د. حكمت مصلح*
يعد أمر تأليف الحكومات في لبنان من الأمور التي تتجدد دائماً مع رحيل كل حكومة، فتكون البلاد أمام مساعٍ حثيثة، لأجل إعادة تكوين أحد جناحي السلطة التنفيذية. وهذه المسألة تطرَّق لها الدستور اللبناني قبل “إفاق الطائف” وبعده.
وفي كل مرحلة، كانت هناك نصوص دستورية ثم تبعتها العديد من الأعراف أو العادات. لذلك نسأل: ما هي صلاحيات رئيس الجمهورية في تأليف الحكومة قبل وبعد “إتفاق الطائف”؟ وهل الأعراف الدستورية عدلت من النص الدستوري في تأليف الحكومات قبل الإتفاق وبعده؟ وما هي نتائج وأعمال النصوص والأعراف وأثرهما على الحياة السياسية في لبنان قبل الإتفاق وبعده؟ هل هناك من ثغرات دستورية في التكليف أو التأليف بعد الإتفاق؟ في بحثنا هذا، سنحاول الإجابة عن كل هذه التساؤلات.
1. تأليف الحكومات قبل “إتفاق الطائف”
قبل الطائف، إمتلك رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة في تأليف الحكومة حيث نصت المادة 53 منه على أن “رئيس الجمهورية يعين الوزراء ويسمى منهم رئيساً ويقيلهم”. هذا النص، جعل رئيس الجمهورية المتحكم الأول في تسمية رئيس الحكومة وتأليفها؛ ولكن مع مرور الزمن، تمكنت القوى السياسية حد صلاحياته في التأليف من خلال الإعتراض على الشخصية التي يسميها أو حتى على التشكيلة الحكومية، على غرار ما حصل لحكومة الرئيس أمين الحافظ التي رحلت دون أن تتقدم لنيل الثقة بسبب اعتراض دار الفتوى والشارع السني عليها.
رويداً رويداً، هدَّأت القوى السياسية من حدة النص الدستوري وأصبح رئيس الجمهورية “يستأنس” برأي الأكثرية النيابية، رغم ان العديد من الرؤساء خالفوا رأي الاكثرية وأعملوا النص وتركوا الأكثرية تتخبط بإختيارها.
كل ذلك أدى في النهاية إلى اشتداد النزاع الداخلي، فكانت ثورة 1958 بوجه الرئيس الراحل كميل شمعون، الذي ألَّف خلال مدة ولايته أحد عشر حكومة. هذا التحكم من الرؤساء بالإضافة إلى عوامل اخرى سياسية واقتصادية واجتماعية وخارجية، دفع البلاد نحو أزمة عام 1975.
اللافت في هذه المرحلة، أن الرؤساء بممارساتهم لعمليتي التأليف والتكليف جعلوا كل السُنَّة يتوجهون إلى قصر بعبدا، إما طامعاً برئاسة حكومة أو طالباً لوزارة، وكذا كل المسلمين. كل ذلك، عزز وحدة الموارنة، وشتت شمل المسلمين، وتحسس الشارع المسلم هذا الأمر. من هنا، كانت الدعوة للتغيير، ولو بنص المادة 53 الذي جعل رئيس الجمهورية يتمتع بما يتمتع به رئيس الدول في النظم الرئاسية.
2. تأليف الحكومة بعد “إتفاق الطائف”
بعد الطائف تغيرت آليات تأليف الحكومات، فأصبح النص الدستوري يقيم وزناً لرأي ممثلي الشعب، ويعطي دوراً لرئيس مجلس النواب، بينما يبقي للرئيس حق البدء بالإستشارات، والتوقيع مع الرئيس المكلف على مرسوم التشكيل الحكومة إذ نصت المادة 53 من الدستور على أن رئيس الجمهورية يسمي “رئيس الحكومة المكلف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استناداً إلى إستشارات نيابية ملزمة يطلعه رسمياً على نتائجها”.
بموجب هذا النص، لم يعد رئيس الجمهورية يختار من يشاء لرئاسة الحكومة أو وزراؤها من دون رئيس المجلس النيابي، خصوصاً وأن لها صفة الإلزام سواء في إجرائها أو في نتائجها بحيث أصبح ملزماً بتكليف الشخصية التي سمتها الأكثرية النيابية، وليس له أن يخرج عن إرادتها، وهو ما نص الدستور عليه صراحة.
بعد التكليف، يتوجه الرئيس المكلف إلى تأليف حكومته، ويكون عليه بموجب منطوق الفقرة الثانية من المادة 64 أن “يجري الإستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها”. ومن نص المادة 53 ونص المادة 64 من الدستور نستنتج بأن:
– حراك التكليف يكون في القصر الجمهوري، وعلى الرئيس تكليف من سمته الأكثرية النيابية.
– حراك التأليف مرتبط بشخص الرئيس المكلف، فهو من يعد لائحة بأسماء الوزراء في حكومته، ويعرضها على رئيس الجمهورية. وبعد التوافق بين الرئيسين، تعرض التشكيلة على المجلس النيابي لنيل الثقة.
3. ثغرات دستورية في صلاحيات الرئيسين
هناك عدة نقاط بالنسبة لكلا الرئيسين، أبرزها:
– بالنسبة للرئيس المكلف، لم يحدد له الدستور مدة زمنية حتى يؤلف الحكومة لذلك قد لا يبادر الرئيس المكلف إلى تشكيل حكومته، ويتمادى في مسألة التأليف. ولقد حصل هذا التمادي مع الرئيس سعد الحريري، حيث بقيت عملية التأليف لعدة شهور، إذ لا يمتلك رئيس الجمهورية القدرة على سحب التكليف، ولا حتى المجلس النيابي. وبالتالي، تترك البلاد لـ “مزاجية” الرئيس المكلف ومدى قدرته على حلحلة العُقد التي تواجهه في التأليف وهذا ما يعد نقصاً تشريعياً يجب تداركه.
– بالنسبة إلى رئيس الجمهورية، لم يحدد أيضاً الدستور مسألة المدة بما يخص الإعلان عن بدء الإستشارات؛ بالتالي، قد يتراخى رئيس الجمهورية عن الدعوة إليها فترة من الزمن مستفيداً من هذه الثغرة الدستورية.
في هذا الشأن، يمكن القول بأن هنالك فرق بين تلكؤ الرئيس المكلف عن التأليف، وتلكؤ رئيس الجمهورية عن التكليف. فالرئيس المكلف يتشاور مع الكتل النيابية والقوى السياسية في البلاد واستشاراته غير ملزمة فالنص لا يفرض عليه أو على من يستشيرهم النتائج التي توصلت اليها الإستشارات؛ لذلك، يتعذر عليه أن يؤلف الحكومة حيناً من الزمن. فيما يخص رئيس الجمهورية، ليس لديه أية ذريعة دستورية تبيِّن سبب إمتناعه عن إطلاق الإستشارات النيابية، فهو ليس عليه إلا مراقبة واحصاء الأصوات وتحديد الرئيس المكلف بموجبها، فالآلية العملية واضحة وصريحة وتوصل إلى نتائج واضحة أيضاً. لكن السؤال هنا: ماذا ينتج عن تردد رئيس رئيس الجمهورية في البدء بالإستشارات؟
4. نتائج تردد رئيس الجمهورية عن البدء بالإستشارات
على مستوى الدستوري، يمكن ملء الفراغ الذي أحدثه القصور التشريعي من خلال ممارسة دستورية التي إذا ما تكررت تحولت إلى عادة والعادة المتكررة إلى عرف، و”المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً” يصعب تغيره أو هجره. السؤال هنا ماذا يعني نشوء هذا العرف؟
للوهلة الأولى، تحسب أن الرئيس الأول تباطأ، بعض الشيء، في المبادرة بالقيام بعمل دستوري، ولكن أن تخفي عملية التباطؤ أموراً أخرى مثل:
* وقوف رئيس الجمهورية أمام كل اللبنانيين، وكأنه هو من سيختار الرئيس المكلف الجديد، وهو في الحقيقة لا يملك هذ الصلاحية منفرداً.
* تشتد الأزمة إذا ما أدركنا أن أروقة قصر بعبدا، تعد التشكيلة الحكومية وتوجهها للشخصيات السنية حتى تجد الشخصية الراغبة في ترؤس الوزارة. وبذلك، يسلب الرئيس المكلف حقه في التأليف لصالح تلبية “رغبات” بعبدا في التأليف.
بذلك، يكون رئيس الجمهورية قد صادر حق الكتل النيابية في الإختيار وحصر التأليف بشخصيات محددة، كما صادر حق الرئيس المكلف بالتأليف، فيكون بذلك قد خرق الدستور بتجاوزه وتطويق نصي المادة 53 و64 من الدستور.
5. الأسباب التي تعلنها رئاسة الجمهورية في عدم إطلاق الإستشارات والرد عليها
– تسريع عملية التأليف، هذه الحجة هي نفسها التي أوقعت أزمة العام 1975 حيث تمادى الرؤساء، على مدى نصف قرن، في تأليف الحكومات وإقالتها، مستندين إلى نص المادة 53. وبعد تعديلها، أعيد الآن تطويقها. أفلا يجب أن نخشى من تكرار أزمات الماضي وأخذ البلاد إلى أماكن لا يريدها أحد؟!
– إن كانت الرئاسة الأولى لا تأمن جانب الأكثرية النيابية لأنها سوف تسمي تلك الأكثرية من تريد. الجواب على ذلك، فلتقصر ولاية مجلس النواب ولتجرى إنتخابات نيابية مبكرة، والتي قد تكون نتائجها في صالح الرئاسة الأولى. لكن هذا الأمر يبقى حلاً مرحلياً.
الطرح هنا إذا كانت الرئاسة الأولى، لتواجه الأزمة، تقوم بعملية التأليف قبل التكليف، فهل الحكومات ترحل بدون سبب أم هنالك دائماً أزمة تشكل سبباً وجيهاً لرحيلها؟ هذا ما أشارت إليه المادة 69 من الدستور، حيث عددت حالات إعتبار الحكومة مستقيلة. فإذا ما درست كل حالة على حدى، نرى بأن كل حالة تشكل أزمة دستورية ما يفتح الباب أمام الرئاسة الأولى نحو الإستمرار في التأليف قبل التكليف. فإذا أخذنا نص المادة 69 بحرفيته نكون أمام ما يلي:
” تعتبر الحكومة مستقيلة في الحالات التالية :
أـ إذا استقال رئيسها (وحتماً لن يستقيل إلا عند حدوث أزمة)
ب – إذا فقدت أكثر من ثلث أعضائها المحدد في مرسوم تشكيلها (وما الإستقالات إلا لأزمة تمر بها البلاد)
ج – وفاة رئيسها (وقد تكون الوفاة مفاجئة أو طبيعية أو لنيله شرف الشهادة، على غرار الرئيس رشيد كرامة)
د ـ عند بدء ولاية رئيس الجمهورية (فقد يكون الرئيس غريب عن السياسة ويحتاج لمدة حتى يعرف ما تخفيه، على غرار الرئيس أميل لحود)
هـ ـ عند بدء ولاية مجلس النواب (أزمة الرئيس هنا أنه غريب عن الأكثرية الجديدة)
و ـ عند نزع الثقة منها من قبل مجلس النيابي. (وما نزع الثقة إلا عمل جراحي تستأصل فيه السلطة التشريعية الحكومة، فتحيلها إلى حكومة تصريف أعمال، وهذه أزمة أيضاً).”
من هنا نقول، إن رحيل الحكومات بموجب الدستور يشكل أزمة تحتاج إلى حل. فإذا أعلن الرئيس الأول أنه يعالج الأزمة، من خلال التأليف قبل التكليف، أولسنا هنا أمام عودة لنص المادة 53 القديم ومخالفة لنص المادة 64.
في هذه الظروف، حري برئيس الحمهورية، والذي جعله “إتفاق الطائف” حكماً بين السلطات، أن يترفع عن أي عمل يقوض موقعه كحكم، وأن يبقى كما عرفته المادة 49 “رمز وحدة الوطن يسهر على احترام الدستور.”
*باحث قانوني – لبنان
مصدر الصور: صوت المدى – موقع النشرة.
موضوع ذا صلة: أثر النصوص القانونية في بناء المواطنية (1/2)