تناولت مجلة “فورين أفيرز” الأميركية جانباً مهماً من أخطاء السياسة الخارجية في الشرق الأوسط، التي أدت إلى فشل محاولات واشنطن في إسقاط الحكومات وتغيير الأنظمة في المنطقة طوال 50 عاماً الماضية. فلقد حاولت الولايات المتحدة، حسب ما نقلته المجلة عن عضو مجلس “العلاقات الخارجية الأميركية” فيليب غودون، منذ خمسينات القرن الماضي الإطاحة بحكومات المنطقة مرة في كل عشر سنوات، حيث فعلت ذلك في إيران وأفغانستان، مرتين، في العراق ومصر وليبيا وسوريا. وإستعرض الدبلوماسي الأميركي الأساليب التي إعتمدتها الإدارة الأميركية، وأبرزها دعم الإنقلابات والغزو العسكري وصولاً إلى الإحتلال المباشر، وكيف إعتمدت على توظيف الدبلوماسية والعقوبات والضغوط بواسطة التهديد. لكن المتحدث نفسه، يخلص إلى أن نتيجة هذه المحاولات جميعها كان الفشل.
أيضاً، تساءلت المجلة عن أسباب إستمرار فشل الولايات المتحدة، طوال هذه المراحل، بتقدير التهديد عليها وإعلانها الإنتصار مبكراً، في حين كانت الأعباء المادية تثقل كاهلها عند محاولة فاشلة، بإستثناء سوريا التي لم تستطع تغيير نظام حكمها إلى اليوم، بينما إعتمدت على اللاعبين المحليين، الذين لا قوة لهم، ومعارضي المنفى، عديمي التأثير. غير أن كل هذا الفشل، برأي الباحث، لم يُقنع صناع القرار فيها بعدم قدرتهم على النجاح.
أبرز الأمثلة الفشل الأميركي هو غزو العراق العام 2003، الذي، ودون قصد، زاد من قوة إيران إقليمياً بإنهائه حكم الرئيس الراحل، صدام حسين. في المقابل، أدى الغزو إلى تغذية الجماعات “الجهادية”، كما برر ذلك، لمن وصفهم الخبير بـ “الديكتاتوريين” في العالم، بالسعي للحصول على السلاح النووي ما طرح تساؤلات حول القدرات الأميركية. أما في أفغانستان وبعد تنصيب حامد كرزاي رئيساً للبلاد العام 2001، بقيت حركة “طالبان”، التي أطيح بها من الحكم عسكرياً، تقاوم من أجل إخراج القوات الأميركية من البلاد.
من هنا، تعول التدخلات الأميركية، والتي إلى جانب الغزو المسلح وتدبير الانقلابات، على حلفاء محليين وإقليميين من القادة السياسيين، غير أن هؤلاء، حسب المجلة، ينقلبون في مواقفهم التي تحتكم دائماً إلى المصالح المحلية. أبرز مثال على ذلك هو باكستان التي إتخذت مواقف معادية لأميركا بإعاقتها جهود واشنطن لتحقيق “الاستقرار” في أفغانستان طيلة عقود.
كذلك، لم تقم سياسات الولايات المتحدة على الإستعمار المباشر والتام كما فعلت قوى تقليدية كبريطانيا وفرنسا وإسبانيا وروسيا القيصرية، ولكنها إنتهجت سياسة الهيمنة على القرار بإختلاق أسباب الحروب والإنقلابات والتجويع بواسطة العقوبات الإقتصادية، ودعم الديكتاتورية في البلاد المستهدفة، كما كانت صناعة الفقر والتخلف والظلم أسباباً إضافية كافية لإندلاع ثورات ضد الأنظمة الحاكمة، في وقت كان دعم أميركا، وحلفائها الغربيين والإقليميين، ظاهراً فيها، إذ خلَّف تدخل إدارتها، في البلدان المستهدفة بعد إفتعالها للحروب، بروز النعرات الطائفية والعرقية فتحولت إلى تربة خصبة للصراع السياسي، ما جعلها رهينة حالة إنهزامية تفتقد القدرة على التطور أو قابلية السير في إتجاه تشييد الدولة الوطنية التي إفتقدت لها جميع الأقطار العربية، بإستثناء النموذج السوري الذي ما زال صامداً إلى اليوم أمام مشاريع الرجعية التي يصدرها الغرب منذ مطلع إستقلال هذه البلدان، أو منذ نشوء إسرائيل بالتحديد.
يمكن القول بأن المجلة الأميركية جانبت الحقيقة حول الفشل الأميركي في إسقاط أنظمة الحكم والحكومات في الشرق الأوسط، وإلا ماذا نسمي إزاحة صدام حسين في العراق الذي تم بإستعمال القوة العسكرية المباشرة؟ ودعم مباشر للإنقلاب على رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق عام 1953 في عهد الشاه محمد بهلوي الحليف القوي للغرب؟ وإلغاء حكم طالبان في أفغانستان بعد غزو عسكري وتنصيب حامد كرزاي رئيسا لهذا البلد؟
هذا أن الفشل الأميركي تمثل، على الدوام، بالمراحل التي كانت تلي سقوط الأنظمة والحكومات، إذ سرعان ما كانت تفقد قدرتها على ضبط الأوضاع والسيطرة على هذه البلدان التي حولتها إلى “دول فاشلة” بعدما ألغت المؤسسات الدستورية فيها، داعمة بالتوازي القيادات القبلية الموالية لها أو الزعامات الطائفية والعرقية. وبدل تحويلها إلى مناطق نفوذ غربية، يتفاجأ المتتبعون ببروز دور القوى الإقليمية في هذه الدول، كالنموذج العراقي الذي تحول من بلد معادي لإيران إلى جزء من المنظومة السياسية الشيعية الموالية لطهران، كما نرى ليبيا، التي سعت أميركا طيلة أربعة عقود إلى الإطاحة بحكم معمر القذافي وفرضت سياسة الحصار والعقوبات والمحاكمات الدولية عليها، تتحول من قوة إشتراكية مؤثرة، ترسم السياسات الأفريقية، إلى دولة شبه إخوانية في الطريق لرضوخ التام للقرارات التركية.
فشل واشنطن في إقرار سياساتها في الشرق الأوسط يرجع إلى سببين أساسيين؛ السبب الأول، يتعلق بغياب الثقة الكاملة في النظام الأميركي سواء لدى شعوب المنطقة أو القيادات السياسية أو حتى الأنظمة بما فيها الحليفة، حيث إرتسمت على مدى عقود من الوعود الكاذبة والخذلان والإبتزاز السياسي والإقتصادي، صورة سيئة عن النظام الأميركي، إضافة إلى السمعة المرعبة التي تشكلت تجاه جيشها الذي ينظر إليه كـ “جيش إرهابي” رغم الملايين من الدولارات التي تصرفها الحكومة الأميركية لتحسين صورته على شاشات هوليود، ويدخل في ذلك أيضاً التكوين العقائدي حيث يلعب الإنتماء المذهبي دوراً حاسماً في تحديد بوصلة القيادات الإقليمية، من جهة، والتقارب الثقافي والقيمي، من جهة ثانية، وهو ما نلمسه في تقارب شعوب المنطقة وفاعليها السياسيين حتى مع النظام الروسي أو الصيني.
أما السبب الثاني، فيتعلق بالوجود الإسرائيلي بالمنطقة، الذي وظفته أميركا لصالح إطالة الصراع وزعزعة قيام أي إستقرار حقيقي. فمبرر كاذب يسمى “أمن إسرائيل” الذي ضللت به حتى الشعب الإسرائيلي، إستخدمت الإدارات المتعاقبة في الولايات المتحدة، أو مهندسو التوجهات الدولية في البيت الأبيض، ورقة التدخل المباشر وغير المباشر التي يمنحها المسؤولية للقيام بما تراه مناسباً لحماية الكيان الترابي الوحيد لليهود في العالم، وذلك لإطالة أمد الأزمة في الشرق الأوسط ونسف كل محاولات لقيام شرق أوسط متضامن ومتقدم ومستقل يهيئ لتشكل دولة وطنية في كل قُطر من أقطاره من خلال رؤية وإرادة داخلية تستمد مشروعيتها من الثقافة الأصيلة والقيم والثوابت المتوافق عليها شعبياً، في إستقلال تام وسيادة مطلقة.
*صحفي وكاتب عربي – المغرب.
مصدر الصور: بروكينغز – قاسيون.
موضوع ذا صلة: الولايات المتحدة وسياسة “المهادنة بالإستفزاز”