أرنود دفلاي**

مرحباً وشكراً للجميع على الدعوة لحضور المؤتمر. أود أن أعرب عن امتناني بشكل خاص لصديقنا ورفيقنا روري روكا على تنظيمه الدقيق لهذه الفعالية، حيث يهدف منتدى “شيشيناو” إلى الجمع فيما بين أشخاص يشعرون بأنهم مضطرون للحفاظ على “ضوء الخافت” لمبدأي السيادة والاستقلال الوطني في بلداننا.

فبعد مرور ثمانية عشر عاماً على الهجمات على مركز التجارة العالمي، في 11 سبتمبر/أيلول 2001، يبدو أن الحدث العالمي عازم على تسريع عملية التفكيك التام للنظام القانوني الدولي الذي نشأ على أنقاض الحرب العالمية الثانية.

ومع بدء الإدراك بأن مشروع “التنويم المغناطيسي” الشامل الذي مُورس على الشعوب قد بدأ ينهار ببطء بسبب تناقضاته الداخلية، كشف أنصار النظام الآحادية القطبية القسري عن سعيهم ​​الحقيقي إلى تحطيم قواعد القانون الدولي.

فعلى الرغم من أن هذه القواعد لم تكن مثالية أبداً، إلا أنها كانت تتمتع، على الأقل، بمزايا عدة أهمها توفير الإستقرار النسبي والذي بات مهدداً الآن بالتلاشي منذ نهاية تلك الفترة التي استمرت لعقد من الزمن، والتي بدأت بالتلاشي بعد 10 سنوات فقط سقوط جدار برلين.

على هذا النحو، فإن العصر الذهبي المفترض لنظرية فرانسيسكو فوكوياما لـ “نهاية التاريخ وانتصار الليبرالية”، قد كشف عن نفسه الآن على أنه مجرد سرقة واسعة النطاق تؤدي إلى إفقار الملايين من الناس الذين شكلوا الطبقة الوسطى سابقاً.

لكن إطلاق العنان لهذا الطاغوت أصبح ممكناً فقط من خلال التقسيم المنهجي للهندسة القانونية في لب النظام السياسي في دولنا ذات السيادة ذات يوم. وهذا بدوره يطرح السؤال التالي: كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟

أثناء طرح صحفي لسؤال يريد من خلاله معرفة أهم الأحداث المأساوية في القرن العشرين، أجاب رئيس الإتحاد الروسي وبلا خجل: “نهاية الإتحاد السوفيتي.” لقد أدرك الرئيس فلاديمير بوتين، منذ فترة طويلة، توازن السلطة القائم بين الدول القومية القوية فقط هو الذي يمكن أن يضمن احترام القانون الدولي.

نظراً لأن المنافسات على السلطة تميل إلى فرض وضع راهن مفيد، يصبح من الممكن بعد ذلك تطبيق المبادئ الأساسية للقانون الدولي التي تتجسد في جملة أمور من بينها الركنين التوأمين لمبدأي “العقد شريعة المتعاقدين” والآراء القانونية الفقهية. يؤكد مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” على إنفاذ الوعود التعاقدية بين الدول.

وفي هذا الصدد وفي حال كانت الدول تتفاعل في إطار ثنائي أو متعدد الأطراف، فهذا يعني ضمناً أن على الدول الأطراف التفاوض بحسن نية من أجل التوصل إلى توافق في الآراء بشأن التفسير الذي يجب تقديمه لكل بند من بنود الاتفاق. من هنا، تشكل اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية (1961) مثالاً رئيسياً على التطبيق الأمين لمبدأ “العقد شريعة المتعاقدين”.

ومن المؤكد أن ذلك لن يحدث بأن تقوم دولة، طرف في هذه الإتفاقية، بإنتهاك بند يمس الحصانة القنصلية أو الدبلوماسية الممنوحة للمبعوثين في أية بعثة دبلوماسية على أراضي الدولة المضيفة. وهذا المبدأ ينطبق حتى في حال قيام أحد اعضاء البعثة بإرتكاب جريمة أو جنحة على أراضي دولة المضيفة.

هذا تجاهل المبدأ الأساسي للحصانة من الملاحقة القضائية من قبل الدولة المرسلة من شأنه تعريض موظفيها الدبلوماسيين إلى الإعتقال من قبل الدولة المضيفة أو غيرها من الدول الأطراف في الإتفاقية من خلال ما يعرف بمبدأ “المعاملة بالمثل”، والهدف من ذلك توجيه رسالة ردع واضحة إلى المخالفين المحتملين، لهذه القاعدة، في المستقبل.

إن مبدأ “المعاملة بالمثل” يعتبر نتيجة طبيعية لإحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات التي تقوم بدور المحفز لمبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” حيث أنها تنظم سلوك الدولة المتعاقدة في تأمين العلاقات فيما بين الدول.

إن هذه القواعد غير المعلنة تعتبر عميقة ومتأصلة في القانون الدولي العرفي، الذي خرجت من رحمه أغلب الإتفاقيات والمعاهدات الدولية، إضافة إلى آراء الفقهاء القانونية والتي تشكل القاطرة الثانية للقانون الدولي الحالي.

بالنسبة للقانون الدولي العرفي، فهو يتكون من عنصرين؛ العنصر الأول يتمثل في وجود ممارسة مشتركة على نطاق واسع للقانون الدولي من قبل المجتمع الدول القومية (أو الإعتياد والتكرار). أما العنصر الثاني فهو التطبيق الشامل والمشترك، وبشكل عام، لمبادئ القانون الدولي من قبل الدول القومية بحيث أن القواعد المتفق عليها تخضع للتفسير القانوني.

من أجل تطبيق الأحكام القانوني لأية إتفاقية أو معاهدة، من الضروري أن ينظر إليها على أنها جزء لا يتجزأ من هيكل القانون الدولي، فهذا الأخير لا ينظر إليه على أن تطبيق قواعده تقتصر على الدول الأطراف المتعاقدة بل تتعداها إلى كافة الدول القومية في المجتمع الدولي بما فيهم تلك الدول التي لم تصدق على هذه القواعد والأحكام.

إستطراداً لما سبق، ينظر إلى الآراء القانونية الفقهية على أنها أكثر أهمية خصوصاً في الحالات التي لا يكون فيها قاعدة قانونية جاهزة للتطبيق. فإذا لم يكن هناك قانون وضعي أو اجتهاد لتسليط الضوء على سلوك الدول، يمكن القول بأن التكييف القانون للسلوك غير واضح بعد.

فيما يخص الفكرة السابقة، إن عدم وضوح هذه الحالة قد يولد انحرافاً لدى الدول في تطبيق قواعد القانون لأنه سيغريها كي تكون حرة في تفسير القواعد القانونية التي لا تزال تقارب حالات ذات الفراغ القانوني، والسابقة المهمة، ذات السمعة السيئة، على هذا الانحراف هو ما يعرف بمبدأ “مواجهة العدو”.

في أعقاب الهجمات على مركز التجارة العالمي، ابتكرت الولايات المتحدة، من جانب واحد، عقيدة تسمح بتجاهل مبادئ القانون الإنساني المنصوص عليها في اتفاقيات جنيف والقانون الدولي العرفي بحيث شرعت في تنفيذ ما سمته “الحرب على الإرهاب”.

فبعد أن شعرت بحرية التصرف كقوة مهيمنة في ذلك الوقت، قدمت حكومة الولايات المتحدة فكرة مفادها بأن الحماية الممنوحة للمقاتلين العسكريين عادة لا يمكن تطبيقها على الأفراد الذين يتصرفون خارج نطاق الجهات الفاعلة غير الحكومية، التي لا تحمل شارات مميزة والتي تبنت قواعد غير معترف بها الإشتباك العسكري التقليدي.

من هنا، أدى تبني عقيدة “مواجهة العدو” إلى حدوث سلسلة من الإنتهاكات لقواعد القانون الدولي الآمرة التي تشمل الحرمان من الحقوق المرتبطة بمحاكمة عادلة والإتصال بمحامٍ في الوقت الذي يكون فيه قادراً على الوصول إلى أدلة تجريمية.

وما زاد الطين بلة، هو طريقة أخذ الإعترافات عبر ممارسة التعذيب، حيث يتم الإستماع للرئيسة الحالية لوكالة الإستخبارات المركزية للتأكيد على ما تقدم. كما تم التوصل إلى مستوى أكبر من عدم الشرعية عندما اختارت واشنطن تنفيذ برنامج الترحيل السري الإستثنائي.

لقد أثارت هذه العمليات، التي نفذتها أجهزة المخابرات الأمريكية، انتقادات كثيرة من قبل علماء القانون، والتي أدت إلى مطالبة المحاكم الأجنبية بإعتقال وتسليم المرتكبين بحيث يمكن توجه تهم إليهم على أراضي الدول التي تعتبر بعضها حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية.

من أكثر الآثار الجانبية المؤسفة لمثل هذا التصرف الخارج على القانون هو أن التنفيذ يتم من قِبل دولة، وإن لم تكن أقوى دولة في العالم (العضو المؤسس للأمم المتحدة الذي يشغل مقعداً دائماً في مجلس الأمن)، ما يؤسس لسابقة يمكن ان تعتمدها الدول الأخرى عندما تشعر بأنها مضطرة للعمل بشكل مشابه، ما يقوض النظام العالمي للأمم المتحدة ككل. فبمجرد البدء بتطبيق هذه القواعد غير القانونية، سيصبح من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، العودة إلى الوضع السابق.

في هذا السياق، يمكن للمرء أن يقدر بشكل أفضل الإنسحاب الأحادي للولايات المتحدة من معاهدات الحد من إنتشار الأسلحة النووية، أي معاهدتي الأسلحة النووية متوسطة المدى و معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية.

بالمثل، فإن الضغط الذي تمارسه واشنطن لإجبار طهران على إعادة التفاوض على “خطة العمل الشاملة المشتركة” – JCPOA (أو ما يعرف بـ “الإتفاق النووي الإيراني”)، خصوصاً وان إيران قد إمتثلت لأحكام المعاهدة بإعتراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، يؤكد على مستوى الوقاحة المطلقة التي استحوذت على سياسة واشنطن الخارجية.

أخيراً، هذه السابقة من الفوضى المستمرة والتي شجعت بعض الشرائح العميقة في  الولايات المتحدة على فرض سرد مبني على معلومات استخباراتية مزيفة من أجل تبرير التدخل العسكري في العراق وليبيا وسوريا، جاء بالتواطئ مع الشركات المالكة لوسائل الإعلام.

تجدر الإشارة هنا إلى أنه مع تركيز وسائل الإعلام الإخبارية في يد قلة قليلة من الأشخاص المرتبطين ارتباطاً وثيقاً بشركات صناعة الأسلحة، سهل إلى حد كبير المهمة في خداع الرأي العام للقبول إختيارياً بفكرة شن الحروب على مدار العقدين الأخيرين.

كونوا أكيدين بأن أياً من الإحتجاجات الجماعية ضد تركيب صواريخ متوسطة المدى في ألمانيا الغربية، العام 1983، لن تكون ممكنة اليوم. وبالمثل، لم يتم الإهتمام بأكثر من 15 مليون شخص احتجوا على الغزو الوشيك للعراق، 2003، لأن هذا الحدث المهم لم يتم تناوله من قبل وسائل الإعلام.

إن نتيجة كل هذا التسلسل من الأحداث هو أنه، وبعد 20 عاماً من أحداث 11 سبتمبر/أيلول (2001) يثبت هشاشة الأمن الدولي على غرار ما حدث قبل وقوع الحرب العالمية الثانية.

*ألقيت في “منتدى شيشيناو” الثالث بعنوان: المؤتمر الدولي “بعيداً عن لحظة الأحادية القطبية – توجهات متعلقة بعالم ناشئ متعدد الأقطاب” الذي عقد في سبتمبر/أيلول 2019.

**محام دولي.

مصدر الصورة: منظمو المؤتمر.