د. علوان أمين الدين*
جاء إتفاق وقف إطلاق النار بين أرمينيا وأذربيجان، برعاية روسية وموافقة تركية، ليسلب يريفان إنتصاراتها التي حققتها في تسعينات القرن الماضي، حيث تمثلت أبرز بنوده بالتخلي عن القرى التي إحتلتها أرمينيا في تلك الحقبة، بالإضافة إلى إستحداث ممرين؛ الممر الأول، بين مدينتي ستيبانكرت ولاتشين وهو ما سمي بـ “ممر لاتشين”، بعيداً عن قرية شوشا ذات الأهمية الإستراتيجية والمعنوية، ضمن إقليم آرتساخ. والممر الثاني، يربط بين شطري أذربيجان ويسمى بممر “زنجيلان – ناخيتشيفان”، بالقرب من الحدود الإيرانية، ضمن الإقليم الأرمني.
أيضاً، تم الإتفاق على أن تقوم روسيا بتسيير دوريات على حدود إقليم ناغونو كاراباخ، على أن تبقى القوات لمدة 5 سنوات قد تكون قابلة للتجديد.
نصر أذري
من الواضح تماماً أن أذربيجان إنتصرت في هذه الجولة من الحرب وبشكل كاسح، بدليل خسارة أرمينيا للكثير من المواقع والأراضي والجنود، وقبولها بالتنازل عن الأراضي التي سبق وإحتلتها، كما سبق وذكرنا، في حين قام المواطنين الأرمن بحرق منارلهم قبل تسليمها.
ترافق ذلك مع عدة إجراءات سياسية تمثلت في تقديم إستقالة رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، وإقالة وزير الدفاع.
علاقة سلبية
منذ وصوله إلى الحكم عبر “ثورة مخملية”، عادى رئيس الوزراء الأرميني روسيا بشكل كبير، أو بمعنى أدق كانت علاقته سلبية إذ تجنب التعاون معها، وحيّد الأرمن الموالين لها، كما أوقف التنسيق معها في كثير من المجالات، خاصة المسائل الأمنية. للخروج من هذا المأزق، بدأ الحديث عن تولي المقربين من روسيا للعديد من المهام القيادية والحساسة في البلاد.
أيضاً، كان الأهم من كل ذلك سياسته القائمة على مبدأ “التوجه غرباً”، التي تمانعها روسيا ضمنياً وبشكل كبير، لا سيما بالشكل والطريقة التي كان يريدها باشينيان، فهي لا تريد إستعادة سيناريو جورجيا مجدداً. ناهيك عن كل ذلك، الأخطاء العديدة التي إرتكبها في السياسة الداخلية، أبرزها ما تعلق بالتعيينات الأمنية.
أين تركيا؟
من المؤكد أن الدخول التركي سببه الأطماع بالدرجة الأولى، ومن ثم “الحقد الدفين” على الأرمن، وهو موضوع تاريخي. بالإضافة إلى ذلك، هناك مطمع تركي يتمثل بإقامة قاعدة عسكرية بحرية على بحر قزوين، بحسب ما كتبته بعض الأقلام. لكن بإعتقادي، إن هذا الموضوع قد إنتهى مع توقيع إتفاقية “أكتاو”، العام 2018، والتي كان من أهم بنودها عدم إقامة قواعد عسكرية لغير الدول المشرفة على بحر قزوين، حيث سبق وأن قُطعت الطريق على مشروع كازاخي تمثل بفكرة إقامة قاعدة أمريكية على هذا البحر المغلق وتم إفشاله، روسياً وإيرانياً.
ومن الأهداف التي تسعى إليها أنقرة مراقبة مسار أنابيب النفط الواصلة بين بحر قزوين وأوروبا. أيضاً، لا يمكن فصل ما حدث عن مسألة إعادة إحياء “الطورانية الجديدة” المتمثلة بـ “المجلس التركي”، الذي أُنشئ في 3 أكتوبر/تشرين الأول العام 2009 ويضم عدداً من الدول مثل قيرغيزستان وكازاخستان وأذربيجان، أي تلك الناطقة باللغة التركية. هذا المجلس، تصل تأثيراته إلى الصين وتحديداً إلى إقليم شينجيانغ، ما يعني التمدد التركي في وسط آسيا مجدداً.
في هذا الشأن، لا يمكن إغفال أمر مهم وهو أن تركيا تعتبر العضو الإسلامي الوحيد في حلف شمال الأطلسي – الناتو، والأكثر فعالية في هذه البقعة الجغرافية تحديداً؛ بالتالي، لا يمكن فصل دورها بمسألة الإحتواء الأمريكي للصين ضمن الممرات البرية بعد تطويق، أو السيطرة على، طرق التجارة البحرية. من خلال ذلك، هي تقوم بـ “التمدد شرقاً على طريقتها مستفيدة من هذا الصراع القائم بين العملاقين.
الدور الروسي
ما هو معروف تماماً أن روسيا تدعم أرمينيا، وفي المقابل لديها مصالح كبيرة مع أذربيجان خاصة وأن البلدين كانا ضمن الجمهوريات السوفيتية السابقة. فموسكو ترتبط مع باكو بصفقات تجارية وعقود تسليح وأمور أخرى كثيرة، إضافة إلى موضوع بحر قزوين.
من هنا، حاولت روسيا تجنب التدخل لصالح أرمينيا قدر الإمكان كي تلقن باشينيان درساً مفاده “كيف تكون الطاعة”، وأن العبث بـ “الحديقة الخلفية” لموسكو له عواقب ونتائج وخيمة، حيث يجب أن تجري الأمور بحسب “الهواء” الروسي لا “الشراع” الأرمني.
أما باشينيان، فلقد خانته توقعاته إذ لم “تهرول” روسيا إلى نجدته، على غرار ما كان يظن، بل تركته كي يفشل هو، كرئيس حكومة، وتنقذ هي أرمينيا، الدولة، خصوصاً مع ورود معلومات عن أن باكو كانت تحضر لهجوم عسكري كبير على يريفان أوقفته موسكو في اللحظة الأخيرة.
من هنا، لن تقبل موسكو بأي نزاع في تلك المنطقة الإستراتيجية، خصوصاً أنها تعتبر “خاصرتها الرخوة” لا سيما فيما يتعلق بالإثنيات وتاريخ المنطقة ككل. فلقد إعتمدت روسيا على حل النزاعات القائمة، حديثاً وعموماً، بالطرق القانونية المُثلى، كسياسات تخفيف التصعيد ودعوة الأطراف إلى ضبط النفس. بمعنى آخر، تحاول موسكو إيجاد أساليب أقل تكلفة عليها، وبذات الوقت تحقق من خلالها النتائج التي تصب في مصلحتها.
الموقف الإيراني
في موقف لافت، خرج مستشار المرشد الإيراني، علي أكبر ولايتي، ليقول أن أرمينيا تحتل أراضٍ أذربيجانية وعليها التخلي عنها، لكن بعيداً عن الأساليب العسكرية. تاريخياً ومن المتعارف عليه أن طهران كانت تدعم يريفان بوجه باكو، لكن بطريقة هادئة وغير علنية.
المهم هنا أن هذا التصريح كان لافتاً، حيث توجد العديد من المعطيات خلفه؛ أولها إقتصادي يتمثل في ممر “شمال – جنوب” لنقل البضائع، الواصل بين ميناء جابهار الإيراني وبطرسبورغ الروسي مروراً بباكو الأذرية، وهو الذي تعتمد عليه طهران للإفلات من العقوبات الأمريكية وإدخال عملة صعبة إلى البلاد للتخفيف من أزماتها الإقتصادية.
ثانيها إستثماري إذ تريد طهران الحفاظ على الهدوء في منطقة بحر قزوين لإستثمارها مستقبلاً وذلك من خلال تحديد الخلافات، إن لم يكن منعها، بين الدول المشتركة في الحوض خصوصاً وأن الإتفاقيات التي تقسم الثروات في بحر قزوين لا تزال قيد الإستكمال.
ثالثها أمني هدفه قطع الطريق على إسرائيل. صحيح أن طهران تعلم التغلغل الإسرائيلي في باكو، لكن ما أقلقها أكثر هو العلاقات الدبلوماسية بين تل أبيب ويريفان، مع العلم بأن هناك خلاف بين الطرفين الأخيرين على مسألة “الإبادة الأرمنية”. فسحب السفير الأرمني من إسرائيل بسبب دعم الأخيرة لأذربيجان لن يغير من الموقف الإيراني بالنسبة إلى هذا المعطى.
الموقف الصيني
يعلم الجميع بعملية تطويق الولايات المتحدة للصين برياً من خلال ما يعرف بـ “حزام الأناكوندا”، أو الأفعى العاصرة. فالمطلوب من هذه السياسة هو إقفال الممرات وخطوط التجارة الصينية، ومنع تفوق بكين وتمددها. بالنسبة للبحر، قد يستطيع الأسطول الأمريكي الضخم الهيمنة على المسطحات المائية وطرق التجارة الدولية، والتأثير بشكل كبير على تجارة بكين خصوصاً وأنها لا تملك بعد أسطولاً بحرياً تستطيع من خلاله حماية طرق تجارتها. من هنا، جاء إطلاق بكين مشروع “الحزام والطريق”، في سبتمبر/أيلول العام 2013، لإيجاد منافذ تجارة برية وعدم الإعتماد، قدر الإمكان ولو مرحلياً، على الطرق البحرية بالكامل.
أيضاً، تعلم الصين جيداً الدور التركي في إقليم شينجيانغ، الذي يعد أكبر إقليم في البلاد من حيث المساحة ويحوي على ما يقارب الـ 22 مليون نسمة من الإيغور. فأنقرة الأطلسية تتلاقى مع تصريحات وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، فيما يخص التركيز على مسألة حقوق الإيغور لا سيما في الفترة الأخيرة.
ختاماً، يبدو أن الحرب في ناغونو كاراباخ ستكون مقدمة للدخول الغربي إلى قلب القارة الآسيوية بعد أن تعذر ذلك من بوابة أفغانستان، إذ يبدو بأن الحروب الكبرى لم تعد موجودة في أجندات الدول العظمى، لا سيما الولايات المتحدة، لتكلفتها وصعوبة حسمها على غرار ما حدث في الدوحة من إتفاق بين حركة “طالبان” وواشنطن، والتي نصت على تنظيم التواجد الأمريكي العسكري هناك.
*مؤسس ومدير مركز سيتا – لبنان
مصدر الصور: سبوتنيك – بوست 180.
موضوع ذا صلة: من المستفيد من الأزمة الأرمنية – الأذرية؟