محكمة التاريخ لا تختلف عن المحكمة الشعبية التي ابتدعها عالم الرياضيات البريطاني برتراند راسل خلال حرب فيتنام، والتي أدانت الحملة الأمريكية على فيتنام وكانت سابقة فريدة تعبر عن معارضة الرأي العام العالمي لهذا الظلم الأمريكي على شعب أعزل، وكان للمحكمة الشعبية دور كبير في تنبيه الرأي العام العالمي وحشده.

أيضاً، كانت هناك هناك محاولات لإقامة محاكمات شعبية في مصر وغيرها، وكان يتعين أن تجرى محاكمة شعبية لما حدث عامي 1967 و1973ـ ولكن تواتر الحكم العسكري لم يشأ أن يكشف واحدة من أهم صفات التاريخ المصري.

محكمة التاريخ لها أهمية قصوى في مراجعة المواقف والأحداث الهامة التي لم تجرؤ السلطة على الكشف عنها، كما أنها لا تنشر الوثائق التي تتضممن الحقيقة، ما يعني أن التاريخ فيها مزور؛ فهذه المحكمة، لا تعرض لجميع جوانب حياة الحاكم ولكنها تحاول تمحيص بعض الوقائع الحاسمة في تاريخ بلادها.

مصر – على سبيل المثال – كتب التاريخ عن أحداثها منذ العام 1952، على هوى السلطة الحاكمة، وتبين أنه مختلف تماما للحقيقة وعامر بالقصص والدروس وإظهار الحاكم الجديد وطائفته على أنه الوطني الوحيد والأول بعد حكم أجنبي امتد لآلاف السنين، وأن الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، ورفاقه رأوا مصلحة مصر في تخليصها من الاستعمار البريطاني والحكم الملكي الفاسد، وأن “الضباط الأحرار” قاموا بثورة وعزلوا الملك واعلنوا الجمهورية – وهي أفضل من الحكم الملكي – وأن ضباط “ثورة يوليو” غامروا بأرواحهم في سبيل الوطن فاستحقوا الحكم بكل ميزاته.

ورث ضباط يوليو/تموز الحكم بحسب قربهم أو بعدهم عن القيادة، لكن جميعهم خصص لهم مرتبات وامتيازات، وبدأوا الحكم الطاهر الوطني وأنهم “حرّاس الوطن”، وميلاد الزعيم هو ميلاد الوطن، وأن هؤلاء الضباط هم من حرر مصر من الإنجليز والتبعية والاستعمار وسيطرة رأس المال على الحكم والإقطاع.

لقد أطلق كتبة السلطان على ما حدث يوم 23 يوليو/تموز 1952 في البداية عبارة “حركة الجيش” ثم “الحركة المباركة”، وأن الرئيس عبد الناصر هو أول رئيس من صنوف الشعب، وأنه قضى على الإقطاع وحرّر الفلاحين، فقضى على رأس المال وهيمنته على العمّال، وأدخل الاشتراكية إلى القطاع العام، وانحاز إلى الفقراء وعزل الأغنياء واستعدى الفقراء عليهم.

أيضاً، إلتف حول الضباط مجموعة من الفنانين العمالقة الذين كانوا “لسان” الضباط خلال الفن، فكسبوا لهم الشعبية المطلوبة، بعد أن قضى الرئيس عبد الناصر على طبقة الباشوات وحاكمهم على فسادهم أمام محكمة الشعب التي كانت تسمى أحياناً “محكمة القدر”، كما ألغى الأحزاب السياسية الفاسدة، وأنشأ تنظيماً واحداً يضم الشعب كله خلفه ويتغنى بإنجازاته وانتصاراته ووطنيته والطعن في خصومه أو معارضته.

كما وجد الرئيس عبد الناصر الفيلسوف الذي يبرر له كل أفعاله، وقد وقعت معارك سياسية بين اللواء محمد نجيب والرئيس عبد الناصر، أكد الأول أن سببها مطالبته بالديمقراطية ورحيل الضباط، فتلقى العزل والحجز المنزلي وبالإضافة إلى معاملة سيئة.

وتبين أن كل هذا التاريخ لا يتطابق مع الواقع، وأن نظام الرئيس عبد الناصر هُزم أمام إسرائيل، وأن انتصاراته “المزعومة” اخترعها الاعلام، وإنتهت “المسرحية” الناصرية بسقوط مصر العام 1967 ثم وفاة الرئيس عبد الناصر وتولى الرئيس الراحل محمد أنور السادات مقاليد الرئاسة، وهو الذي إختار السير عكس سلفه.

الغريب في الأمر أنه لم يتم التحقيق في وقائع خطيرة سادت عصري الرئيسين عبد الناصر والسادات، وتشيكل محكمة من قضاة يتمتعون بالكفاءة والنزاهة والحرص على معرفة الحقيقة والعدل مع المتهمين، إن أن كل الحكام محل اتهام.

ليست مهمة المحكمة تقييم عصر الحاكم، وإنما تمحيص بعض الأحداث في عصره وتكون هذه الأحداث حاسمة في مستقبل البلاد؛ فإذا توفرت هذه الفضائل للقاضي؛ لا بد له حينها أن يبحث الوقائع على ضوء الوثائق التي كُشفت عنها قدر المستطاع.

وحكم المحكمة يظل دائماً وجهة نظر، ولا تدعي أنها تنطق بالحقيقة – كما درج القول في القانون – أن الحكم عنوان الحقيقة، وهذا قول مردود لأن الحكم يتم نقضه ومن ثم يأخذ هذا القول بنسبة أثر الحكم عند المعلقين. ومحكمة التاريخ لا بد أن تعتمد على الوثائق في الأحداث الحاسمة، وعلى النافي أن يزيل الأدلة ويقدرها؛ ولذلك، يجب أن يكون القاضي دارساً وباحثاً ومنصفاص.

أيضاً، على أن المحكمة لا تحاكم المحاكم على قراراتها بمعايير اليوم، وإنما بمعايير الزمن الذي صدرت فيه تلك القرارات، وتستبين المحكمة إن كانت القرارات صدرت لأغراض شخصية أم وطنية، ومدى كفاءة الحاكم في التصدي للمواقف ومدى استعانته بأهل الخبرة. ومن دون مصادرة أحكام المحكمة ما دام كل الحكّام العرب مستبعدين ويستمدون شرعيتهم خارج شعوبهم – الذين ينظرون إليهم نظرة دونية واستعلائية، فإن الحاكم على الأرجح يستنكف أن يستشير ذوي الخبرة والكفاءة.

أذكر هنا أن الرئيس الراحل، محمد حسني مبارك، بدأ عهده بمؤتمر اقتصادي فاسبشرنا خيراً؛ لكن ظهر من نصحه بعدم النظر إلى الأسفل ما دام الله هو الذي اختاره لهذا المنصب وهو يعلم قدراته، وقد أخذ بنظرية ميكافيللي وهي أنه من الأفضل للحاكم أن يكون مهاباً بسبب قسوته عن أن يكون محبوباً بسبب رحمته. لذلك، أخذ الحكام بهذه القاعدة حتى صارت مرضا ملازما لكل حاكم.

أيضاً، على المحكمة أن تمحّص علاقة الحاكم بالخارج وأسلوبه في الحكم، لأن هذا الأسلوب ينسحب على كل قراراته. وبالطبع، تتعرض المحكمة لسياسة التدليس بالإعلام وتزوير إرادة الناس ووعيهم في انتخابات مزورة.

أما مصادر معلومات المحكمة عن الحاكم فهي متنوعة، ومنها المذكرات السياسية التي كتبت عنه أو التي كتبها بنفسه. هذه المذكرات، الا تعدو كونها مجرد قرائن قد توصل إلى الحقائق التي تقيس المحكمة بها مدى بُعد الحاكم أو قربه منها.

أخيراً، إن أعمال محكمة التاريخ سوف تفيد في مراجعة الحقائق التاريخية، كما أن عملها قد يفيد الأجيال المقبلة لتفادي ثغرات الماضي وأخطائه، وسوف تفصل في شأن أنصار الحكّام والمستفيدين منهم أو من أضر بهم الحكّام، لكنها لا تمثل الحقيقة وإنما تفيد في تمحيص سجل الحاكم في القضايا التي حددها المحكمة لكي تقرر الحكم على ضوئها.

مصدر الصور: مونتي كارلو الدولية.

موضوع ذا صلة: في مبادئ الثقافة السياسية

د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر