يوسف الهندي**

منذ سقوط حائط برلين، عاش العالم تحت هيمنة الليبرالية الفلسفية والسياسية والثقافية والإقتصادية. نظام جسد حُكم القلة الأوليغارشية غير المتكافئ، والذي إختبأ وراء قناع الديمقراطية الجماهيرية. لكن خطاب الطبقة الحاكمة والإعلام الغربي لم يعد بإمكانه إخفاء وجوه وحقيقة هذه الديكتاتورية اللا محدودة.

في الغرب ولا سيما في الإتحاد الأوروبي، عندما يقوم الشعب بالتصويت بخلاف الأجندة الأوليغارشية، يتم رفضه بشكل علني إضافة إلى نزع شرعيته (مثل: استفتاء العام 2005 في فرنسا، والبركسيت في العام 2016 وانتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في نفس العام). هذه الطبقة المتعالية لم تعد تخفي رغبتها في الإقصاء فقط، بل حتى النظر إلى مصالح شعوبها.

الخرافة الديمقراطية

ترتبط الديمقراطية، في الخيال الجماعي، بمبدأ المساواة وفكرة السلطة السياسية الموزعة بالتساوي بين المواطنين. ومع ذلك، في اليونان القديمة، حيث ولدت، لم تتحقق الديمقراطية أبداً. من أثينا إلى الديمقراطيات التمثيلية، كان تشكيلها يسير دائماً ضمن سلسلة من الإستثناءات: العبيد، الفقراء، النساء، الأرستقراطيين. واليوم، تستبعد الديمقراطية الناس أنفسهم، بأغلبية ساحقة.

في وقت مبكر من العام 1895، أوضح غوستاف لو بون – Gustave Le Bon أن معنى مصطلحات الديمقراطية والمساواة والحرية، وما إلى ذلك، له معنى غامض بحيث أن المعاجم الكبيرة لا تكفي لتحديده. إلى ذلك، قال لو بون إن هناك قوة سحرية معلقة على المقاطع القصيرة، كما لو أنها تحتوي على حل لجميع المشكلات. فلهذه الكلمات توليفة من تطلعات اللاوعي المختلفة والأمل في إدراكها.(1)

على هذا الغموض الدلائلي يلعب القادة الغربيون. هذه القوة “السحرية”، هذا الأمل في الإدراك، ترتبط بالبعد الديني. كذلك الحال بالنسبة للأزمة الحالية التي كثيراً ما يتم تجاهلها أو إهمالها من قبل علماء السياسة.

في الواقع، تعتبر الديمقراطية مثل أية أيديولوجية سياسية، فهي شكل من أشكال الدين الذي لا يفصح عنه إسمه؛ إنه يعيش عبر وضمن عقيدة الشعوب. ومن خلال التصويت الديمقراطي، تظهر طقوس دينية حقيقية في المعابد الجديدة، يشترك المواطنون ويشهدون بموافقتهم على إيمانهم بالنظام.

لكن هذا الإيمان قد تآكل، والأثر المنوم للكلمات “السحرية” يختفي يوماً بعد يوم حيث تبتعد الوهم الديمقراطي وتزداد إفقار الشعوب لصالح التمويل الدولي.

اليوم، أصبح النظام السياسي الحديث بأكمله في خطر، لأنه بعد الديمقراطية ماتت جميع الإيديولوجيات الحديثة التي تقوم عليها الأحزاب والمؤسسات السياسية: الإشتراكية والليبرالية واليسار واليمين، فهي الآن كلمات جوفاء لا يعتنقها سوى شرائح صغيرة من الناس التي بقيت مرتبطة بها تقليدياً.

الليبرالية المحافظة

دائماً ما تكره الطبيعة الفراغ. هذا التحلُّل للأيديولوجيات الحديثة والموجة الشعبوية التي أعقبت ذلك، دفعت الطبقة الحاكمة إلى خلق بديل خاطئ لهذا التهديد. هذا الإقتراح السياسي الجديد هو الليبرالية المحافظة. تحالف بين فلسفتين سياسيتين متناقضتين: النزعة المحافظة والليبرالية.

ومع ذلك، فإن هذا التيار يتوافق مع الواقع الإجتماعي، وهو التحالف الموضوعي للبرجوازية التقدمية التقليدية والليبرالية. على سبيل المثال، صوت، في فرنسا، مؤيدو حزب “المنيف” (البرجوازي الكاثوليكي والمحافظ الذي يعارض زواج المثليين والأمومة الجنسية المثلية) بأغلبية ساحقة لصالح إيمانويل ماكرون المؤيد للمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسية، في العام 2017، بنسبة 76٪ في فرساي؛ وعلى نفس المنوال، صوت الناخبون للبرجوازية اليسارية، الذين عارضوا شفهياً التمويل الدولي، في الجولة الثانية لصالح المرشح نفسه، الموظف البنكي في مصرف روتشيلد (52٪ من ناخبي جان لوك ميلنشون صوتوا لصالح ماكرون).

في الولايات المتحدة نجد النمط نفسه. يعارض الديمقراطيون التقدميون والجمهوريون المحافظون (مع بعض الإستثناءات) الحمائية الإقتصادية، مما يجعل من الممكن إخراج البروليتاريين والطبقات الوسطى من الفقر؛ وفي الوقت نفسه يوافقون عليه لإنقاذ الإقتصاد الوطني.

يلخص الفيلسوف الفرنسي جان كلود ميشا -Jean-Claude Michéa  تناقض المحافظين الليبراليين على النحو التالي “من الصعب التوفيق بين فكرة أن يوم الأحد هو يوم الرب أو يوم الأنشطة العائلية مع فكرة أنه ينبغي أن يكون يوم عمل مثل أي يوم آخر. يهدف النموذج الإقتصادي أولاً وقبل كل شيء إلى إنتاج وبيع وشراء كل ما يمكن إنتاجه أو بيعه، سواء أكان شاشة مسطحة أم كلاشينكوف أو بطن أم حامل.”(2)

بالنسبة لطبقة برجوازية معينة، الإلتزام بالدين لا يشكل رابطاً مع القيم الإيجابية التي تحملها داخلها وينقلها، بل على العكس تماماً؛ على سبيل المثال، في فرنسا أعادت البرجوازية الفولترية، المناهضة للكاثوليكية في القرن الثامن عشر، كثلكة نفسها جزئياً ليس لأنها استعادت الإيمان، ولكن خوفاً من الثورة الإجتماعية التي قد تعرض مصالحها للخطر.(3)

هذه البرجوازية، التي تحالفت في الفترة نفسها مع الكوزموبوليتيين الذين عملوا على تطوير ونشر في جميع أنحاء أوروبا المذهب الليبرالي للفيلسوف كلود هنري دي روفروي دي سان سيمون – Claude Henri de Rouvroy de Saint-Simon (1760-1825)، ساعدت في تأسيس هيمنة البرجوازيين الرأسمالية في القرن الـ 19.(4)

هذه البرجوازية، التي تزيِّن نفسها بالقيم التقليدية، هي في الواقع أكثر ليبرالية من المحافظين، وأكثر مادية من المتدينين، وهي على النقيض من الكاثوليكية الإجتماعية، التي احتقرت المال وأشاعت، بين الجميع، شعوراً متميزاً بالمسؤولية تجاه الفقراء.

علاوة على ذلك، فإن بقاء التخصصات الإجتماعية من تعاليم الكنيسة – استقرار الأسرة، والتعاون المحلي، والأخلاق المعادية للفردية – لا تزال تشكل طبقة واقية في مجتمع رأسمالي جديد يحبذ عزلة الأفراد، والأنانية، والنرجسية الجماعية، وانخفاض قيم الأيديولوجية لأي عمل لا يحقق مكسباً على الفور.(5)

وراء هذا الخطاب، تتحد البرجوازية، من اليسار واليمين، في حماية محفظتها ضد المصلحة الوطنية، ضد الشعب.

“المحافظة الإجتماعية” لمواجهة “الليبرالية المحافظة”

على أساس هذا الواقع التاريخي والسوسيولوجي، فإن البديل الذي يجب اقتراحه وتعريفه، منطقياً، هو المحافظة الإجتماعية – Social Conservatism، أي المزيج المتسق بين القيم التقليدية مع الحمائية الإجتماعية والإقتصادية.

يستند الإنقسام الجديد، في جميع البلدان المتقدمة، إلى المنطق الإقتصادي والثقافي ذاته الذي تستند إليه الأقاليم المدمجة في العولمة الإقتصادية، أي المدن الكبيرة المعولمة من ناحية، والمدن الصغيرة، والمدن الصناعية المتوسطة الحجم والمناطق الريفية(6) من ناحية أخرى: من حيث تأتي الموجة الشعبية، حيث تعيش الغالبية، المكونة من الطبقة العاملة والفلاحين والطبقات الوسطى التي تعاني من العولمة. هؤلاء هم الأشخاص الذين تحدث إليهم دونالد ترامب، خلال حملته الانتخابية في العام 2016، وهؤلاء هم الأشخاص الذين جعلوه يفوز.

أصبحت الشعوب الغربية الآن مستعدة لسماع خطاب إجتماعي محافظ والإستجابة له، ولكن يجب أن يظل التركيز منصباً على ما يوحِّد المكونات المختلفة لمجتمع الأغلبية: الحمائية الإجتماعية والإقتصادية والثقافية. الحقيقة هي أن المجتمعات الغربية، بالنسبة للكثيرين، تعتبر مجزأة للغاية بسبب اختفاء المعتقدات الجماعية إذ أنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إقامة تماسك مشابه لتماسك المجتمعات التقليدية.

لقد وعدت الشيوعية والجمهورية بإقامة جنة للمساواة على الأرض. وبعد أن فشلتا بالوفاء بوعودهما، مات الشيوعية، والجمهورية في مرحلتها الأخيرة من التحلل.

في المقابل، وعدت الكاثوليكية والأرثوذكسية، من خلال المعمودية والعمل، بالخلاص والنعيم الأبدي في الحياة الآخرة، لكنهما كفلتا أيضاً الحماية الإجتماعية على الأرض.

لذلك، يجب علينا أن ندمج، في المستوى الثاني من الخطاب الإجتماعي المحافظ، مسودة دستور قائم على القانون الطبيعي والقانون الإلهي (بالتزامن)، على النحو المخطط له من قبل آباء الدولة الحديثة، الفرنسي جان بودين – Jean Bodin (1529- 1596) والإنجليزي توماس هوبز – Thomas Hobbes (1588-1679)، اللذين أوضحا أن وظيفة السيادة تتمثل في الغرض الذي أوكلت فيه للحاكم، وهي توفير الأمن للشعب، الذي يرتبط بها وفقاً لقانون الطبيعة، وإلتزامه بمبدأ المحاسبة من الله، واضع هذا القانون، ولا أحد غيره.(7)

هذا ما يطالب به الشعوب اليوم: قادة وقوانين توفر لهم الأمن ضد “الثعبان” العالمي.

*ألقيت في “منتدى شيشيناو” الثالث بعنوان: المؤتمر الدولي “بعيداً عن لحظة الأحادية القطبية – توجهات متعلقة بعالم ناشئ متعدد الأقطاب” الذي عقد في سبتمبر/أيلول 2019.

**مؤرخ ديني ومحلل جيو – سياسي – فرنسا.

المراجع:

(1) Gustave Le Bon, La psychologie des foules, 1895, Presses Universitaires de France, 1963, pp. 59 – 60.

(2) Jean-Claude Michéa, entretien avec Laetitia Strauch-Bonart, “Peut-on être libéral et conservateur?”, Le Figaro, 12 Janvier 2017.

(3) Emmanuel Todd, Qui est Charlie? Sociologie d’une crise religieuse, 2015, Le Seuil, p. 53.

(4) Bernard Lazare, L’antisémitisme son histoire et ses causes, 1895, réédition 2012, Kontre Kulture, p. 131.

(5) Idem, Emmanuel Todd, Qui est Charlie? Sociologie d’une crise religieuse, p. 118.

(6) Christophe Guilluy, No Society, La fin de la classe moyenne occidentale, 2018, Flammarion, pp. 27 – 28.

(7) Thomas Hobbes, Le Leviathan, chapitre XXX : De la fonction du Représentant souverain, 1651.

مصدر الصور: منظمو المؤتمر.