئيس أردوغان وحزبه، بل أيضاً لسياسات أنقرة في الداخل والخارج، وللتيار الإسلامي الصاعد برمته. فلأول مرة منذ وصوله إلى السلطة، يقف الرئيس التركي مذهولاً غير مصدق لنتائج الإنتخابات المحلية. ملامح الرئيس أردوغان وهو يلقي خطابه من على شرفة قصره في أنقرة كانت تعبر بوضوح عن شعوره بالكثير من خيبة الأمل وخاصة من نتائج الإنتخابات في كل من أنقرة وإسطنبول ومن أنصاره وحتى من المقربين منه في الحزب.
النتائج بحد ذاتها مؤشر واضح على وجود خلل في سياسته وعن تراجع ملموس في شعبيته، وهو تراجع له أسبابه الموضوعية غير تلك التي تحدث عنها، فالحديث عن سوء التواصل بين الحزب والمواطنين في تلك المناطق مجرد تبرير غير منطقي للأخطاء السياسية والأزمات الإقتصادية التي تعصف بالبلاد.
سوء الإدارة
تراجع الوضع الإقتصادي والإنخفاض المضطرد لسعر الليرة التركية والتوقعات بحدوث ركود اقتصادي في تركيا، في أواخر العام 2019 وأوائل العام 2020، وزيادة معدلات التضخم والبطالة، كلها عوامل لعبت دوراً رئيسياً في انخفاض شعبية حزب العدالة والتنمية مضافاً إلى ذلك تراجع الإستقرار السياسي الذي يعتبر خطوة رئيسية للإستقرار الاقتصادي.
في مقابل كل ذلك، هناك عوامل أخرى داخلية وخارجية لا يمكن القفز فوقها، أبرزها سوء إدارة أردوغان للحملات الإنتخابية وعدائه المبالغ فيه لمن لا يقفون في صفه ووصفه لهم بالإرهابيين، والثقة الزائدة بالنفس، وتصويت الكرد لصالح المعارضة كرد فعل على اعتقال قيادتهم الحزبية “حزب الشعوب الديمقراطي”. إضافة إلى أمور أخرى تتعلق بالحريات العامة وحرية الرأي، خصوصاً أن الحريات العامة والتعبير عن الرأي تراجعت كثيراً عقب محاولة الإنقلاب الفاشلة، العام 2016، إذ تشير الإحصائيات إلى أن عدد معتقلي الرأي تضاعف بنسبة كبيرة في السنوات الأخيرة، وأصبحت تهمة الخيانة والعمالة للداعية فتح الله غولن، المتهم بالوقوف وراء الإنقلاب الفاشل، ذريعة جاهزة لإعتقال كل من يعارض أفكار الرئيس وسياسته الداخلية والخارجية.
انطلاقاً من تلك المسببات، فإن جزءاً كبيراً من الأتراك يرى أن الإنتخابات المحلية بمثابة معركة كبيرة من أجل استرجاع الحريات العامة للمواطنين التي سلبها الرئيس أردوغان ونظامه السياسي الإسلامي.
هبوط بعد صعود
“كما أتى سيرحل”. عبارة كررها العديد من الخبراء والمحللين الإقتصاديين والسياسيين الأتراك، فلا أزمات سياسية ولا غيرها ستؤثر على مسألة بقاء الرئيس أردوغان وحزبه في السلطة لأن هذا الأمر مرتبط في الحالة التركية بالإقتصاد لا بالسياسة.
وللإجابة على هذا السؤال، يجب العودة إلى الوضع السياسي والإقتصادي في تركيا في الفترة ما بين العامين 2000 – 2002، أي فترة الأزمات السياسية والاقتصادية الخانقة، إذ شكلت تلك الحقبة أرضية خصبة لصعود حزب العدالة والتنمية وخاصة بعد أن قدم أردوغان نفسه للناخب التركي على أنه المنقذ الوحيد القادر على انتشال تركيا من أزمتها الإقتصادية، وساعده في ذلك يأس المواطن التركي من جميع الأحزاب التي كانت موجودة في تلك الفترة وازدياد تردي وضعه المعيشي. لذلك، رأى الأتراك في نموذج حزب العدالة والتنمية ووعود أردوغان القشة التي ستنقذه من براثن الفقر وستنقذ البلاد من حالة التخبط السياسي والإقتصادي.
إنقلاب شعبي
النظرية التي تؤكد أهمية العامل الإقتصادي في مسألة سقوط أو بقاء الرئيس أردوغان وحزبه توضحها أكثر بعض الدراسات المتخصصة التي تقدم صورة تفصيلية للبيئة الحاضنة لحزب العدالة والتنمية والتي يمكن أن تقسم إلى ثلاث فئات:
- فئة الإسلاميين الذي يتبنون قلباً وقالباً توجهات حزب العدالة والتنمية وهي نسبة لا تتجاوز في أفضل حالاتها 30 – 35 % في عموم تركيا.
- فئة المحافظين وهم خليط من القوميين وآخرين لا يؤمنون بالعمل الحزبي والأحزاب، ونسبتهم تتراوح ما بين 5 – 10%.
- فئة رجال الأعمال والتجار والصناعيين وأصحاب المهن الحرفية، وهي البيئة التي بايعت حزب العدالة والتنمية ولحقت به لأسباب اقتصادية بحتة وهي تحتل نسبة تتراوح ما بين 15 – 20%.
تشير النتائج الحالية إلى أن الفئة الثالثة، والتي ترتبط علاقتها بحزب العدالة والتنمية بالرابط الإقتصادي، تخلّت نسبياً عن الحزب وبدأت تتجه نحو أحزاب المعارضة. أما الفئة الثانية، فلقد شهدت أيضاً هي الأخرى انخفاضاً نسبياً بعد الإنقلاب العسكري الفاشل والإنتقال إلى النظام الرئاسي إلى جانب تراجع الديمقراطية ودولة القانون إثر الإجراءات التعسفية بحق المعارضين لأردوغان وحزبه بما فيهم أنصار الداعية فتح الله غولن.
قلق داخلي
اليوم، الوضع الراهن في تركيا سواء من الناحية الاقتصادية أم السياسية يحاكي ويتشابه في كثيرٍ من تفاصيله وضع تركيا في الفترة ما بين العامين 2000 – 2002. لذلك، فإن هاجس الخوف من السقوط مجدداً في أتون الفقر والعوز وفقدان فرص العمل يثير قلق الناخب التركي بشكل كبير، كما أن الثقة بقدرة اردوغان وحزبه بتجاوز الحالة الإقتصادية والدفع بالاقتصاد نحو نمو مستديم بدأ بالإضمحلال تدريجياً إثر تصاعد حدة الصراع السياسي بين أردوغان والأوروبيين وبينه وبين الولايات المتحدة، إضافة إلى تزايد الديون الخارجية ووصولها إلى مستويات قياسية لأول مرة في تاريخ تركيا الحديث.
إن إدراك أردوغان واستشعاره لخطورة الوضع العام دفعه لإعتبار نتائج الإنتخابات المحلية بمثابة “ناقوس خطر”. من هنا، نستطيع أن نستقرأ سبب حديث أردوغان في خطابه ليلة الإنتخابات عن أن التركيز في المرحلة المقبلة سيكون منصبّاً على الإقتصاد المتعثر في محاولة منه لتدارك الأوضاع قبل الإنتخابات العامة، التي ستجرى في العام 2023، ملقياً باللوم في مشاكل البلاد الإقتصادية على الغرب.
إستفتاء على الشعبية
تشكل هزيمة حزب العدالة والتنمية في العاصمة السياسية، أنقره، ضربة موجعة لأردوغان، لكن خسارته إسطنبول، العاصمة الإقتصادية، تشكل صدمة أكبر حيث نشأ وترعرع وبدأ مسيرته السياسية فيها، إضافة إلى أن الإنتخابات المحلية التركية تشكل سلم الصعود إلى السلطة وذلك بسبب الترابط الوثيق والعملي بين نتائج الإنتخابات المحلية ومصير الأحزاب مستقبلاً خاصة عندما يتعلق الأمر بالأحزاب الكبرى؛ فالحزب الذي يتراجع في البلديات، يتراجع في انتخابات البرلمان هذا من ناحية.
من ناحية أخرى، ينظر بشكل عام إلى الانتخابات المحلية في تركيا على أنها استفتاء على شعبية أردوغان.
أما بالنسبة لفوز حزب العدالة والتنمية في بعض البلديات التي تقع في شرق البلاد فمرده إلى قيام الحزب بإعتقال الكثير من القيادات الحزبية التابعة لحزب الشعوب الديمقراطي تحت مسمى “مكافحة الإرهاب” وإفراغ تلك المدن من المرشحين المؤهلين لتولي مناصب رئاسة البلديات. ولكن رغم ذلك، فإن عددها قليل ولا تقارن بخسارة العاصمتين السياسية والإقتصادية لأن تلك البلديات القابعة في الشرق لن تؤثر لا على الإقتصاد ولا على السياسة.
الطعن بالنتائج
إن إصرار حزب العدالة والتنمية على عدم القبول بالنتائج الحالية واللجوء إلى التشهير بها وتقديم طلبات الطعن يؤكد المقولة التي بدأت تنتشر بين الأتراك والتي تتحدث عن أن أردوغان لن يتقبل الهزيمة في إسطنبول وأنقرة، وسيفعل كل ما بوسعه لقلب هذه النتيجة سواء بالطرق المشروعة أو غير المشروعة.
هذا الحديث يقودنا بطبيعة الحال إلى مشهد آخر قد ينتقل إليه الوضع الداخلي في تركيا سواء نجح أردوغان أم لم ينجح في تغيير نتائج الإنتخابات وهو مشهد سوداوي سيؤدي إلى مزيد من الإنقسام والإصطفاف والتحزب والإحتقان الشعبي. ومهما كانت النتائج، فإنه من المؤكد أن فقدان حزب العدالة والتنمية لجزء من أنصاره سيبقى في مساره التصاعدي حتى وإن نجح أردوغان في كبح جماح الأزمة الإقتصادية أيضاً، كما أن الخسارة قد تضاعف أيضاً من حالة التذمر المتنامية داخل الحزب الحاكم، خاصة في أوساط القيادات التاريخية المعروفة والتي جرى إبعادها وتهميشها مثل عبد الله غول، رفيق أردوغان والرئيس السابق، وأحمد داوود أوغلو، رئيس الوزراء رئيس الوزراء السابق، وتزايد الإتهامات لأردوغان بالسعي إلى الإنفراد بالسلطة وتحويل نظام الحكم في البلاد إلى نظام ديكتاتوري.
من ناحية يمكن أن تؤدي الخسارة إلى “صحوة” تقود إلى مراجعات شاملة داخل الماكينة الحزبية ستتمخض حتماً عن تغييرات شبه جذرية في الهيكلية والمناصب العليا، ومن ناحية أخرى يمكن أن تتسبب الخسارة بتسريع عملية خلق بديل للحزب وخاصة أن النواة والنية موجودتين على أرض الواقع.
خسارة كبرى
بغض النظر عن حصول تحالف حزب العدالة والتنمية مع الحزب القومي (تحالف الجمهور) على 51% من الأصوات وأغلبية المقاعد في المجالس البلدية حتى في المدن الأربع الكبرى، إلاَ أن النتائج الرسمية غير النهائية تعد هزيمة حقيقة لأردوغان شخصياً الذي لم يعرف طعم الهزائم على مدى ربع قرن تقريباً، منذ بداية صعوده إلى السلطة كرئيس بلدية أو كرئيس وزراء، أو رئيس للدولة. فأردوغان يعتبر إسطنبول بمثابة قلبه، لكونها محور طموحاته.
إن عدم قدرة أردوغان على تغيير النتائج الحالية يعني بصريح العبارة أن رحلة الحزب في الحياة السياسية بدأت بالعد التنازلي؛ فخسارة الحزب لأكبر خمس بلديات خسارة، تعني أن الحزب فقد جزءاً كبيراً من الحاضنة الشعبية له، إذ يشكل الناخبون في تلك البلديات الكبرى أكثر من 35% من إجمالي الناخبين في البلاد.
أما القبول بالنتائج الحالية فيعني عودة الوضع الداخلي التركي إلى ما كان عليه قبل العام 2002، أي تركيا ما قبل حزب العدالة والتنمية، بمعنى آخر تراجع صعود التيار الإسلامي في المدن الكبرى مع انعكاس مباشر على ثقافة وهوية تلك المدن.
في الوقت ذاته، فإن سيطرة حزب الشعب الجمهوري على البلديات الكبرى سوف يزيد من حدة التحزب والإصطفاف داخل المجتمع التركي، إذ أن هناك فئة من الموالين لحزب العدالة والتنمية لن تتقبل بعودة حزب الشعب الجمهوري، لأن هذه العودة تعني بالنسبة لهم عودة حكم العسكر، العدو اللدود والتاريخي للأحزاب ذات الجذور الإسلامية.
إنعكاسات خارجية
إن انعكاسات نتائج الإنتخابات على السياسات الداخلية معروفة ويمكن التنبؤ بها، ولكن انعكاساتها على سياسة الرئيس الخارجية تبقى مبهمة ومفتوحة على احتمالات كثيرة، ومنها:
أولاً، العودة إلى الحضن الأمريكي مجدداً لتفادي غضب الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، والمزيد من العقوبات الإقتصادية التي قد تعقد المشهدين الإقتصادي والسياسي وتجعل من مهمة أردوغان في إصلاح الوضع الإقتصادي صعبة جداً. عودة يفترض أن تقترن بعودة تركيا إلى الحضن الخليجي من البوابة السعودية، إضافة إلى التقارب مع مصر وإنهاء الخلافات السياسية معها.
ثانياً، التوجه نحو تعزيز التحالف مع روسيا بزعامة الرئيس فلاديمير بوتين بمزيد من الإتفاقيات الإستراتيجية، وخاصة الإقتصادية والتجارية والعسكرية لتفادي العقوبات الأمريكية التي قد تتزايد طرداً مع التقارب الروسي – التركي.
ثالثاً، البقاء على ذات السياسة المتبعة قبل الإنتخابات أي السير مع روسيا ومسايرة الولايات المتحدة في آن واحد وهو الخيار الأكثر رجحاناً لأن السياسة التركية في تاريخها الحديث مبنية على هذا التوجه. ويمكن القول أن الحفاظ على نسبة 65% على علاقات جيدة مع الغرب مقابل 35% مع الشرق كانت الوصفة التي اتبعها أغلب الزعماء الأتراك لضمان البقاء في السلطة.
أما بالنسبة للعلاقات مع دول الجوار، وخاصة سوريا، وطريقة التعاطي مع الإلتزامات التي قطعها أردوغان ودولته في هذا الشأن سواء في “سوتشي” أو غيرها، فهي مرتبطة تماماً بالخيارين السابقين. إن عاد أردوغان إلى الحضن الأمريكي، فهذا يعني عودة تركيا إلى المربع الأول ومزيداً من التعقيدات والسياسة العدائية تجاه سوريا. أما إذا اختار أردوغان الخيار الثاني، فسوف يترتب عليه الإيفاء بتعهداته والتوجه نحو دعم الحل السياسي في سوريا بخطوات أكثر جدية ووقف دعم التنظيمات الإرهابية.
مصدر الصور: Getty – وكالة الأناضول.