في اليوم الأول من شهر أيلول عام 1920 أعلن الجنرال غورو (القائد العام للجيوش الفرنسية في سوريا ولبنان) في بيروت إعادة لبنان الكبير الى الوجود بهذه العبارة “في سفح هذا الجبل الشامخ الذي كان قوة بلادكم وسور إيمانها وحريتها المنيع، وعلى شاطئ هذا البحر العجيب الشهير الذي شاهد سفن فينيقيا واليونان ورومة ماخرة عبابه حاملة آبائكم أهل الذكاء والمهارة وأرباب الفصاحة والتجارة، وهو يحمل اليكم اليوم، بعد رجوع الحظ، عهد صداقة عظيمة قديمة ونعمة السلم الفرنسي، وامام هؤلاء الشهود جميعاً، شهود آمالكم ومجهوداتكم وانتصاراتنا، وبقلب يشاطركم فرحكم وفخركم.. أنادي بإسم حكومة الجمهورية الفرنسية بدولة لبنان الكبير وأحييه راجياً له المجد والنجاح.”(1)
على أبواب المئوية الأولى لـ “إعادة لبنان الكبير الى الوجود”(2) وبعد إنجاز معظم التحضيرات لإستثمار الغاز المكتشف في العشرية الأخيرة في المياه البحرية مقابل الساحل الشرقي للبحر المتوسط، يدخل وطننا، في سباق مع الدول الأخرى المشاطئة، مرحلة مهمة على صعيد تطوير قطاع النفط والغاز والإنتقال الى المرحلة الفعلية من التنقيب، توازياً مع التحضير لدورة التراخيص الثانية في المياه البحرية اللبنانية الذي وافق عليها مجلس الوزراء مطلع نيسان الفائت، فيما أظهرت شركات صينية وروسية حماسة كبيرة للدخول فيها، بالاضافة الى الشركات التي فازت في عقود الدورة الاولى.
تشمل المناقصة التي أطلقتها توتال إستدراج العروض لتجهيزات لوجستية أخرى، ومنها ما يتعلق بمقدمي الخدمات والفيول لتشغيل وتجهيز مهبط الطائرات وخط الأنابيب وغيرها. وتمتلك شركة Vantage Drilling سفينة Tungsten Explorer المتخصصة بالحفر في المياه العميقة والشبيهة بأعماق المياه اللبنانية. ولهذا تقدمت الشركة للمناقصة، مراعية النقاط التقنية التي لحظها دفتر الشروط، على ان تبدأ هذه السفينة عملها في منتصف ديسمبر/كانون الاول (2019) في المياه اللبنانية من خلال حفر اول بئر على البلوك رقم 4، لتستغرق عملية حفر البئر الاولى ما يقارب 55 يوماً، على أن يبقى استكشاف ثلاث آبار قبل تحقيق إكتشاف مهم إستناداً الى تقديرات مجموعة توتال. وبعد إنجاز عمليات الحفر على البلوك رقم 4 تنتقل سفينة الحفر خلال الربع الاول من سنة 2020 الى البلوك رقم 9.(3)
هذا الإنتقال من مرحلة الدراسات إلى مرحلة التنقيب، جدير بالإشادة في خطة الحكومة ووزارة الطاقة تحديداً، ويشكل بارقة أمل للبنانيين في تحسين الوضع الإقتصادي بدخول وطنهم عالم الدول النفطية، والعبور إلى المئوية الثانية بإقتصاد قوي وموقع جيوسياسي يعيد وضع لبنان القوي على رقعة شطرنج الشرق الأوسط.
ومن حيث أن الإكتشافات من الغاز والنفط في الحقول البحرية أمام سواحل شرق المتوسط متداخلة بين الحدود البحرية للدول المشاطئة، والتي لا تمتلك الخبرات البترولية في التعاطي مع هذه المواد الهيدروكربونية، ومن حيث “العطش” الأوروبي للطاقة، والتنافس التجاري بين الشركات والدول من ورائها، وبعد مضي أكثر من ست سنوات على هذه المتكشفات حيث لم يتم تصدير أية كمية الى الخارج، ما يعني وجود صعوبات ومعوقات كبرى أمام بلوغ سكة الإنتاج طريقها.
سنعمد في هذا البحث إلى إلقاء الضوء على الوضع القائم في شرق حوض البحر المتوسط، ونناقش التنافس الجاري بين دول المنطقة على استغلال الثروات الطبيعية المقابلة لحدودها البحرية، وحسابات القوى الإقليمية في هذا الملف، ومصالح القوى الكبرى وأمن المنشآت النفطية أثناء وبعد إكمال التنقيب والإنتاج، وصولاً إلى المسالك المتوقعة لطريق الغاز اللبناني إلى الخارج، في ضوء الوضع الجيوسياسي الذي نتج عن إعلان القاهرة قيام “كونسورتيم” من سبع دول شرق أوسطية بما فيها إسرائيل تباركه الولايات المتحدة الأميركية، أو الإتجاه شمالاً إلى المحور الذي يصب في المصلحة الروسية.
نبذة مختصرة عن المكتشفات البترولية في شرق المتوسط
قدرت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، في العام 2010، أن شرق البحر المتوسط يحتوي على أكثر من 3.5 تريليون متر مكعب من احتياطي الغاز و1.7 مليار برميل من النفط القابل للإسترداد. تبلغ الموارد الهيدروكربونية التي تم العثور عليها حتى الآن 2.1 Tcm وتقع جميعها في حوض الشام الذي يمتد على المياه الإقليمية لقبرص وإسرائيل والأراضي الفلسطينية ولبنان وسوريا. الحقول الرئيسية قريبة بشكل ملحوظ من بعضها البعض: يقع الحقل المصري “ظهر” على بعد حوالي 90 كلم من حقل “أفروديت” القبرصي، على بعد 7 كلم من ليفياثان الإسرائيلي.. الدراسات الإستقصائية الأولية تشير إلى احتياطيات كبيرة من الغاز في الجرف اللبناني. إن قرب حقول الغاز يجعل التنقيب المشترك مفيداً بشكل خاص: وُفورات الحجم ستقلل بشكل كبير من متطلبات الاستثمار وتحفز ظهور التعاون الإقليمي في مجال الطاقة.(4)
وفي التواريخ والأرقام كذلك، فقد أعلنت إسرائيل في العام 2009 اكتشافها لحقل غاز “تمار”، واكتشفت شركة النفط الأميركية Noble energy حقل ليفياثان في المنحدر القاري للبحر الأبيض المتوسط على بعد 135 كلم غرب حيفا، في يونيو/حزيران 2010، وتُقدر احتياطيات الغاز الطبيعي فيه بما يصل إلى 450 مليار متر مكعب، حيث يبلغ مجموع احتياطي الحقلين 25 تريليون قدم مكعب من الغاز. وفي 2011، أعلنت قبرص اليونانية اكتشاف حقل “أفروديت” بمخزون 27 تريليون قدم من الغاز، إلا أن العديد من الخبراء يؤكدون أن معظم حقول الغاز الإسرائيلية والقبرصية – اليونانية تقع داخل المياه الإقتصادية المصرية، معتبرين أن الاتفاقيات الأخيرة ضيعت حقوق مصر التاريخية في هذه الثروات.(5)
ويوجد في لبنان، حسب توقعات حكومية، حوالي 700 مليار متر مكعب من الغاز. وتقع الإحتياطيات اللبنانية بين حوضين جيولوجيين، مما يجعل استكشاف إمكانات صعبة للغاية (ومكلفة). من حيث إمكانات الإستخدام، فإن تغويز الاقتصاد اللبناني سوف يستفيد بالتأكيد من ثروته الخارجية. تستخدم البلاد حالياً النفط (94٪ من الاستهلاك الأولي) مع بعض المصادر المتجددة المحدودة (حوالي 4٪) والفحم (2٪). ويبلغ عدد سكانها حوالي 7 ملايين نسمة (بما في ذلك مليون لاجئ سوري)، فإن غالبية الغازات المكتشفة على الرغم من أنها ستكون موجهة للتصدير، وقد يكون هذا في منافسة مباشرة على غاز ليفيثان. ومن شأن نقص البنية التحتية أو مرافق الغاز الطبيعي المسال أن يوقف آفاق الإستثمار. مرة أخرى، قد تثبت محطات الغاز الطبيعي المسال في مصر أنها حيوية لتوقعات استكشاف لبنان أيضاً. ولكن هذا سيكون قضية المستقبل.(6)
ما هو الغاز الطبيعي المسال؟
الغاز الطبيعي المسال (LNG): هو غاز طبيعي تم تبريده إلى 161 درجة مئوية تحت الصفر، ويتكون بشكل أساسي من الميثان، ونسب قليلة من هيدروكربونات أخرى مثل الإيثان والبروبان والبيوتان، كما يحتوي أيضاً على الماء وثاني أكسيد الكربون والنيتروجين والأكسجين وبعض مركبات الكبريت. ويتم إزالة معظم هذه المركبات الإضافية خلال عملية الإسالة، حيث يتكون الغاز المتبقي بشكل رئيسي من الميثان وكميات قليلة فقط من هيدروكربونات أخرى.
في حالة الغاز الطبيعي السائلة، يتم تقليص حجم الغاز الطبيعي المسال إلى ما يقارب 1\600 من حجمه مقارنة بحالته الغازية، وهذا يسهل عملية تخزينه ونقله بأمان وبشكل موثوق لجميع أركان الكرة الأرضية. الغاز الطبيعي المسال هو سائل عديم اللون والرائحة غير مسبب للتآكل وغير سام ويتم تخزينه ونقله في ضغط جوي يتوافق مع درجة غليانه. مما يعني أن درجة حرارته تبقى ثابتة طالما تم المحافظة عليه تحت ضغط ثابت.
بالنسبة للدول التي يستخدم فيها الغاز في الأسواق المحلية يكون نقل الغاز خلال خطوط الأنابيب قابل للتطبيق فنياً واقتصادياً، وهو الخيار المستخدم لنقل الغاز الطبيعي الروسي إلى الأسواق الأوروبية، وكذلك نقل الغاز الكندي إلى أسواق الولايات المتحدة الأمريكية، وعند استحالة نقل الغاز خلال خطوط الأنابيب كما هو الحال بالنسبة لبعض الدول حيث أن الأسواق الرئيسية على بعد آلاف الكيلومترات يعتبر إسالة الغاز هو الحل الأمثل لنقل أكثر سهولة.(7)
في الوقت الذي لا تمتلك دول شرق المتوسط معامل تسييل الغاز، تمتلك مصر معملي دمياط وادكو بكلفة لا تقل عن 11 مليار دولار، فيما تعمل قبرص على تحديث معملها القديم، وبذلك يكون البلدان مصباً للغاز القادم من الشرق.
أهمية الغاز في شرق البحر الأبيض
- الأهمية الجيوبوليتيكية للمنطقة الأوسع التي يقع فيها وهي منطقة الشرق الأوسط التي تضم حوالي 47% من احتياطي النفط و41% من احتياطي الغاز في العالم.(8) وزاد من أهميتها انفتاح البحر المتوسط على تقاطع آسيا وأوروبا وإفريقيا، واتصاله بطرق التجارة العالمية عبر مضائق السويس والبوسفور وجبل طارق.
- الآمال الجيو- سياسية والجيو- اقتصادية والجيو- أمنية التي يحملها الغاز في تلك المنطقة بالنسبة إلى دول الجوار والتي راهن البعض على أنها ستغير المعطيات السياسية والإقتصادية لدول المنطقة.
- الصراع على استغلال ثروات الهيدروكربون والتنافس على طرق تصديرها والتزاحم على حصص الأسواق الخارجية، بالإضافة إلى تحويل دول المنطقة إلى لاعب دولي صاعد في لعبة الغاز.
- المنافع السياسية والإقتصادية والأمنية التي افترض كثيرون أن الغاز سيأتي بها لدول المنطقة.(9)
الصراع الإقليمي على الغاز من منظور حدودي
لا يضمن اكتشاف الغاز بحد ذاته للدولة صاحبة الحق الاستفادة منه سواء داخلياً أو للتصدير، بل يجب أن يكون الاكتشاف مجدياً، وتدخل عوامل متعددة في هذه المعادلة أهمها وجود سوق للإستهلاك وبنية تحتية مناسبة، يضاف إليها وجود مشتر وطرق نقل إلى الأسواق الخارجية في حال كانت الكميات المكتشفة تفوق حاجة الاستهلاك المحلية.
توالي الإكتشافات رفعت آمال دول شرق البحر المتوسط، وفتحت شهية شركات النفط والغاز، وألهبت التنافس الإقليمي على الموارد، وجذبت انتباه القوى الدولية إلى ثروة إضافية وبؤرة صراع محتملة. كما أن اكتشاف الغاز في هذه المنطقة جاء مترافقًا مع مشاكل متعددة، لعل أهمها:
- معظم دول شرق البحر المتوسط لم تكن جاهزة لناحية البيئة القانونية المناسبة لإستثمار الثروات قبالة سواحلها. ومع بدء الإكتشافات قبل حوالي عقد من الزمان، دخلت دول المنطقة في سباق مع الوقت.
- غالباً ما كان الإتفاق على ترسيم الحدود وتحديد الحقول مع الدول المجاورة معلقاً، لكن مع الإكتشافات الضخمة، أصبحت المسألة مهمة للغاية، وباتت موازين القوى أكثر أهمية في المعادلة.
شهد الربع الأول من العام 2018 تصاعداً كبيراً في التوتر بين دول حوض شرق البحر الأبيض المتوسط، لا سيما بين تركيا وجمهورية قبرص اليونانية من جهة، ولبنان وإسرائيل من جهة أخرى، وذلك نتيجة للتنافس القائم بين هذه الدول على استغلال الموارد الطبيعية الموجودة في هذه المنطقة وعلى رأسها الغاز.
أولاً: لبنان
أ – لبنان – إسرائيل: كما هي الحال بين تركيا وقبرص، هناك صراع متعدد الأبعاد بين لبنان وإسرائيل. البلدان لم يُرسِّما حدودهما المائية مع بعضهما البعض، أضف إلى ذلك أن إسرائيل ليست موقعة على معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار (1982)، وهي تعتبر أن هناك رقعة تابعة لها ضمن المنطقة الإقتصادية الخالصة التي رسَّمها لبنان. يبلغ حجم الرقعة التي تدعي إسرائيل أن لها فيها حقوقاً حوالي 850 كلم2، ويثار الإشكال تحديدًا حول المناطق 8 و9 و10 من المنطقة الإقتصادية الخالصة التابعة للبنان ولا سيما المنطقة رقم 9، حيث يعتقد أن هناك موارد طبيعية هائلة من الغاز والنفط.(10)
في المقابل، يرفض لبنان هذه المزاعم الإسرائيلية، ويعتبر أن استناد إسرائيل إلى الخط الأزرق البري في رسم حدود بحرية غير قانوني ولا يعول عليه، كما ترفض الحكومة اللبنانية أيضاً اتفاق الترسيم الذي تم بين قبرص وبين إسرائيل، وتطالب نيقوسيا بأن تقوم بتعديل هذا الاتفاق ليعكس الترسيم اللبناني لحدود المنطقة الإقتصادية الخالصة الخاصة بها، وهو الأمر الذي ترفضه نيقوسيا أيضاً.(11)
وبحسب الطريقة الإسرائيلية لرسم الحدود البحرية، فإن معظم مساحة المثلث البحري يقع قبالة الساحل اللبناني، والزاوية الشمالية للمثلث البحري تقع قبالة مدينة صيدا اللبنانية تقريباً. وادعت الدراسة أن هذا النزاع أصبح علنياً في أعقاب اكتشاف حقول الغاز البحرية. وأودع لبنان ترسيم حدوده البحرية مع إسرائيل لدى الأمم المتحدة على خلفية عزمه التنقيب عن حقول غاز في مياهه الإقليمية، وفي موازاة ذلك أودعت إسرائيل ترسيما لحدودها البحرية، وزعمت أن لبنان ضم إليها قسماً من مياهها الإقتصادية.(12)
وفي يناير/كانون الثاني 2018، علّق وزير الدفاع الإسرائيلي على منح لبنان ثلاث شركات أجنبية رخصاً للتنقيب عن النفط والغاز في المنطقة الإقتصادية اللبنانية الخالصة بأنه تحد سافر وعمل استفزازي، وأن قبول الشركات الأجنبية بهذا الأمر هو بمنزلة خطأ فادح. وردت الحكومة اللبنانية على هذا التصريح بسلسلة من التصريحات التي تدافع فيها عن حقها، كما دخل حزب الله اللبناني على الخط مهدداً إسرائيل ليقدم نفسه حامياً لهذه الحقوق.(13)
المفاوضات بين إسرائيل ولبنان حول رسم الحدود البحرية بينهما، سلكت طريق الرحلات المكوكية، واجتازت مرحلة كبيرة، كان يقودها نائب وزير الخارجية الأميركية، ديفيد ساترفيلد، وسوف يستكملها السفير الأميركي، دافيد شينكر. واعتبرت دراسة حديثة نشرها “معهد أبحاث الأمن القومي” في جامعة تل أبيب، أن الموافقة اللبنانية على إجراء هذه المفاوضات جاءت في أعقاب موافقة حزب الله، وتساءلت ما إذا كان من شأن التوصل إلى اتفاق حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل أن يشكل حافزاً بالنسبة لحزب الله للحفاظ على الهدوء على طول الحدود ولفترة طويلة، وما إذا سيكون بالإمكان، في أعقاب اتفاق، دراسة تعاون رباعي إسرائيلي – لبناني – قبرصي – مصري وفق ما نقله موقع “عرب48”.
ب – لبنان – قبرص: لم تتوقف الإجتماعات بين الجانبين اللبناني والقبرصي على صعيد هيئة إدارة قطاع البترول والمسؤولين في وزارة الطاقة القبرصية لوضع إتفاق بين الدولتين يحدد أطر التعاون المستقبلي بين لبنان وقبرص، في حال تم إكتشاف حقول نفطية وغازية مشتركة بين البلدين. وبالفعل، قدم لبنان كل اقتراحاته وملاحظاته الاساسية التي يجب ان يأخذ بها الإتفاق الذي يساهم في تحديد آليات تنظيم التعاون على صعيد الإنتاج وتوزيع الكميات وتطوير الحقول من الشركات الخاصة، وإمكان إستثمار المخزون المشترك في حال وجوده في مشاريع مشتركة. وفي هذا السياق، علمت جريدة “النهار” من مصادر متابعة لهذه الإجتماعات، ان الجانب اللبناني وضع كل النقاط التقنية التي يصر على ملاحظتها ضمن الاتفاق الذي يتوقع ان يتم الاعلان عنه في نهاية شهر سبتمبر/أيلول. ومن المهم ان يتم الخروج بإتفاق إطار شامل مع الجانب القبرصي لا سيما ان البلوكات اللبنانية 1 و5 و8 تقابلها بلوكات نفطية قبرصية وأهمها البلوكان 3 و9، ما يعني إحتمال مرتفع لوجود مكامن وحقول مشتركة، كما أعلنت نيقوسيا إطلاق دورة تراخيص ثالثة وأنجزت التلزيمات، وهي في مرحلة إطلاق استكشافات جديدة، ومنها على البلوكات المحاذية للبلوكات اللبنانية وتحديداً على البلوك رقم 3 القبرصي المقابل للبلوك 1 اللبناني. ولا بد من الإشارة الى ان اي إتفاق سيتم التوصل اليه مع الجانب القبرصي يجب ان يقر في مجلس الوزراء وأيضاً من مجلس النواب اللبناني لإعتباره معاهدة دولية تتطلب المرور ضمن الأُطر الدستورية.(14)
ثانياً: تركيا
حسابات تركيا السياسية المتعلقة بالغاز في شرق البحر المتوسط كانت ولا تزال ترتبط بآمالها في أن يتحول اكتشافه إلى دافع لإنجاز مصالحة توحد شطري الجزيرة وتتيح لهما الاستفادة من الثروات المكتشفة. لكن سعي قبرص اليونانية إلى إجراءات أحادية تتجاهل مطالب الجانب التركي والقبرصي التركي حول الغاز ما يحوّل “الملف التصالحي” إلى ملف خلافي يميل إلى المعادلة الصفرية؛ إذ تعتبر أنقرة أن مثل هذا السلوك كان ولا يزال وراء فشل مفاوضات السلام المتعلقة بالجزيرة في وقت كان من الممكن فيه استغلال ملف الغاز من أجل حشد الدعم اللازم لتوحيد الجزيرة كشرط لإستغلال ثرواتها المشتركة.(15)
أ – قبرص التركية – قبرص اليونانية: تَعتبر قبرص التركية أن ثروات الجزيرة هي ملك لجميع أبنائها، ولا يجوز استغلالها بمعزل عن الطرف الآخر، لكن قبرص اليونانية تجاهلت هذا الأمر وقامت بالانتهاء من ترسيم حدود منطقة اقتصادية خالصة لها (EEZ) تمكنها من استغلال ثروة الغاز بشكل أحادي في العام 2010؛ مما دفع قبرص التركية للرد بخطوة مماثلة، فقامت بتحديد حدودها البحرية، كما وقَّعت اتفاقاً مع تركيا لترسيم الجرف القاري، في العام 2011.(16)
ونتيجة لهذه الإجراءات، أصبح هناك تداخل بين المناطق المحددة من قبل الطرفين القبرصيين (التركي واليوناني). ولذلك تطالب قبرص (التركية) بحقها في المناطق رقم 1و2 و3 و8 و9 و12 و13 التي قامت قبرص (اليونانية) بترسيمها.
ب – تركيا – قبرص اليونانية: تتسم المشكلة بين تركيا وقبرص (اليونانية) ببُعدين؛ الأول، يرتبط بالدولتين مباشرة، والثاني يرتبط بالعلاقة بين قبرص التركية (لا يعترف بها أحد بإستثناء تركيا) وقبرص اليونانية (عضو في الإتحاد الأوروبي). بالرغم من ذلك، غالباً ما يتم التعامل مع الملف كمشكلة واحدة ذات أبعاد سياسية وقانونية وحدودية واقتصادية وأمنية متشابكة ومتعددة.
تركيا ليست عضواً في معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار التي تتيح تحديد المناطق البحرية، وأحد أسباب ذلك هو نزاعها مع اليونان في بحر إيجه. تعتبر تركيا أن المنطقة الإقتصادية الخالصة التي حددتها قبرص اليونانية تتداخل مع الجرف القاري التركي ومع المنطقة الإقتصادية الخالصة التابعة لها (لم يتم الإعلان عنها رسمياً) في المناطق 1 و4 و5 و6 و7.
واستنادًا إلى هذه المطالب، لا تعترف تركيا بالإتفاقات التي أقامتها قبرص (اليونانية) لترسيم منطقتها الإقتصادية الخالصة مع كل من مصر وإسرائيل ولبنان، وترى أن إرساء المناقصات على الشركات الأجنبية للبحث والتنقيب على الغاز في هذه المنطقة غير قانوني، لأنه ينتهك حقوق أنقرة، كما تدعم تركيا مطالب قبرص التركية في حقوقها في المناطق التي أعلنتها.(17)
في ظل هذا التنافر، شهد النزاع اليوناني – التركي، تطوراً دراماتيكياً، فقد كلّفت جمهورية قبرص (اليونانية) شركة “إيني” الإيطالية بالتنقيب عن الغاز في إحدى المناطق المتنازع عليها مع تركيا، فقامت البحرية التركية بإعتراض السفينة التابعة للشركة الإيطالية ومنعتها من العمل، وبذلك استخدمت تركيا للمرة الأولى في تاريخها الحديث قوتها الصلبة لإعتراض سفينة أوروبية.(18) أدى هذا الأمر إلى ردود أفعال من قبل قبرص اليونانية واليونان ومجلس الاتحاد الأوروبي، ورد المسؤولون الأتراك ومجلس الأمن القومي بالتعهد بالتعامل بحزم مع هذا الموضوع.
ثالثاً – مصر
من وجهة نظر تركية، بالإستناد إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي تم إقرارها العام 1982، فإن كل دولة تمتلك ما يصطلح عليه بـ “منطقة اقتصادية خالصة” لمسافة 200 ميل بحري فقط. وفي حالة شرق المتوسط تكون الدول ذات الحدود البحرية المشتركة هي التي بينها مسافات أقصر، وبالتالي فأن مصر وتركيا بحدود مشتركة تبلغ 322 كلم، بمسافة بينهما تبلغ 274 ميلاً بحرياً دون حساب جزيرة “كاستلوريزو” التي تسيطر عليها اليونان. وهذا يعني أن أنقرة والقاهرة أحق من قبرص اليونانية واليونان التي تبلغ الحدود بينهما 297 ميلاً بحرياً.(19)
وهناك من يرى أن الخلافات بين مصر وكل من إسرائيل وقبرص اليونانية واليونان قد اختفت تماماً إثر تنازلات تم تقديمها من القاهرة تحديداً، وذلك لغايات سياسية خالصة تتعلق بالنظام المصري.
تداركت القيادة المصرية خلافها مع اسرائيل، ويشرح الكاتب اللبناني ناصر الحسيني أن “من بين أسباب اتفاقها مع إسرائيل على صفقة الغاز، مقاضاة الأخيرة لها وتغريمها في نيسان 2017 مبلغ ملياري دولار لصالح شركة الكهرباء الإسرائيلية، على خلفية التوقف عن إمداد الشركة بالغاز أوائل العام 2012، بسبب تفجير الأنابيب في سيناء عشرات المرات. لذا ارتأت مصر أن تساير إسرائيل بعقد اتفاقية استيراد غاز منها لمدة 10 سنوات بقيمة 15 مليار دولار، لتسييله في محطاتها في دمياط وإدكو على البحر الأبيض المتوسط، مقابل تنازل إسرائيل عن حكم التعويض. وبحكم العلاقة السياسية الوطيدة بين نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي والكيان الغاصب، انضمت إسرائيل إلى رؤية مصر بشأن تجارة الطاقة في المنطقة التي تبلورت بشكل منتدى لتجارة الغاز.”(20)
حالات أخرى
أ – سوريا: ليست موقعة على معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار، ورفضت في السابق ترسيم حدودها مع لبنان. وبعد الحرب السورية العام 2011، أصبحت دمشق خارج المعادلة تقريباً في وضعها الحالي، لكن لا شك أن الأمور ستتغير مع عودتها لاحقاً وفي ظل الإتفاقات التي كان نظام الرئيس بشار الأسد قد وقّعها مع روسيا في السنوات القليلة الماضية بشأن استكشاف واستخراج الغاز كما أن مجلس الأمن الدولي فرض حظراً على صادرات أي من موارد النفط والغاز السورية.(21)
ب – غزة/السلطة الوطنية الفلسطينية: ربما كان الفلسطينيون أول من اكتشف مواردهم من الغاز في المنطقة وذلك في العام 1999، أي قبل سنوات طويلة من الإكتشافات الإسرائيلية أو القبرصية، إلا أن الإحتلال الإسرائيلي منعهم من استغلال ثرواتهم بشكل كامل لأسباب سياسية واقتصادية، وبسبب الخلل في ميزان القوى والتشرذم الداخلي، لم يكن باستطاعة الفلسطينيين فعل الكثير لتغيير هذا الواقع.
*عميد متقاعد، وعضو اللجنة العلمية لمجلة الدراسات الأمنية، وباحث في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري – “إينغما”.
المراجع:
(1) فيليب حتي. تاريخ لبنان منذ أقدم العصور التاريخية الى عصرنا الحاضر. ترجمة: أنيس فريحة. دار الثقافة. بيروت – ط2. برنسون في آذار 1972. ص – ص: 596 – 597
(2) بحيث ألحقت بلبنان “المتصرفية” بيروت التي أصبحت العاصمة، ومدن صيا وصور وطرابلس والمدن والمقاطعات الدخلية مثل البقاع وبعلبك وحصبيا ورشيا ومرجعيون، والتي كانت سابقاً جزءاً من لبنان تريخياً وجغرافياً. فيليب حتي. المرجع السابق. ص: 597
(3) موريس متى. موقع جريدة النهار اللبنانية. 28/8/2019.
(4) القضايا الرئيسية وآخر التطورات والآفاق المستقبلية لشرق المتوسط للغاز. المركز الأوروبي للطاقة والتحليل الجيوسياسي. 7/4/2017. على الرابط: https://bit.ly/34zx0VH
(5) منتدى غاز شرق المتوسط خطوة تهدد بخلق نزاعات جديدة. موقع TRT عربية تاريخ 15/1/2019.
(6) القضايا الرئيسية وآخر التطورات والآفاق المستقبلية لشرق المتوسط للغاز. مرجع سابق
(7) عالم النفط والغاز www.oilgastoday.com
(8) راجع: Statista statistics, https://goo.gl/XiAR25
(9) علي حسن باكير. “النزاع على الغاز في شرق المتوسط ومخاطر الاشتباك”. الجزيرة. 22/4/2018 على الرابط: https://bit.ly/2r9vAm9
(10) راجع: Barrier, Félicité and others, “The Geopolitics of oil and GAS development in Lebanon”, AUB Policy Institute, policy brief no.1, January 2018, https://goo.gl/p3uJaq
(11) راجع: Cyprus-Lebanon, “Cyprus-Israel Offshore Delimitation”, MEES, volume 55, issue 40, 28 September 2012, https://goo.gl/9eMAJh
(12) الحدود البحرية اللبنانية – الإسرائيلية: مواقف حزب الله والسياق الإقليم. موقع عرب 48. 25/6/2019.
(13) لبنان يرد على ليبرمان حول الغاز البحري. الميادين. 31/1/2018. https://goo.gl/TgkUjF
(14) موريس متى. مرجع سابق
(15) راجع:Press Release, Turke’s MFA, No. 43, 15 February 2012, https://goo.gl/2BGwcm
(16) راجع:“Press Statement On The Continental Shelf Delimitation Agreement Signed Between Turkey And The TRNC”, Turkey’s MFA, 21 September 2011, https://goo.gl/65sybg
(18) راجع: Maritime delimitation and offshore activities in the eastern Mediterranean”, mfa.gov, 21 March 2012, https://goo.gl/rWoFbP
(19) راجع: “Turkish blockade of ENI rig for Cyprus drilling continues”, ANSA, 12 February 2018, https://goo.gl/gqPcKx
(20) معركة غاز شرق المتوسط.. سيناريوهات أمام أنقرة، TRTarabia، تاريخ 1 تشرين الثني/نوفمبر 2018.
المصدر: Future Concepts
مصدر الصور: Future Concepts
موضوع ذو صلة: القواعد العسكرية الاميركية في الشرق الأوسط: حجة مكافحة الإرهاب والسيطرة على الثروات الطبيعية