شارك الخبر

الكاتب والمفكر ميشيل حنا الحاج*

حادثة الهجوم على المسجد في قرية الروضة – بئر العبد، وما حصدته من ضحايا بلغت 305 قتيلا، أثارت الكثير من التساؤلات حول مستقبل الأمن في صحراء سيناء الشاسعة، بل وفي المدن المصرية أيضاً. فالهجوم هذه المرة لم يستهدف كنائس يعتبرها الارهابيون مقراً لمن يكفرونهم، بل مسجداً سنياً يرتاده مجموعة من المدنيين المنتمين لطائفة السنة من المصلين.

وبرر الهجوم بأن أولئك يمارسون طقوساً صوفية لا تقرها الدولة الاسلامية، كي لا نقول لا يقرها الوهابيون. ويرجح البعض أن أسباب الهجوم الحقيقية لم تكن مجرد الشعائر الصوفية، بل كون مرتادي الجامع من عشيرة السوالكة المتعاونين مع رجال الأمن المصريين في مسعاهم للحصول على المعلومات المتعلقة بنشاط الارهابيين. فكان ذاك الهجوم هو قيام المهاجمين المرجح كونهم من الدواعش (رغم عدم صدور بيان عنهم يتبنى ذاك الهجوم) بمعاقبة هؤلاء المصلين على تعاونهم مع رجال الأمن المتواجدين في سيناء، وخصوصاً في منطقة العريش والشيخ زويد ورفح.

وكان أحد المحللين السياسين والدارسين للوضع في سيناء، قد ذكر خلال لقاء أجرته معه قناة سي بي سي المصرية وادارته الأستاذة لميس الحديدي، أن الارهابيين يقيمون بين أبناء العشائر في المدن السيناوية السابق ذكرها، وأن السكان ورجال القبائل يرغبون بالتعاون مع رجال الأمن المصريين في الكشف عنهم. ولكن عندما يقوم أحدهم بالابلاغ عن الاشتباه بأحدهم كونه ارهابياً أو مرتبطاً بالارهابيين، يقوم الارهابيون بإغتياله في اليوم التالي. ولعل حادثة الهجوم على مسجد الروضة في بئر العبد، من أهم اهدافه ارهاب لاسكات الأفواه المتعاونة مع رجال الأمن المصريين.

ولا يستطيع أحد ان تتفهم الأسباب الكامنة وراء نجاح الارهابيين في نشاطهم المتزايد يوماً بعد آخر، سواء في المدن المصرية عندما يهاجمون مقرات للشرطة ورجال الأمن، بل والكنائس في الاسكندرية وفي القاهرة، أو هجماتهم الأكثر نشاطاً في صحراء سيناء ذاتها، سواء بمهاجمة نقاط التفتيش التي يقيمها الجيش أو رجال الأمن في تلك الصحراء الواسعة، أو بمهاجمة المدن السيناوية التي يقيم فيها الكثير من المدنيين.

ويرجح البعض أن نجاح الارهابيين في التحرك بحرية في تلك المنطقة، مرده اهمال الدولة لعملية الانماء والتطوير في المنطقة الصحراوية الشاسعة. وقد يكون في ذلك بعض الصحة، فهناك اهمال واضح من قِبل الدولة في القيام بعمليات تنمية وتطوير تلك الصحراء المهملة نوعاً ما. ومع ذلك، لا بد من التذكير بأن اهمال تطوير سيناء، كان سائداً منذ أيام الرئيس انو السادات وبعده الرئيس حسني مبارك. ولكن رغم ذلك الاهمال على مدى اربعين عاماً تقريباً، لم تنشط الحركات الارهابية في تلك المنطقة في عهد الرئيسين السابق ذكرهما.

وهذا يرجح وجود أسباب أخرى وراء هذا التنامي المفاجىء للحركات الارهابية في صحراء سيناء، بدءاً بظهور “أنصار بيت المقدس”، ولاحقا بظهور تنظيمي “حسم” و”لواء الثورة”، الذان خرجا من براعم  حركة الاخوان المسلمين في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي. وظهر بعدهما تنظيم “ولاية سيناء” الذي انشق عنه تنظيم “جند الاسلام” مكفراً مجموعة “ولاية سيناء”. ويرجح أن أحدهما ينتمي للدولة الاسلامية، وآخر لتنظيم القاعدة دون تحديد هوية اي منهما بشكل واضح ومؤكد.

ولكن الصحفي محسن عوض الله أجرى لقاء مع طفل تواجد في المسجد لحظة الهجوم، وقد ذكر الصحفي أن الطفل الجريح وصف له المهاجمين بأن بعضم كان ضخم الجثة، وبعضهم كان من غير المصريين ويتحدثون بلهجة غير مصرية، كما كانوا يرتدون قمصاناً واقية من الرصاص. ولم يستطع التحقيق الرسمي أو الاعلامي ان يحدد بعد هوية الاغراب الذين ربما شاركوا بذاك الهجوم الدامي.

ولا يعلم أحد من هو المسؤول الحقيقي عن بلوغ  سيناء ما وصلت اليه من فوضى التسلح والارهاب. فهل كان المسؤول عن ذلك هو الرئيس المعزول محمد مرسي الذي سمح بتدفق السلاح على سيناء، كما ساعد على تشكيل تنظيمي “حسم” و”لواء الثورة” المنتميان للاخوان المسلمين، بإعتبارهما الجيش السري للدكتور محمد مرسي، يستند اليه في حماية نظامه، خصوصاً وأنه لم يكن واثقاً من ولاء القوات المسلحة له؟ وفي خضم سماحه لتدفق السلاح من ليبيا على سيناء وعلى حماس (والتي ضبطته القوات المسلحة واعترضت شحنة أو شحنتين منها، لكن شحنات كثيرة نجحت في العبور والوصول الى سيناء)، نشأ تنظيم “ولاية سيناء” غير المنتمي للاخوان المسلمين (ويجري التكهن بانتمائه لتنظيم القاعدة)، وانشق عنه تنظيم جند الاسلام المرجح انتماؤه للدولة الاسلامية الداعشية التي انشقت سابقاً عن تنظيم القاعدة. ومع عدم انكار أو تجاهل دور محمد مرسي في هذا التطور، لا بد من عدم تجاهل اتفاقية كامب ديفيد ودورها، بل وتأثيرها المباشر أو غير المباشر فيما حدث.

فاتفاقية كامب ديفيد، التي وقعها الرئيس الراحل انور السادات، قصمت سيناء الى ثلاث مناطق وذلك بهدف ضمان أمن اسرائيل. فالمنطقة “أ” المحاذية لقناة السويس، سمح فيها بتواجد القوات المصرية بالقدر الذي تحتاجه ضرورة حماية الملاحة في قناة سويس، وهي حماية تحتاجها مصر المستفيدة من مداخيل رسوم الملاحة في القناة، ولكن تحتاجها أيضا الدول الغربية صاحبة المصلحة الاقتصادية والنفطية في ضمان حرية وأمن الملاحة في تلك القناة. أما المنطقة “ب”، فهي المنطقة الوسطى. وقد سمح فيها لمصر بتواجد قوات امن وشرطة مع عدد محدود من القوات المسلحة. أما المنطقة الثالثة وهي المنطقة “ج” المحاذية للحدود الاسرائيلية، فتلك منطقة اشترطت اسرائيل أن تبقى منزوعة السلاح حفاظاً على أمنها (الذي اعتبرته بطبيعة الحال أمن الدولة المنتصرة كما اعتبرت اسرائيل نفسها، رغم الانتصار الظاهر أو المفترض لمصر باعتبارها عبرت وكسرت خط بارليف الاسرائيلي وتحصيناته الكثيفة والمنيعة).

ولكن الحفاظ على أمن اسرائيل تسبب في نهاية المطاف، بتحول المنطقة “ج”  الى مرتع  لتواجد وتنامي الارهابيين وخصوصاً في جبل الحلال الذي بلغ ارتفاعه 1700 متر، مما شكل موقعاً استراتيجياً ومنيعاً لهم، خصوصاً وقد تواجدت فيه كهوف وحفرت لاحقا بعض الانفاق داخله، كما كان من المتعذر على سلاح الجو المصري قصفه، تنفيذاً لاتفاقية كامب ديفيد التي تحظر التواجد المسلح المصري في منطقة “ج”، وتحليق سلاح الجو المصري في تلك المنطقة، فيه خرق لتلك الاتفاقية الغادرة.

وازاء تنبه الدولة المصرية، بعد الثورة المصرية الثانية في عام 2013، لمخاطر ذاك الوضع  وما افرزه من تنامي وجود الارهابيين في صحراء سيناء رغم عزل الرئيس الاخواني محمد مرسي، فقد أجرت الحكومة مفاوضات مع اسرائيل تم في نتيجتها الاتفاق على السماح للقوات المصرية بالتواجد بكثافة أكبر في منطقة “ب”، اضافة الى السماح الآن بتواجدها أيضاً في منطقة “ج” المجردة أصلاً من السلاح حسب اتفاقية كامب ديفيد. وكان سبب نجاح الاتفاق، هو مخاوف اسرائيلية أيضاً من تنامي تواجد الارهابيين في سيناء، خصوصاً وأن صاروخين قد اطلقا منها في مرحلة ما باتجاه اسرائيل.

ولكن هذه المفاوضات التي تمت بسرية وبعيدة عن الأضواء، استغرقت قرابة العامين ولم يعرف بعد مضمونها التفصيلي، وهل تسمح ببقاء القوات المصرية بشكل دائم أم لفترة محدودة تقتضيها ملاحقة الارهابيين. ومع ذلك، فإن دخولها مرحلة التنفيذ، ووصول القوات المصرية فعلا الى منطقة “ج”، شرعت القوات المصرية بمهاجمة جبل الحلال الذي آوى فيه العديد من الارهابيين، وتمكنت من طرد المسلحين منه ومن المنطقة “ج” برمتها. لكن أولئك الارهابيين قد لجأوا الى المنطقة “ب”، واندسوا بين اهالي المدن الثلاث في صحراء سيناء. وتدريجياً، بات سكان سيناء هم الحاضنة التي يتستر بها الارهابيون الذين بات عددهم وفيراً الآن.

فهذه الاتفاقية، كامب دايفد، التي حظرت لسنوات طويلة على القوات المسلحة المصرية التواجد كلياً في منطقة “ج”،مع فرض شرط التواجد المحدود في منطقة “ب”، هي التي اتاحت للارهاب والارهابيين بالتنامي في سيناء، ومكنتهم بأن يتحركوا ويتدربوا بحرية تامة، الى أن تحولوا الى قوة ضاربة مؤذية للشعب المصري حالياً، وللأمة العربية كلها لاحقاً. صحيح أن اسرائيل قد عادت واذنت لاحقاً للقوات المصرية بالتواجد في منطقتي “ج” و”ب”، لكن ذلك قد جاء متأخراً بعد حصول الضرر الكبير بتنامي تلك القوة الشريرة رغم النجاح النسبي، لاحقاً، بتطهير جبل الحلال منهم الواقع في منطقة “ج”.

فالقول بأن تراخي الدولة المصرية في السعي لتنمية سيناء اقتصادياً، وعدم العناية بها أكثر اجتماعياً بإنشاء مزيد من المدارس والمستشفيات مثلاً، وتنشيط حركة صناعية فيها وغير ذلك من عمليات التنمية والتطوير…القول بأن هذا التراخي هو المسؤول عن تنامي قوة الارهابيين عدداً وعدة، قول رغم  صحته النسبية الى حد ما… ليس صحيحاً أو دقيقاً. فالسبب المباشر والحقيقي لما يحدث الآن في سيناء، هو خطأ مرسي الجوهري، وخطأ اسرائيل في التلكوء بالسماح للقوات المصرية بالتواجد في هذين القطاعين من غزة، بل والخطأ الأساسي في ذلك كله، ارتكبه الرئيس انور السادات بقبوله لهذه القيود التي فُرضت على تحركات القوات المصرية على أراضي دولتها.. الدولة المصرية التي خاضت حرباً انتصرت فيها رغم كونه انتصاراً جزئياً ولم يكن شاملاً.

*مستشار في المركز العربي الأوروبي لمكافحة الإرهاب – برلين.

مصدر الصور: دولتشي فيلي – سبوتنيك


شارك الخبر
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •