د. آصف ملحم*

يثير تشابه أحداث التاريخ إهتمام المؤرخين والباحثين في العلوم الإجتماعية على حد سواء؛ إذ يبدو وضوحاً أن التاريخ هو خط متصل لا إنقطاع فيه، كما أن أحداثه في لحظة معينة لا بد وأن تكون مرتبطة سببياً بجميع الأحداث السابقة. ومنعاً للإنزلاق في الأوهام والتخيلات اللا واقعية، فإننا سنحاول تجميع أكبر عدد من الوقائع والحقائق بغية إيجاد صلات الوصل بينها، وبناء النتائج على الأسباب وليس إختراع أسباب لنتائج غير مدروسة بعناية.

سننطلق من حدث ماضٍ قد يبدو ثانوياً، وهو زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى أوكرانيا، في أغسطس/آب 2019، بعد انقطاع لأكثر من 20 عاماً؛ والحقيقة أنه لا يمكن النظر إليها على أنها زيارة عادية تهدف فقط إلى تمتين العلاقات بين البلدين، بل إنها تشكل مفصلاً تاريخياً خطيراً في تاريخ أوكرانيا والعالم، والقرائن على ذلك كثيرة! فإسرائيل لم تعترف حتى هذه اللحظة بحق روسيا في ضم شبه جزيرة القرم، لا بل إن “الوقاحة” وصلت بمستشار نتنياهو لملف الهجرة من جمهوريات الإتحاد السوفيتي السابق، آرييل بولشتاين، إلى اتهام روسيا بإحتلال القرم، معتبراً أن هذا مبرراً كافياً لإسرائيل لضم الجولان السوري، ومقترحاً فتح باب المفاوضات والمقايضات مع الدول الكبرى بهدف الإعتراف بالسيادة الإسرائيلية عليه، في مخالفة صارخة للقوانين والقرارات الدولية.

مثل هذه التصريحات ومنهجية التفكير المناقضة لفلسفة القانون ذاته توحي بأننا أمام قوم أو عصابة أو مقاتل مأجور وضع نفسه في خدمة الغير، وهو مستعد لأن يحارب في أية بقعة من العالم بشرط توفير الغطاء السياسي له. وكيف لا وإسرائيل نفسها نشأت بقرار من لجنة مؤلفة من أحد عشر عضواً، ولم يؤخذ فيها رأي الشعبين الفلسطيني واليهودي أصلاً في قرار التقسيم هذا. لذلك، نرى أن إسرائيل لا تحترم القوانين والمواثيق الدولية، كما أنها دولة بلا دستور ولا حدود رسمية، رغم التبجح المستمر بديمقراطيتها ومدنيتها. أما الأساطير التي اجترها ويجترها دعاة الصهيونية حول “أرض الميعاد”، فالغاية الحقيقية منها هي دغدغة المشاعر الدينية للشعب اليهودي بغية دفعه للإنخراط في مشاريعهم المشبوهة، خاصة بعد تعرض اليهود إلى سلسلة من الإبادات الجماعية والإضطهاد على يد النازية. فهؤلاء الصهاينة ليسوا سوى أداة رخيصة بيد تجَّار الحروب في الغرب، ينفذون مخططاتهم مستغلين آلام وعواطف الشعب اليهودي.

على هذه الخلفية وإنطلاقاً من هذه المقدمات الواضحة للجميع، من حق القارئ الكريم أن يطرح الأسئلة التالية: ما علاقة أوكرانيا بكل ذلك؟ وأين مكمن الخطورة على كييف في زيارة نتنياهو؟

في الواقع، تتضح الإجابة على هذا الأسئلة في العديد من الأحداث اللاحقة والسابقة لزيارة نتنياهو؛ وأبرزها وأهمها هي مبادرة حزب الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، حول إزالة الحظر المفروض على بيع الأراضي الزراعية بما في ذلك بيع الأراضي للأجانب. إضافة إلى ذلك، دعا الرئيس الأوكراني رجال الأعمال من الولايات المتحدة للاشتراك في عمليات الخصصة في البلاد، وطلب من البرلمان الأوكراني – الرادا إعتماد مشروع القانون اللازم حول خلق سوق للأراضي الزراعية وفقاً لمتطلبات كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

في الحقيقة، ينحدر زيلينسكي نفسه من أصول يهودية، وحملته الإنتخابية كانت مدعومة من إسرائيل نفسها عن طريق بعض رجال الأعمال اليهود في إسرائيل وأوكرانيا. فضلاً عن ذلك، تؤكد العديد من المصادر الصحفية أن الكنيست الإسرائيلي خصص مبلغاً وقدره 84 مليار دولار لشراء الأراضي الأوكرانية.

استناداً إلى ما سبق، يبدو جلياً أننا أمام مشروع طويل الأمد يقوده بعض المتحمسين اليهود، كالمشروع الصهيوني في فلسطين، سيبدأ بشراء الأراضي الأوكرانية، خاصة في المحافظات الجنوبية (أوديسا، نيكولاييف، خيرسون، دنيبروبيتروفسك) حيث تتركز الجالية اليهودية بشكل أساسي، وسينتهي بإقامة “كيان صهيوني جديد”، سيكون مصدراً لعدم الإستقرار في حوض البحر الأسود كله.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن تعداد أفراد الجالية اليهودية في أوكرانيا يصل إلى حوالي نصف مليون نسمة، ومعظمهم ينضوي في منظمات وجمعيات أهلية وخيرية فاعلة ومؤثرة على الساحة الأوكرانية؛ وبالتالي، فإن قدرتهم على التأثير في الرأي العام تتجاوز عددهم بأضعاف. علاوة على ذلك، تحظى هذه المنظمات والجمعيات والمؤسسات بدعم كبير من منظمات يهودية عالمية ومن رجال أعمال كبار على امتداد العالم كله. لذلك، إن عملية شراء الأراضي، من قبل يهود أوكرانيا، لا تبدو معقدة خاصة بعد تدهور الوضع الإقتصادي في هذا البلد الفقير أصلاً.

ختاماً، بالرغم من أن التاريخ لا يمكن أن يعود إلى الوراء أو يتكرر بأي حال من الأحوال، إلا أن الثابت الوحيد في حركة التاريخ هو الإنسان؛ فأطماعه وطموحاته ورغباته وحاجاته وسلوكه بقيت نفسها ولم يتغير سوى الأدوات اللازمة لتحقيق هذه الأطماع والرغبات. فلا عجب، والحال هذه، أن يجد الشعب الأوكراني نفسه، بعد فترة من الزمن، أمام قضية مشابهة للقضية الفلسطينية في بدايات القرن العشرين، وأمام ظلم وحيف تاريخيين كبيرين كالظلم الذي حاق بالشعب الفلسطيني.

*كاتب وباحث سياسي سوري

مصدر الصور: روسيا اليوم – آرابيان بزنس

موضوع ذا صلة: زيلينسكي والمهام المستحيلة