يارا انبيعة
بدأت المانيا تجني ثمار استقبالها للاجئين وتنافس على المبدعين، بعد أن اعتمدت منذ 3 سنوات سياسة الباب المفتوح في الوقت الذي راهنت فيه المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، بمستقبلها السياسي.
فبعد انخراط عشرات الآلاف من اللاجئيين في سوق العمل والذي جاء عبر بوابة التدريب المهني الذي صمم، في بعضه، خصيصاً للوافدين الجدد الذين جاؤوا إليها هرباً من الحرب والفقر. ويعتبر نظام التدريب المهني أحد أهم ركائز وأعمدة الإقتصاد الألماني، الذي تعود جذوره ونشأته إلى العصور الوسطى.
الطريق الصحيح
مع انخفاض معدلات البطالة في ألمانيا إلى أدنى معدلاتها منذ 30 عاماً، فقد الشباب الألماني رغبتهم بالتدريب المهني لتتجه الشركات إلى اليد الوافدة المدربة والتي خضعت لهذا. غونتر هيرث، الخبير الإقتصادي لغرفة التجارة في مدينة هامبورغ، يقول “الإقتصاد الألماني يحتاج لعمال مؤهلين، ولدينا أسباب قوية لمساعدة اللاجئيين ودفعهم للتدريب المهني.”
فبعد إعلانها فتح باب اللجوء، ظل حوالي 1.5 مليون لاجئ خارج منظومة اليد العاملة وسجل حوالي 200 ألف عاطل عن العمل، في الوقت الذي خضعت أعداد كبيرة من اللاجئيين لدورات الإندماج واللغة، ليصل عدد المسجلين في برنامج التدريب على العمل، بنهاية العام 2018، إلى أكثر من 400 ألف شخص، من بينهم 44 ألف شخص في التدريب المهني.
ويضيف هيرث “لدينا نموذج سابق لدمج الوافدين كتجربة دمج لاجئيين من يوغوسلافيا، والآن بعد مضي 3 سنوات ونصف، نحن على الطريق الصحيح وسيتمكن 80% من البالغين الذين وصلوا لسن العمل الحصول على وظائف بعد 8 سنوات.”
اللافت في الأمر هو تخرج مئات الآلاف من الحرفيين البارعين، الذين اجتازوا اختبارات صارمة تديرها الدولة، من هذا البرنامج كل عام حيث يقول الخبراء إن النظام، ومعاييره الصارمة، كان عاملاً رئيسياً في جعل ألمانيا قوة صناعية.
في المقابل، إن العديد من الشباب الألمان يفضلون مسار الشهادات الجامعية وتجنب هذا المسار التقليدي لحياة الطبقة الوسطى. ففي العام 2018، أعلنت ثلث الشركات الألمانية أن لديها وظائف تدريب لم يشغلها أحد فيما بلغت الوظائف الشاغرة أعلى مستوى لها منذ 20 عاماً. غير أن التركيبة العمرية للوافدين الجدد، إذ أن حوالي 60% منهم بعمر الـ 25 عاماً أو أقل، تشكل حلاً تفتش عنه ألمانيا وهو ما يترافق مع انخفاض عدد السكان الألمان الأصليين؛ بالتالي، إن المانيا بحاجة ماسة إلى هؤلاء الشباب.
إتجاه تصاعدي
مدير المعهد الألماني لأبحاث سوق العمل والتوظيف، أولريش فالفاي، يقول “إن نحو 35% من الأشخاص القادرين على العمل الذين وصلوا إلى ألمانيا منذ العام 2015 من الثماني دول الرئيسية التي ينحدر منها لاجئون، يمارسون عملاً حالياً. وهذه الدول هي سوريا وأفغانستان والعراق وإرتيريا وباكستان ونيجيريا والصومال وإيران”؛ وبحسب فالفاي أيضاً فإن هذه النسبة تمثِّل بالأعداد نحو 400 ألف شخص والعدد إلى تصاعد مستمر حيث “لا يزال الميل للتدريب بين اللاجئين قابلاً للارتفاع”، مؤكداً ضرورة تحسين الدعم في مجال التدريب.
وأشار مدير المعهد إلى وجود أربعة فروع تتمتع بأهمية خاصة لعملية الدمج في سوق العمل، وقال “عدد كثير للغاية حصل على وظيفة عن طريق وكالات العمل المؤقت التي تقوم بدور مهم بشكل عام في إدخال مهاجرين إلى سوق العمل. وتتمثل غالباً الوظائف هنا في أعمال بسيطة في قطاع الإنتاج، وأعمال النظافة وخدمات المطاعم.”
إلى ذلك، تشير المعلومات على حاجة ألمانيا إلى 400 ألف مهاجر سنوياً من أجل تعويض نقص الأيدي العاملة في البلاد، فبدون الهجرة لن يتأثر نظام دعم البطالة فحسب، بل أنظمة التأمين التقاعدي والتأمين الصحي، وهي التي تزيد تكاليفها مع التقدم في السن. كما تحذر التقارير والدراسات من أن انعدام الهجرة سيؤدي إلى نشوء صراعات على توزيع الثروة، ليس بين أجيال مختلفة فقط، بل بين الأثرياء والأغنياء داخل الأجيال الشابة أيضاً.
أمر مذهل
“كيف يسير اندماج اللاجئين في سوق العمل الألماني؟ وما هي مؤهلات اللاجئين ومميزاتهم ونقاط ضعفهم؟ وكيف يساهمون في دفع عجلة الاقتصاد الألماني للأمام؟ الأمر مذهل جداً.” هكذا وصف الخبير الألماني، هربرت بروكر الذي يعد أحد أكثر الخبراء اطلاعاً على اندماج اللاجئين في سوق العمل الألماني، نسبة اللاجئين الذين يعيشون في ألمانيا والذين لديهم خبرة مهنية، ويضيف بروكر أن ما نسبته 25% من اللاجئين يحملون شهادات جامعية أو شهادات تأهيل مهني، ورغم ذلك فإن 74% من الرجال و37% من النساء لديهم خبرة مهنية، تصل في المتوسط إلى عشر سنوات “وهذا أمر مذهل”.
ويتابع بروكر “المذهل هو ليس فقط مقدار الخبرة، بل نوعية الخبرة المهنية”، مشيراً إلى أن نوع المهن التي كان يمارسها اللاجئون تشبه إلى حد كبير ما يطلبه أرباب العمل الألمان. فثلثا اللاجئين، بحسب بروكر، لديهم خبرة مهنية و20% منهم خبراء مختصون، وهذا ما يعادل نسبة خريجي الجامعات وخبراء التأهيل المهني في ألمانيا، وهو ما يتوافق إلى حد كبير مع هيكلية سوق العمل الألماني.
إيجابيات وسلبيات
يرى بروكر أن اللاجئين لديهم العديد من الصفات الإجتماعية والنفسية الأخرى للنجاح في سوق العمل، ويذكر منها “الثقة بالنفس والإنفتاح والضمير والتواصل الإجتماعي والرغبة في التعاون”، لكنه يشير في المقابل إلى أن إحدى الصفات الأخرى المطلوبة للنجاح في سوق العمل، غير متوفرة في اللاجئين، هي الإستعداد لتحمل المخاطر، مشيراً إلى أن ذلك قد يكون متعلقاً بالمخاطر التي عاشوها على طريق اللجوء، موضحاً “من واجه مخاطر حقيقية، لا يريد بالضرورة أن يعرض نفسه لها مجدداً.”
ولكن كثيراً ما يعتمد اندماج اللاجئين في سوق العمل على مستواهم تعليمهم وما يحسب لهم، بحسب الخبير، أن نسبة اللاجئين المتعلمين في المتوسط أعلى من نسبة المتعلمين في بلدانهم الأصلية، حيث يقول بروكر “تبلغ نسبة الأكاديميين بينهم ضعف نسبتهم الأكاديميين في بلدانهم الأصلية.” أما فيما يتعلق بالتعليم المدرسي، فهناك أرقام متباينة إذ يوضح الخبير الألماني “في حين أن 40% منهم ذهبوا إلى المدرسة الثانوية، هناك 25% منهم ذهبوا إلى المدارس الابتدائية فقط أو لم يلتحقوا بأي مدرسة على الإطلاق”، مشيراً إلى أن 15% من اللاجئين أميون.
إهمال للنساء
أما فيما يتعلق بقيم المجتمع الألماني، يرى بروكر أن معظم اللاجئين لديهم تصورات ديمقراطية قوية ويحترمون حقوق الأقليات بصورة كبيرة، ويتابع، قيم المساواة بين الجنسين أكثر تقدماً مما يُفترض في كثير من الأحيان، ولو كان ذلك بالمعنى التجريدي، فبالنسبة لهم يجب أن تكون البنت متعلمة مثل الإبن، كما أن كثيرين منهم يؤيدون أن تعمل المرأة.
لكنه، في المقابل، يكشف عن الجانب الآخر أيضا ويقول “القيم العائلية محافظة جداً”، ولا يخفي بروكر أن النساء اللاجئات يعانين من الإهمال في الكثير من الجوانب، ويستشهد بأن حضورهن لدورات الإندماج أقل، واحتمال عملهن أيضاً أقل. إلا أن أحد أسباب عدم عمل النساء اللاجئات، بحسب بروكر، هو العدد الكبير للأطفال الصغار، حيث يقول “النساء اللاجئات لديهن في العادة طفلان أو ثلاثة وعلى الغالب يكونون صغاراً، وهذا يؤثر بشكل سلبي على إمكانية التوظيف، فحتى النساء في ألمانيا يعملن بشكل أقل عندما يكون لديهن أطفال صغار، لكن تأثير ذلك على اللاجئات أكبر.”
ختاماً، يعاني المجتمع الألماني من الشيخوخة، وهو الأمر الذي يتطلب الاعتماد على كفاءات أجنبية شابة متوسطة سيتم استقدامها من الخارج عند الضرورة، كما أن إعادة هيكلة الصناعة لا يعني فقط الإستغناء عن وظائف، بل أيضا خلق وظائف جديدة لخدمة وتشغيل التقنيات الجديدة.
يضاف إلى ذلك، حاجة توفر آلاف الوظائف الشاغرة في القطاعات الخدمية الأقل تطوراً في ألمانيا مقارنة بمثيلتها في بلدان صناعية أخرى، كل هذا يفتح أمام المهاجرين واللاجئين فرص عمل وتوظيف نادرة في تاريخ ألمانيا، منذ خمسينات القرن الماضي، حيث تقدر اتحادات الغرف الصناعية والتجارية الألمانية حاجة السوق إلى نحو مليون شخص من مختلف المؤهلات في الوقت الحاضر، وهنا تبقى العبرة بالنسبة للاجئين والمهاجرين في اقتناص هذه الفرص من خلال التعليم الجيد والتدريب المناسب.
هنا أيضاً، تجدر الإشارة الى مسألة “القلق من الترحيل” حيث تعد من أكثر الأشياء التي تهدد حياة الوافدين، لتتجه الحكومة الألمانية لقانون “2+3” الذي يمكن طالبي اللجوء المرفوضين من الإستمرار في التدريب لمدة ثلاث سنوات والعمل لسنتين على الأقل دون الخوف من الترحيل.
مصدر الأخبار: وكالات
مصدر الصور: تلفزيون سوريا.